النظام السياسي الإسلامي والأنظمة الديمقراطية والثيوقراطية

النظام السياسي الإسلامي والأنظمة الديمقراطية والثيوقراطية

 

 

النظام السياسي الإسلامي والأنظمة الديمقراطية والثيوقراطية

دراسة مقارنة في المباني النظرية وآليات التطبيق

 

علي المؤمن ـ السودان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مدخل:

قبل الدخول إلى صلب الموضوع، لابد من التوقف عند مقدمتين مهمتين:

الأولى: ان ما نعنيه بالنظام السياسي الإسلامي هنا، هو النظام القائم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولهذا النظام خصوصية تنحصر به، وينفرد فيها عن كل الأنظمة التي حكمت باسم الإسلام منذ نهاية عهد الخلافة الراشدة. وتعود هذه الخصوصية إلى أنه أول تجربة للحكم الإسلامي تعتمد نظرية مدرسة أهل البيت عليهم السلام في الحكومة، وتجديداً في عصر الغيبة، وهي نظرية فقهية متكاملة سبقت قيام هذا النظام، ونبتت جذورها مع إشراقة شمس الإسلام. وفي النتيجة، فإن نظام الجمهورية الإسلامية هي تجربة فريدة على مستوى الفكر السياسي والنظرية السياسية والاجتماعية، وعلى مستوى القانون أيضا ورغم ان هذا النظام استفاد من التجارب البشرية النافعة التي تمثل نتاجات عقلية محايدة في الأطر العامة المشتركة، وتحديدا في مجال الصياغات الفنية والآليات المحضة للنظم السياسية والاجتماعية الأخرى البعيدة عن الأطر الأيديولوجية، إلا أن أشكاله وصيغه وقوانينه لا تعبر عن تجارب بشرية بحتة، لأنه يستند إلى أصلين مقدسين

ـ(330)ـ

ثابتين: القرآن الكريم والسنة الشريفة.

الثانية: ان مصادر دراسة هذا النظام والنظرية التي افرزته، وعلاقته بلك من الديمقراطية والثيوقراطية، والموقف منهما، تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1ـ مؤلفات الإمام الخميني ومحاضراته وخطبه ورسائله، على اعتبار ان هذا النظام هو إفراز لفكر الإمام الخميني ونظريته السياسية الإسلامية.

2ـ دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، باعتباره الصيغة القانونية للنظام السياسي الإسلامي إضافة إلى بعض موضوعات القانون الدستوري في الجمهورية الإسلامية.

3ـ الشروحات الأصيلة على فكر الإمام الخميني وعلى دستور الجمهورية الإسلامية. ونقصد بها شروحات تلامذة الإمام الخميني وقادة الثورة الإسلامية ومفكريها وفي مقدمتهم الإمام الخامنئي، إضافة إلى مشروحات المتخصصين من أساتذة القانون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

واستحضار هاتين المقدمتين، خلال معالجة موضوعات الدراسة، كفيل بإعطائها البعد العلمي المطلوب، واحتفاظها بمسارها الموضوعي، دون ان تتحوّل إلى دراسة إعلامية أو سياسية تحمل أهدافاً خاصة.

تحديد المفاهيم

الوقوف على حقائق المفاهيم والمصطلحات الداخلة في إطار الدراسة من خلال مصادرها الأصلية، سيساعد على تحديد الموضوعات وحصر الأفكار في دائرة التعريفات والحقائق المتفق عليها. وفي مقدمة تلك المفاهيم والمصطلحات: النظام الإسلامي، الديمقراطية، الثيوقراطية والنظام السياسي.

ـ(331)ـ

1ـ النظام الإسلامي:

وهو إطار شامل يجمع في داخله عدة أنظمة فرعية، أبرزها النظام السياسي أو نظام الحكم، والنظام الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، وبذلك فهو التعبير الخارجي عن القانون الإسلامي لتنظيم حياة البشر بكل جوانبها. فالإسلام شرع متكامل ختم الله تعالى به الأديان، لتنظيم حياة الإنسان بصورتها لانهائية التي أرادها لها الله تعالى. يقول الإمام الخميني: «الإسلام يخطط لحياة الإنسان حتى قبل ان يولد، ويعين لـه المسار وهو عضو في العائلة، وفي المجتمع... وهو ينظم العلاقات بين البلدان، والوشائج التي تربط الشعوب بعضها ببعض... ولم يقتصر على الصلاة والدعاء والزيارة، وإنّما هي باب من أبواب أحكام الإسلام، وثمة أبواب أخرى، منها السياسة وإدارة البلاد»(1).

وقد أوضحت المادة الثانية من دستور الجمهورية الإسلامية الأسس التي يقوم عليها النظام الإسلامي بما يلي:

1ـ الإيمان بالله الأحد(لا اله إلا الله) وتفرده بالحاكمية والتشريع...

2ـ الإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساس في بيان القوانين.

3ـ الإيمان بالمعاد...

4ـ الإيمان بعدل الله في الخلق والتشريع.

5ـ الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة، ودروها الأساس في استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام.

6ـ الإيمان بكرامة الإنسان وقيمته الرفيعة، وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام الله»(2).

ثم تقول المادة بأن النظام الإسلامي «يؤمّن القسط والعدالة، والاستقلال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والتلاحم الوطني»(3).

ومن هنا فالنظام الإسلامي يقف في شرعيته على أساس تفرد الله بالحاكمية والتشريع. ومن خلال الوحي الإلهي بيّن الله تعالى للبشر أساليب تنظيم حياتها، وهي

ـ(332)ـ

الأساليب التي تتلخص في مفهوم «النظام الإسلامي». وكان الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم هو واسطة ذلك البيان والبلاغ. أي ان مهمة إقامة النظام الإسلامي وقعت أساساً على عاتق الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم. وحمل المهمة بعده أوصياءه وخلال غيبة الوصي الثاني عشر(على وفق مدرسة أهل البيت) يأخذ المهمة بالنيابة الفقهاء العدول من خلال التعيين النوعي. ويقوم أهل الحل والعقد(الخبراء الذين تنتخبهم الأمة) بالكشف عن أحد هؤلاء الفقهاء العدول ليكون رئيساً للنظام الإسلامي وإماماً للأُمة، أو يتصدى أحد أولئك الفقهاء العدول مباشرة لمهمة إقامة الإسلامي. وهو ما حصل خلال مسيرة الدولة الإسلامية في إيران.

وقد صوتت الأمة في إيران على إقامة النظام الإسلامي بكلياته السابقة. وجاء دستور هذا النظام ملتزماً بكل أحكام الإسلام، ليأخذ موضوع حاكمية الإسلام مساراً عملياً، وليس مجرد تسمية وهو ما عبر عنه الإمام الخميني بقوله: «ليس المقصود أن يكون اسم نظامنا هو النظام الإسلامي، بل المطلوب ان يحكم الإسلام وقانونه في حكومة الإسلام. ويجب ان لا يحكم الأشخاص وفقا لآرائهم الشخصية، فنحن نريد ان تكون أحكام الإسلام هي السائدة في كل مجال وان تكون أحكام الله هي الحاكمة في جميع الصعد»(4).

ويتميز النظام الإسلامي بتوازنه في كل المجالات، ولاسيما في مجال منح الأمة حقوقها، والنظرة للدنيا والآخرة. كما يتميز بكونه نظام القانون وحكومته حكومة القانون، الذي هو فوق الجميع، بمن فيهم رئيس النظام. وهو ما عبرت عنه المادة السابعة بعد المائة من دستور الجمهورية الإسلامية: «يتساوي القائد مع كل أفراد البلاد أمام القانون»(5).

من هنا فالنظام الإسلامي يختلف شكلاً ومضموناً عن الأنظمة السياسية والاجتماعية الأخرى. يقول الإمام الخميني: «الحكومة الإسلامية لا تشبه الأشكال

ـ(333)ـ

الحكومية المعروفة. فليست هي حكومة مطلقة يستبد فيها رئيس الدولة برأيه، عابثاً بأموال الناس ورقابهم... وإنّما هي دستورية، ولكن لا بالمعنى الدستوري المتعارف الذي يتمثل في النظام البرلماني أو المجالس الشعبية، وإنّما هي دستورية بمعنى ان القائمين بالأمر يتقيدون بمجموعة الشروط والقواعد المبيّنة في القرآن والسنة، والتي تتمثل في وجوب مراعاة النظام وتطبيق أحكام الإسلام وقوانينه، ومن هنا كانت الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي. ويكمن الفرق بين الحكومة الإسلامية والحكومات الدستورية الملكية منها والجمهورية منها في ان ممثلي الشعب أو ممثلي الملك هم الذين يُقننون ويشرعون، في حين تنحصر سلطة التشريع بالله عز وجل، وليس لأحد ان يشرع، وليس لأحد أن يحكم بما لم ينزل الله به من سلطان»(5).

2 ـ الديمقراطية:

وهي مفهوم واسع فضفاض، ساهم في إثرائه، عبر عقود طويلة من الزمن، كثير من المفكرين السياسيين، كل حسب نظرته لهذا المفهوم، فجاء إطارا كبيرا يجمع في داخله العديد من التيارات الفكرية، التي تتفق على بعض الخطوط العامة وتختلف في معظم التفاصيل. بيدان الديمقراطية تبلورت بمرور الزمن في الديمقراطيات الحديثة المطبقة بشكل أو بآخر ـ في الغرب، وغرفت بالديمقراطية التقليدية الغربية. ويعود تاريخ الديمقراطية إلى المدن اليونانية القديمة مثل أثينا وإسبارطة، التي تم فيها تطبيق نوع من أنواع الديمقراطية. ومن هنا اشتقت الكلمة من اللغة الإغريقية، إذ إنها تتكون من مقطعين: ديموس(DOMAS) بمعنى الشعب، وكراتوس(KRATOS) بمعنى حكم، فيكون معنى الكلمة «حكم الشعب»(6) أي ان مفهوم الديمقراطية يتسع لكل فكر سياسي يعتمد الشعب مصدراً للسيادة وأساساً للسلطة. ومن أبرز أنواع الديمقراطية:

1ـ الديمقراطية المباشرة: ويقوم فيها الشعب بنفسه ودون واسطة بمهام السلطتين التشريعية والتنفيذية. أي ان الشعب لا ينتخب ممثلية في السلطتين التشريعية والتنفيذية،

ـ(334)ـ

بل يمارسهما بنفسه. وهذا النوع هو الأساس الذي قام عليه مفهوم الديمقراطية بأصوله الإغريقية. ثم بلور صيغته المعاصرة ودعمه المفكر الفرنسي «جان جاك روسو» ولكنه أسس لمفهوم جديد هو «العقد الاجتماعي» الذي تكون الديمقراطية على وفقه بصورة اتفاق وتراضي وعقد بين أفراد الشعب من جهة، وبين أفراد الشعب والشخص الذي يمنحوه حق الحكم من جهة أخرى. وهذا النوع من الديمقراطية ليس لـه مصداقاً خارجياً في الوقت الحاضر.

ب ـ الديمقراطية شبه المباشرة: وفيها ينتخب الشعب ممثليه ليكونوا نواباً عنه في السلطة التشريعية، كما ينتخب انتخاباً مباشراً أو غير مباشر مسؤولي السلطة التنفيذية،مع احتفاظ الشعب بحقه في محاسبة السلطات والاعتراض عليها، وتقرير المسائل الرئيسية عبر الاستفتاء، وحق الاقتراح الشعبي. وتحاول معظم دساتير البلدان الديمقراطية الاستفادة من هذا النوع من الديمقراطية.

ج ـ الديمقراطية النيابية: وفيها ينتخب الشعب نواباً عنه لتولي مسؤولية الحكم كاملة، دون ان يتمتعوا بالحقوق التي يتمتع فيها الشعب في الديمقراطية شبه المباشرة(7).

ومن هنا تسعى الديمقراطية التقليدية بأنواعها كافة إلى تحقيق ممارسة الشعب للسلطة والى حكم الشعب لنفسه. ورغم ان للديمقراطية أبعاداً وتأثيرات اقتصادية واجتماعية، إلا أنها تعد مذهباً سياسياً، يعتمد على أساس نظري، يتمثل في كون الشعب مصدراً للسيادة أو الحاكمية، وعلى أساس عملي، ويتمثل في ممارسة الشعب للسلطة، بشكل مباشراً وغير مباشر.

3 ـ الثيوقراطية:

وهي نظرية في السلطة، أوسع من الحكم الديني، وأساسها إرجاع الحق في ممارسة السلطة إلى كونه حقاً إلهياً، ويرتبط مباشرة بالإرادة الإلهية. وقد سيطرت هذه النظرية على أوربا في العصور الوسطى، وأعطتها الكنيسة المسيحية دعماً شرعياً، بناءً

ـ(335)ـ

على تأييد أعلام المسيحية السابقين، «كالقديس بولس والقديس بطرس، وفلاسفتها، فكرة الخضوع والاستسلام (للسلاطين النابغين) الذي فرضتهم الإرادة الإلهية على الناس»(8). ومن هنا كان الحكم الثيوقراطي حكما مطلقاً لا يحده حد. وتتلخص الكفرة العامة للثيوقراطية التي تجمع في إطارها ثلاث نظريات فرعية، في موضوع السيادة ومصدرها، فتضع للسيادة مصدراً واحداً فقط، هو الله تعالى. وهذه النظريات.

 أ ـ الطبيعة الإلهية للحكام: وهي أولى النظريات الثيوقراطية، إذ يعود ظهورها إلى الحضارات القديمة، في روما وإيران ومصر والصين واليابان. وتتلخص النظرية في تقديس الإمبراطور أو الملك، باعتباره الإله نفسه أو مظهر الإله أو بان الإله أو ربيب الإله، وأنه صاحب سيادة وسلطة مطلقتين.

ب ـ الحق الإلهي المباشر: وظهرت بعد ظهور المسيحية، فلم يعد للحاكم طبيعة إلهية، بل أنه إنسان اختاره الله واصطفاه ومنحه السيادة والسلطة على البشر. وبذلك فهو صاحب سلطة مطلقة أيضا، لأنه يحكم بإرادة إلهية ويستمد سلطته من الله مباشرة. وقد اعتنقت الكنيسة المسيحية هذه الفكرة، واستطاعت من خلالها بسط نفوذها وسلطنها على أوربا، وان كان الإمبراطور أو الملك أو الأمير هو الذي يحكم في الظاهر. وبهذا الشأن يقول القديس «بوسيه» المعاصر لملك فرنسا لويس الرابع عشر: «ان الله هو الذي يعين الملك ويضعه على العرش»(9). كما قال بعض ملوك أوربا: «اننا لم نتلق التاج إلا من الله ولنا وحدنا سلطة القوانين ولا نخضع في عملنا لأحد»(10).

ج ـ الحق الإلهي غير المباشر: وقد ظهرت في أعقاب الصراع بين الكنيسة المسيحية وملوك أوربا. الأمر الذي دفع بعض المفكرين السياسيين، ومن أبرزهم القديس توما الاكويني، إلى القول بأن الله تعالى يختار الحاكم بواسطة الشعب. أي ان الإرادة الإلهية تتدخل لتختار الإمبراطور أو الملك، ولكن ليس بشكل مباشر، بل من خلال اختيار الشعب لـه بتوجيه الهي. وهذه النظرية تتمسك بالفكرة العامة للثيوقراطية،

ـ(336)ـ

ولكنها تحاول ان تعطي لنفسها مظهراً ديمقراطياً(11).

والنتيجة التي تخرج بها كل هذه النظريات تتلخص في ان الحاكم الثيوقراطي هو حاكم مطلق، وأنه غير مسؤول أمام أي إنسان آخر ولا أي مجلس ولا الشعب نفسه، وانه يقف فوق القانون، ولا يقبل النقد والاعتراض والنصح، لأنه يحكم بإرادة إلهية.

4 ـ النظام السياسي:

النظام السياسي لأي دولة يحدده هيكل نظام الحكم والمؤسسات السياسية العاملة فيه وطريقة ممارسة السلطة، إضافة إلى غايات النظام وأهدافه، تتدخل ـ باعتبارها القواعد الفكرية التي يقف عليها النظام ـ في صياغة شكل النظام وآليات عمله وأجهزته. والتي يمكن تحديد مفهوم النظام السياسي في التعريف التالي: «مجموعة من القواعد والأجهزة المتناسقة المترابطة فيما بينها، تبين نظام الحكم ووسائل ممارسة السلطة وأهدافها وطبيعتها، ومركز الفرد منه وضماناته قبلها، كما تحدد عناصر القوى المختلفة التي تسيطر على المجتمع وكيفية تفاعلها مع بعضها البعض، والدور الذي تقوم به كل منها»(12). ومن هنا فموضوع النظام السياسي ليس شكل الدولة أو شكل الحكومة، فموضوع شكل الدول والحكومات يتم دراسته في مادة القانون الدستوري، لأنه يركز على الجانب القانوني وحسب. في حين ان مدلول النظام السياسي أوسع من الجوانب القانونية لنظام الحكم. فمثلا نجد ان بعض أنظمة الحكم من ناحية الشكل ملكية، وأخرى جمهورية، أو أنها مركزية أو اتحادية، ولكنها جميعاً تنتمي إلى نظام سياسي واحد، كما هو الحاصل في بريطانيا وفرنسا وألمانيا ـ مثلا ـ إذ تنتمي إلى الأنظمة السياسية الديمقراطية، وتحديداً الديمقراطية الغربية التقليدية. وبذلك فإن النظام السياسي لمعظم الدول لا يحدده شكل هذه الدول أو شكل حكوماتها، وإنّما يحدده المذهب السياسي الذي يتبناه نظام الحكم(13).

وعلى مستوى النظام السياسي الإسلامي، فإن هذه القضية تبقى مدار بحث

ـ(337)ـ

ونقاش، فهل هذا النظام يحدد شكل الدولة وشكل الحكومة؟ أم ان الموضوعين منفصلين؟. ولكن الحقائق التمهيدية التي يفرزها الفقه السياسي الإسلامي الأصيل(وليس السلطاني) تؤكد على أن شكل الحكومة الإسلامية لا يمكن ان يكون ملكياً وراثياً في حين شكل الدولة، أي كونها اتحادية(فدرالية) أو موحدة، فإن ذلك ما يحدده الاجتهاد الإسلامي الذي يراعي ظرفي الزمان والمكان.

النظام الإسلامي والتعامل مع التجارب البشرية

ينظر النظام الإسلامي إلى تجارب البشرية وإنجازاتها نظرة معيارية فاحصة، فلا ينظر لها نظرة واحدة، قاعدتها فاحصة، ويفرق بين المنجزات الرفض المطلق أو القبول المطلق، بل أنه يفرق بين المنجزات التي تشكل هوية أو مذهبا فكريا أو نظرية اجتماعية أو مجالا روحيا، وهي المنجزات المنحازة، وبين المنجزات التي تعبر عن جانب تقني وآلي وتنظيمي. وشعاره في ذلك الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...﴾(14).

ويقول بعض المفسرين أن أحسن القول لا يقتصر على كونه الدين، بل أنه يشتمل على مطلق القول. وهو ما يمكن ان نطلق عليه الخبرة أو التجربة البشرية.

والنظام السياسي الإسلامي المتمثل في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، درس بعمق كل الإنجازات البشرية وتوقف عند التجارب والنتاجات والخبرات الحيادية. كالعلوم والتقنيات الإدارية، والنظم السياسية. والهياكل التنظيمية الدستورية، وتحديداً جوانبها التي «لا تتضمن موقفا من الكون والحياة والإنسان والوجود، أي أنها لا تحمل بالضرورة سمات الهوية الحضارية والثقافية»(15).

مجالات التقاء الديمقراطية بالنظام الإسلامي

تأسيسا على ما سبق، فإن للنظام الإسلامي مشروعه الحضاري الخاص به، والذي

ـ(338)ـ

يتضمن منطلقاته ومبانيه وأهدافه وغاياته ووسائله، وهو مشروع يختلف عن المشاريع الحضارية التي تحمل أسماء أخرى، ومن بينها المشاريع الحضارية التي أفرزت الديمقراطية والثيوقراطية. إذ أن لكل مشروع خصوصياته ومميزاته، بيد ان هذا الاختلاف وتلك الخصوصيات لا تعني التقاطع المطلق بين النظام الإسلامي والنظم الأخرى، أو وجود تضاد كامل بينهما. بل أن هناك بعض مجالات الالتقاء، أو التي تتضمن إمكانية على الالتقاء، سواء في الوسائل أو النتائج، وهناك أيضا مجالات أخرى تمثل نقاط افتراق. وكما ذكرنا سابقاً، فإن مجالات اللقاء لا تعني ان النظام الإسلامي هو نظام ديمقراطي أو العكس، وان حاول بعض المسلمين المتغربين خلط الأوراق في هذا الجانب، كما حصل في إيران في بداية أيام الانتصار، فقد سعى هؤلاء إضافة كلمة الديمقراطية إلى الجمهورية الإسلامية، متذرعين بأن الإسلام والديمقراطية يكمل أحدهما الآخر، بينما أصرّ آخرون على لفظ الجمهورية الديمقراطية، متذرعين بأن الديمقراطية يمكنها استيعاب أهداف الإسلام !. ورد الإمام الخميني على هذا التقولات بكلمته: «انهم يقولون: ضعوا بدلا من الإسلام لفظ «الديمقراطية» ليكون اسم البلد «الجمهورية الديمقراطية» ان هؤلاء لا يفهمون أين هي الديمقراطية التي ملأ أسمها العالم؟ وأي البلدان تعمل على وفق الديمقراطية وهذه القوى الكبرى، أيها تعمل بموجب الموازين الديمقراطية؟ فللديمقراطية معنى مختلفاً بين بلد وآخر...

نحن نقول إنها شيء مجهول ولها في كل مكان معنى معين، ولا يمكننا ان نضمنها في دستورنا، بحيث يستطيع كل واحد الاستفادة من أحد معانيها وصياغتها بشكل ينتهي لصالحه. لذلك فإننا نقول الإسلام، ونكتفي به »(16).

وحزم الإمام الخميني في هذا المجال أكد للآخرين استقلال المشروع الحضاري الإسلامي ونظامه السياسي تحديداً، وأنه أكثر وضوحاً من الأنظمة الأخرى، وأكثر قدرة على استيعاب إشكاليات الفكر السياسي وحلها. فلا داعي ـ اذن ـ للتشبث

ـ(339)ـ

بالأفكار الأخرى والتسمي بها. ولكن تبقى هناك نقاط ومساحات للقاء، تعبر عن احترام النظام الإسلامي للتجربة البشرية الحيادية الناجحة، بل والاستفادة منها، انطلاقا من الاشتراك في بعض القيم العامة والمثل العليا التي يؤمن بها كل عقلاء البشرية ولعل من أبرز مجالات الالتقاء بين الأنظمة الديمقراطية التقليدية والنظام الإسلامي على مستوى أساليب ممارسة السلطة: المفهوم العام للجمهورية، الفصل بين السلطات، سيادة القانون، الالتزام بالحقوق والحريات العامة، ومنح الأمة دورها في المشاركة السياسية:

1 ـ المفهوم العام للجمهورية:

الجمهورية شكل من أشكال الحكومات، وتعني الحكم الذي يتدخل الجمهور(الشعب) في صنعه وفي اختياره واختيار مسؤولية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا المقدار من المفهوم العام للجمهورية يلتقى مع طبيعة دور الأمة في الحكومة الإسلامية. ولكنه قيد في النظام السياسي الإسلامي بقيد اسلامي ووضع هذا القيد كان هو الآخر مطلباً شعبياً، ولم تجبر الأمة عليه، وان كان بالأصل تكليفاً قبل ان يكون محض رغبة. وقد كان الشعب الإيراني حتى قبل انتصار ثورته، يطالب في تظاهراته المليونية بالجمهورية الإسلامية، ويرفعها شعاراً أساسياً.

ومن هنا فالحكومة الإسلامية تفترق مع الديمقراطية في إطلاق مفهوم الجمهورية، وتشترك معها في المفهوم العام للجمهورية. لأن دور الأمة أو الشعب في الجمهورية بمعناها المطلق هو منح الشرعية للحكومة، من خلال اختيار نوع هذه الحكومة وانتخاب مسؤوليها، في حين ان شرعية تأسيس الحكومة في الجمهورية الإسلامية مفرزة من الله تعالى.

كما ان الشعب في الجمهورية الديمقراطية يمنح الشرعية لرئيس الدولة من خلال انتخابه، في حين ان انتخاب الشعب لرئيس الدولة (الإمام ـ القائد) في الجمهورية

ـ(340)ـ

الإسلامية غايته الكشف عن رئيس الدولة، والتعبير عن التعهد والميثاق، وليس كون الشعب مصدراً لشرعيته(17). وحتى رئيس الجمهورية فان دور الشعب في انتخابه ليس منحه الشرعية، بل الكشف عنه للولي الفقيه لكي يعينه رئيساً للحكومة. فالولي الفقيه ـ اذن ـ يمنح الشرعية لرئيس الجمهورية الذي يرتضيه الشعب وفي هذا الصدد يقول العلامة الشهيد المطهري: «ان كلمة الجمهورية توضح شكل الحكومة، وكلمة الإسلامية توضح محتواها. فالجمهورية الإسلامية تعنى الحكومة التي يتمثل شكلها في انتخاب رئيس الحكومة(الجمهورية) من قبل عامة الناس لمدة مؤقتة، ومحتواها هو أنها إسلامية»(18).

2 ـ الفصل بين السلطات:

تقسيم السلطات إلى تنفيذية وتشريعية وقضائية في النظام السياسي الإسلامي هي من نقاط الاشتراك مع الأنظمة الديمقراطية. إلا أن النظام السياسي الإسلامي يتميز عن هذه الأنظمة بوجود سلطة رابعة عليا، هي سلطة الولي الفقيه(القائد أو الإمام)، التي تراقب تلك السلطات الثلاث وتشرف على أعماله وتتدخل في المجالات التي حددها القانون.

من الناحية التاريخية، يمكن القول بأن مبدأ توزيع السلطات وعدم تركيزها في جهة واحدة يعود إلى دستور الزعيم البريطاني كرومويل، الذي طبق هذا المبدأ بعد إسقاطه الملكية. وجاء المفكر الإنجليزي جون لوك لينظر لفكرة الفصل بين السلطات في كتاب «الحكومة المدنية». إلا ان الذي بلور النظرية على نحو منهجي وأرسى أصولها هو المفكر الفرنسي مونتسكيو، في كتابه «روح القوانين» ومن هنا فنظرية الفصل تنسب إليه، وكان هدفه حماية الحريات، ومنع إساءة استخدام السلطة، والاعتدال والموازنة بين السلطات،(19) إضافة إلى قيام قدر من التعاون والتنسيق والرقابة المتبادلة فيما بينها(20).

ـ(341)ـ

وقد أشار الإمام الخميني إلى موضوع فصل السلطات في الحكومة الإسلامية بقوله: لهذا قرر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع»(21). وسلطة القضاء غير هاتين السلطتين(22). أما سلطة الفقيه الحاكم(الإمام) فهي فوق هذه السلطات. وقد جاء في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية: «السلطات الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية هي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وتمارس صلاحيتها بإشراف ولي الأمر وإمام الأمة»(23) واعتبر الدستور ان تلك السلطات هي السلطات الناشئة عن سيادة الشعب(24).

وعلى الرغم من أهمية تقسيم السلطات والفصل بينها، إلا أن ضعف التنسيق بينها وعدم وجود أشراف عام عليها، خلق الكثير من المشاكل في هذا المجال، بالنظر لتعدد مراكز التخطيط والقرار، وتعرقل مسيرة السلطات، حين تضع كل سلطة العقبات أمام السلطات الأخرى، أو حين تستأثر وتستبد بالسلطة. في حين استطاع النظام الإسلامي حل هذه الإشكالية قانونياً وعملياً، ونجح في ذلك، حتى بالمقاييس البشرية، إذ أوجد النظام السياسي الإسلامي المتمثل بالنظام القيادي(نظام ولاية الفقه» سلطة أشراف ورقابة عليا هي سلطة الإمام القائد، التي تحول دون أي نوع من عدم التنسيق وتعدد مراكز القرار، كما تحول دون أي نوع من أنواع استبداد إحدى السلطات، وترفع أية عقبة يمكن أن تضعها إحدى السلطات في طريق سلطة أخرى، وتقلل ـ كذلك ـ من نسب الانحراف والفساد في عمل هذه السلطات. وقد أشار دستور الجمهورية الإسلامية إلى أن طبيعة هذه المهمة تتمثل في تعيين السياسات العامة للنظام، والأشراف على حسن أجرائها، وحل الاختلافات وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث، وحل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية»(25).

3 ـ سيادة القانون

تؤكد الديمقراطية على أن تطبيقها لا يمكن ان يتم إلا في دولة القانون. و«لكي

ـ(342)ـ

تقوم الدولة القانونية يلزم ان يتوافر لها ضمانات معينة يتمثل أهمها في وجود دستور، وفي تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، واحترام مبدأ سيادة القانون، وفي تدرج القواعد القانونية، وكذلك تنظيم رقابة قضائية، وأخيرا حماية الحقوق والحريات الفردية»(26) كما يجب ان تخضع جميع الهيئات الحاكمة في الدولة القانونية للقواعد القانونية السارية وتتقيد بها، شأنها في ذلك شأن المواطنين العاديين، ويعني ذلك خضوع جميع أوجه نشاط الدولة في التشريع والتنفيذ والقضاء للقانون(27).

وبغض النظر عن جانب التطبيق في محال سيادة القانون بالنسبة للأنظمة الديمقراطية، فإنها تلتقي هنا بالنظام السياسي الإسلامي، فالدولة الإسلامية هي دولة القانون، حتى بالمقاييس البشرية. إذ يقول الإمام الخميني بأن الحكومة الإسلامية ليست حكومة مطلقة مستبدة، وإنّما هي دستورية، بمعنى التقيد بمجموعة الشروط والقواعد المبينة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، والمتمثلة في وجوب تطبيق أحكام الإسلام وقوانينه «ومن هنا كانت الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي»(28).

«فلا مجال للآراء والأهواء في حكومة الإسلام، وإنّما النبي والأئمة والناس، يتبعون إرادة الله وشريعته»(29). ومن هنا «كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون»(30) وقد علمت الدولة الإسلامية منذ تأسيسها على إيجاد دستور دائم بينها، حددت طبيعة احترامه وسموه، وأكدت فيه على مبدأ الفصل بين السلطات، واحترام مبدأ سيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات الفردية، ووجود مجلس لحماية الدستور ورقابة قضائية وغيرها. وتحولت هذه المبادئ إلى مؤسسات تم العمل فيها منذ السنة الأولى القيام الدولة الإسلامية في إيران. وكنموذج دال على دستورية سيادة القانون في النظام السياسي الإسلامي، ما جاء في المادة(107) من الدستور: «يتساوي القائد مع كل أفراد البلاد أمام القانون»(31).

ـ(343)ـ

4 ـ الحقوق والحريات العامة:

يلتقي مفكروا القانون والسياسة عند حدود من الحقوق والحريات العامة للإنسان، وقد يختلفون في تفصيلات هذه الحقوق والحريات وجذورها وشرعيتها كما قد يختلف هؤلاء المفكرون في تقسيماتها وأنواعها، بالنظر لتنوعها وتعددها وتباين أشكالها، إذ تشتمل على المجالات العقائدية والفكرية والسياسية والشخصية المحضة والاجتماعية والاقتصادية، بل وجميع مجالات الحياة. وتناول المفكرون الغربيون هذه الحقوق كل من منطلق اتجاهه الفكري. ويمكن القول بأن إعلان حقوق الإنسان الذي أصدرته الثورة الفرنسية هو الإعلان الذي بلور طبيعة هذه الحقوق والحريات من وجهة نظر الديمقراطية ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الصادر عن الأمم المتحدة ليوضح أنواعها وطبيعتها على نحو من الدقة.

وقد سبق الإسلام جميع الأنظمة الحديثة، بما فيها الديمقراطية، بقرون طويلة، بالتأسيس لحقوق الإنسان وحرياته العامة، ثم حددت الشريعة الإسلامية هذه الحقوق وكفلت تطبيقها. ومن هنا فقد اشتركت الديمقراطية مع الإسلام في مجال منح الإنسان حقوقه وحرياته، إلا إنهما اختلفا في بعض أنواع الحريات والحقوق وتفاصيلها، كما اختلفا في جذورها. ففي حين قال النظام الإسلامي بأن الله تعالى هو الذي منح الإنسان هذه الحقوق والحريات، فإن النظم الديمقراطية عدتها حقوقا طبيعية.

وكما جاء في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن الحقوق والحريات الممنوحة للإنسان والتي قننها النظام الإسلامي في مواد دستورية، يمكن تقسيمها إلى ما يلي:

أولاً: حق المساواة والتكافؤ: وقد أشارت إليه المواد 19، 20، 21.

ثانيا: حق الأمن: وقد أشارت إليه المواد 22، 32، 40.

ثالثا: حق الحريات والمشاركة السياسية والاجتماعية: وأشارت إليه المواد 23، 24،

ـ(344)ـ

25، 26، 27، 32 (وسنأتي على استعراض هذه المواد في فقرة قادمة).

رابعاً: حق التظلم: المواد 34، 35، 36.

خامساً: حق التعليم والتربية: المادة 30.

سادساً: حق الضمان الاجتماعي: المادة 29.

سابعاً: حق العمل: المادة 28.

ثامناً: حق السكن والإقامة: المادتان 32 و33.

تاسعاً: حق الملكية: المادتان 46 و 47.

كما أكدت المادة 43 على ضمان الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للفرد والشعب.

وقد حمل الفصل الثالث من الدستور(المواد 19 ـ 42) عنوان: حقوق الشعب « ومما سبق يتضح أن مجمل تلك الحقوق والحريات تنقسم إلى: شخصية وسياسية واجتماعية.

5 ـ الحقوق والحريات السياسية:

تتلخص هذه الحقوق لدى الديمقراطيات الغربية التقليدية في المشاركة السياسية للشعب، من خلال حق المواطن ـ وليس الأجنبي ـ في التصويت في انتخاب رئيس الدولة وأعضاء المجالس النيابية، بما فيه المجلس التشريعي وغيرهم حسبما يحدده القانون، وكذلك التصويت في الاستفتاءات العامة، وحق الترشيح لرئاسة الدولة وعضوية المجالس النيابية، وحق تشكيل الأحزاب والجمعيات أو الحصول على عضويتها وإصدار الصحف. أما الحريات فتتداخل معها غالباً وهنا تؤكد الديمقراطيات من خلال هذه الحقوق على دور الشعب، وكونه مصادر سيادة الدولة وشرعية الحكومة وشرعية المجالس النيابية وان مشاركة الشعب في التصويت والترشيح والاستفتاء وغيرها من الأدوار السياسية هي التي تجعل من الشعب ذلك المصدر.

وحول منح الشعب هذه الحقوق وضمان ممارستها، فإن النظام الديمقراطية يلتقي بالنظام الإسلامي في هذا المجال. إذ عد الدستور الإسلامي ان «ضمان الحريات

ـ(345)ـ

السياسية والاجتماعية في حدود القانون»(32) هو من واجبات الدولة الإسلامية. وأكد على وجوب «ان تدار شؤون البلاد في جمهورية إيران الإسلامية بالاعتماد على رأي الأمة الذي يتجلى بانتخاب رئيس الجمهورية الإسلامية، وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء سائر مجالس الشورى ونظائرها، أو عن طريق الاستفتاء العام»(33).

وتذكر مادة أخرى بأن «السيادة المطلقة على العالم وعلى الإنسان لله، وهو الذي منح الإنسان حق السيادة على مصيره الاجتماعي، ولا يحق لأحد سلب الإنسان هذا الحق الإلهي أو تسخيره في خدمة فرد أو فئة ما، والشعب يمارس هذا الحق الممنوح من الله بالطرق المبينة»(34).

إلا أن دور الشعب في النظام الإسلامي، يختلف من الناحية النظرية، عنه في النظام الديمقراطي، ولا يختلف من ناحية الممارسة العملية. فهذا الدور هو أساس شرعية النظام الديمقراطي ومسؤولية أما في النظام الإسلامي، فإنه نوع من التكليف والواجب على الشعب، ونوع من التعهد والطاعة. كما ان هذا الدور يمثل نوعاً من الكشف. وهو في الوقت نفسه يشكل حجة على دعاة الحقوق والحريات من غير المؤمنين بالنظام السياسي الإسلامي، أو الذين يؤمنون بالنظام الانتخابي الإسلامي. لطالما كان الإمام الخميني يحتج على أولئك وهؤلاء بدور الشعب ورأيه. حيث قال في أحد خطبه: «الشعب هو الذي يحدد لنا ما نقوم به. افترضوا ان الذي يريده الشعب يعتبر كارثة بالنسبة لكلم ! فما العمل والشعب هو الذي يريد ذلك؟ ! تعالوا نحتكم إلى الشعب ونجري استفتاء عاما نقول فيه: أيها الناس ان السادة يقولون ان ولاية الفقيه كارثة فهل تؤيدونها أم لا؟ وعندئذ سترون كم هم الموافقون وكم هم الرافضون»(35).

ويقول أحد المفكرين الإسلاميين الذين يؤكدون على خيار الشعب، بأن الدولة الإسلامية هي النظام الذي يختاره المسلمون، وان أغلبية الأنظمة السياسية في البلدان الإسلامية تخرج عن هذه الدائرة، لأنها أنظمة لم يختارها المسلمون. «أما النظام

ـ(346)ـ

السياسي في إيران فهو نظام اسلامي، لا بسبب خصوصياته ومميزاته في تطبيق أحكام الإسلام، بل بسبب كونه نظاما(مختارا) من الناس ـ الأمة»(36) فهو يعتبران خيار الأمة هو الذي منح النظام الإسلامي في إيران شرعية كونه نظاما إسلاميا.

وقد حدد دستور الجمهورية الإسلامية طبيعة الحقوق والحريات السياسية في مجموعة من مواده، وعلى النحو التالي:

أولا: حرية المعتقد: «تمنع محاسبة الناس على عقائدهم، ولا يجوز التعرض لأحد أو مؤاخذته لمجرد اعتناقه عقيدة معينة»(37).

ثانياً: حرية الصحافة: «الصحافة والمطبوعات حرة في بيان المواضيع، ما لم تخل بالقواعد الإسلامية والحقوق العامة»(38).

ثالثاً: حرية الاتصال: «الرسائل والمكالمات الهاتفية، والبرقيات، والتلكس لا يجوز فرض الرقابة عليها، أو عدم إيصالها، أو إفشاؤها، أو الاتصالات والتجسس عليها»(39).

رابعاً: حرية تشكيل التنظيمات: «الأحزاب والجمعيات، والهيئات السياسية، والاتحادات المهنية، والهيئات الإسلامية والأقليات الدينية المعترف بها، تتمتع بالحرية، شرط ان لا تناقض أسس الاستقلال، والحرية، والوحدة الوطنية، والقيم الإسلامية وأساس الجمهورية الإسلامية، كما أنه لا يمكن منع أي شخص من الاشتراك فيها، أو إجباره على الاشتراك في إحداها»(40).

خامساً: حرية الاعتراض والتظاهر: «يجوز عقد الاجتماعات وتنظيم المسيرات بدون حمل السلاح»(41).

ونستعرض هنا حجم دور الأمة في النظام السياسي الإسلامي المتمثل بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومشاركتها السياسية في إطاره، ابتداء من عام 1979، وهو العام الذي انتصرت فيه الثورة الإسلامية.

أ ـ الاستفتاء العام على النظام. فبعد(47) يوماً على انتصار الثورة الإسلامية، أي

ـ(347)ـ

في يومي 30 و 31 آذار مارس 1979 أجري الاستفتاء العام المباشر، الذي اشترك فيه أكثر من(20) مليون شخص، وهم الأغلبية الساحقة لمن يحق لهم المشاركة في الاستفتاء. حيث صوت 2: 98 % منهم على نظام الجمهورية الإسلامية، على وفق الصورة التي كان الإمام الخميني يوضحها في خطبه وشرحها في كتابه الحكومة الإسلامية. وبذلك فإن تأسيس الجمهورية الإسلامية كان يمثل إرادة الشعب بالكامل وعلى الرغم من بعض المفكرين والفقهاء المسلمين قالوا بأن إقامة الحكومة الإسلامية يعد تكليفاً شرعياً ولا يخضع لرأي الناس. إلا أن الإمام الخميني أراد من خلال هذا الاستفتاء الاحتجاج بإرادة الأمة على جميع أصحاب الادعاءات والمعترضين. إذ بات من الواجب أن تكون جميع قوانين ومسارات النظام الجديد إسلامية محضة، تعبيرا عن إرادة الأمة.

ب ـ انتخاب مجلس خبراء الدستور(أو الجمعية التأسيسية بالمعنى القانوني المتعارف عليه)، انتخاباً مباشراً. وقد كان الإمام الخميني يعترض على تسمية الجمعية التأسيسية، على ان الأخيرة تدون دستوراً من منطلق تجربة بشرية وضعية وجديدة بالكامل، في حين ان مجلس الخبراء محدد بالعقيدة والشريعة الإسلامية، ولا يتجاوزهما مطلقاً. وهي في الوقت نفسه إرادة الأمة، حين اختارت النظام الإسلامي دون غيره.

وقد جرت انتخابات الخبراء في 3 آب أغسطس 1979.

ج ـ الاستفتاء العام على الدستور. وقد جرى في 2 و 3 كانون الأول: ديسمبر 1979، أي بعد إقرار الدستور من قبل مجلس الخبراء والإمام الخميني. وقد صوّت 5: 99 % من المقترعين لصالح دستور الجمهورية الإسلامية. مع ملاحظة ان نص مسودة الدستور سبق ان نشر في الصحف ووسائل الإعلام، وجرت مناقشته مناقشة مستفيضة من قبل جميع التيارات والتنظيمات السياسية والاجتماعية والمهنية، بل وحتى في

ـ(348)ـ

الشوارع والبيوت من قبل عامة الناس. وهنا استفتاء شعبي مباشر آخر على الدستور أجري في 28 تموز: يوليو 1989، بعد التعديل الذي أجراه خبراء الدستور على بعض مواد الدستور.

والى هنا وجدنا ان إقامة النظام الإسلامي وإقرار دستوره كانا خياراً شعبياً. وهو ما لم تحظ به أي من الديمقراطيات التقليدية، على الرغم من ان الأنظمة الديمقراطية تتبني تلك الإلية نظريا، وتعتبرها أساسا لشرعية الحكومة.

د ـ انتخاب رئيس الجمهورية(رئيس السلطة التنفيذية)، انتخاباً مباشراً. وقد جرت الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية حتى الآن سبع مرات ابتداء من عام 1980، انتخب فيه خمسة رؤوساء، إذ أعيد انتخاب اثنين منهم لدورتين متتاليتين. وآخر انتخابات هي التي جرت في آيار: مايو الماضي. ومدة كل دورة رئاسية أربع سنوات ولا يجوز انتخاب الرئيس أكثر من دورتين متواليتين(42).

هـ انتخاب أعضاء مجلس الشورى الإسلامي(السلطة التشريعية)، انتخابا مباشرا(43) وقد جرت الانتخابات البرلمانية حتى الآن خمس مرات، ابتداء من عام 1980. والمجلس الحالي هو المجلس الخامس، الذي انتخب أعضاؤه في عام 1996، ومدة كل دورة تشريعية أربع سنوات(44) وعدد أعضائها(270) عضواً.

و ـ انتخاب أعضاء مجلس خبراء القيادة، انتخابا مباشرا. وهو المجلس الذي ينتخب بدوره الولي الفقيه(الإمام القائد)(45). وقد أجريت عملية انتخاب الخبراء حتى الآن ثلاث مرات، ابتداءً من عام 1982، وكان آخرها الانتخابات التي جرت في عام 1994. وحدد النظام الداخلي لمجلس خبراء القيادة عدد أعضائه بحوالي(74) عضواً من علماء الدين الفقهاء، ومدة كل دورة ست سنوات. وكانت أهم دورات مجلس الخبراء هي الدورة الثانية، التي انتخب خلالها أعضاؤه الإمام الخامنئي بعد وفاة الإمام الخميني بأقل من(24) ساعة.

ـ(349)ـ

ز ـ انتخاب القائد(الولي الفقيه) انتخاباً غير مباشر، أي من خلال مجلس الخبراء، أو عزله من خلال المجلس نفسه. والتعبير الدقيق عن عملية الانتخاب هو «الكشف» وليس «الانتخاب»، لأن مجلس الخبراء يكشف عن الفقيه الذي يختاره للقيادة من بين مجموعة من الفقهاء الحائزين على شرائط القيادة وقد قام مجلس الخبراء ـ بالفعل ـ بانتخاب الإمام الخامنئي في عام 1989 لقيادة الأمة. وهذا هو أحد نوعي الكشف. أما النوع الأول فهو انصياع الأمة للفقيه المتصدي للقيادة، ومعاهدتها لـه على الانقياد من خلال مختلف الممارسات، كالرسائل والتظاهرات والبيعة المباشرة، وهو ما حدث مع الإمام الخميني. اذن، دور الأمة هو الكشف عن الفقيه من بين مجموعة الفقهاء الحائزين على شرائط القيادة، فيكون كشفها كشفاً عن الأفضل وعمن تراه. لا فضل لأن الفقيه ـ وفقا لمدرسة أهل البيت عليه السلام ـ منصوب أساساً للولاية من قبل الإمام المعصوم، نصباً نوعياً. ومن هنا فانتخاب الأمة للقائد لا يمنحه الولاية الشرعية، لأن كل فقيه هو ولي شرعي بالقوة، بل تعطيه الأمة الولاية بالفعل، أي تفعل تلك الشرعية، وتعطيه المشروعية السياسية والإدارية والقيادة على مستوى القانون، ليكون إماما للأُمة دون الفقهاء الآخرين أي أنه دور مفاضلة أولاًَ - ودور تفعيل- ثانياً - ودور انقياد- ثالثاً.

ح ـ انتخاب أعضاء مجالس شورى المحافظات والأقضية والنواحي والقرى. والتي تشرف على إدارة مناطقها(46). ومنها يتكون مجلس الشورى الأعلى للمحافظات(47).

ط ـ انتخاب مجالس الشورى المهنية(العمال والفلاحين والمعلمين وغيرهم) في مرافق الإنتاج والصناعة والزراعة والتعليم والإدارة والخدمات وغيرها(48).

ي ـ انتخاب أعضاء الحكومة 0الوزارة)، انتخابا غير مباشر، من خلال تعيين رئيس الجمهورية لأعضائها، ثم تصويت مجلس الشورى عليهم(49).

ـ(350)ـ

ويمكن التعرف على دور الأمة في النظام السياسي الإسلامي، أو ما يعرف بالمشاركة السياسية للشعب، من خلال المخطط التالي:

مجالات افتراق الديمقراطية عن النظام الإسلامي

مثلما تشترك الديمقراطية مع الإسلام ـ على مستوى النظام السياسي ـ في كثير في المجالات، ولاسيما في مجال آليات استخدام السلطة، فإن هناك الكثير أيضا من نقاط الافتراق والتقاطع، وخاصة الفوارق الأساسية في المنطلقات والمباني الفكرية، وفي مقدمتها بشرية النظام الديمقراطي، وكونه مجرد تجربة بشرية في أفكاره ومضامينه وأساليب تطبيقه، في حين ان النظام الإسلامي الهي المحتوى والأفكار وكثير من ممارسات ومن هذا الفارق تتفرع العديد من الفوارق الأخرى، كسيادة الشعب وكونه مصدر شرعية الحكومة في النظام الديمقراطي وسيادة الدين في النظام الإسلامي، ودنيوية أهداف النظام الديمقراطي، والمشرع في النظام الإسلامي هو الله تعالى ودور نواب الشعب يتلخص في التقنين فيما يعرف بـ «مناطق الفراغ» في التشريع، ثم تدخل الدين في تحديد موقع رئيس الدولة ومواصفاته في النظام الإسلامي، وعدم سماح النظام الديمقراطي للدين في أي تدخل في ذلك، وهكذا الحال مع أساس تقسيم الشعب، وغيرها. وفيما يلي نتوقف عند هذه النقاط بشيء من التفصيل:

1 ـ السيادة:

السيادة أو الحاكمية في المفهوم الإسلامي هي لله تعالى بالمطلق، ويصطلح عليها عقائديا الولاية، وهي على قسمين: تكوينية، وتتجسد في سيادة الله تعالى على الكون أو على عالم الخلقة أجمع. وتشريعية وهي سيادة الله تعالى وولايته على الإنسان وعمله، وتتجلى في التشريع، وينفذها الإنسان من خلال ولايته النسبية على عمله

ـ(351)ـ

ومصيره. وهناك سيادة أو ولاية نسبية مصدرها ولاية الله تعالى، وهي ولاية الإنسان على عمله ومصيره(50). ومن هنا فالله تعالى هو صاحب السيادة المطلقة، وهو مصدر سيادة الدولة الإسلامية، ومصدر شرعية الحكومة الإسلامية ورئيسها، أي مصدر السلطات جميعاً(51). وولاية الفقيه في النظام الإسلامي تعد امتداداً بشرياً لولاية الله تعالى، من خلال كون الولي الفقيه نائباً للإمام المعصوم عليه السلام المنصوص عليه من قبل الله تعالى عبر الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم(52). وبذلك يمنح الولي الفقيه الشرعية لحكومة الإسلامية، ويترأسها في الوقت نفسه، وهذا هو على نحو الدقة معنى الولاية التي يتمتع بها الفقيه. وهي على نوعين: ولاية بالقوة، وهي لكل الفقهاء، ولاية بالفعل، وهي خاصة بالفقيه المتصدي للأمر ولموضوع إقامة الحكومة الإسلامية أو الذي اختاره الفقهاء الآخرون قائداً ووليا للأمر. أما دور الأمة أو الشعب فيكمن في تفعيل ولاية الفقيه، أي تعمل من خلال بيعتها وطاعتها وتسليمها لأحد بفقهاء، على تحويل ولايته من القوة إلى الفعل، أي إنها لا تمنحه الشرعية ولا هي مصدر سيادة الحكومة أو الدولة، لأنها لا تمتلك السيادة ومن هنا فمسار السيادة والحكومة في النظام الإسلامي يبدأ من الأعلى.

أما الديمقراطية فلها مقولة مختلفة تماما في موضوع السيادة. فالسيادة في النظام الديمقراطي هي للشعب، وهو الذي يمنح الدولة والحكومة والسلطات جميعاً شرعيتها. ومصدر شرعية الحكومة في الأنظمة الديمقراطية على قسمين: الأول: ان هذه الشرعية نابعة من سيادة الشعب بأجمعة وحقه المطلق في تقرير مصيره، وهي مقولة الديمقراطية المباشرة. والثاني: ان هذه الشرعية مصدرها أصوات أكثرية الشعب، ومن خلال ممثلي الشعب وهو ما تقول به الديمقراطية غير المباشرة.

2 ـ التشريع:

التشريع في الحكومة الإسلامية ليس تشريعاً بالمعنى الوضعي المتداول، ولا هو

ـ(352)ـ

تقنين بالمطلق. فالتقنين في الحكومة الإسلامية مقيد بقوانين الإسلام وموازينه المستخرجة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، فهما مرجعية التقنين في النظام الإسلامي. فالله تعالى على وفق ولايته التشريعية هو المشرع فقط. فيجري التقنين في إطار الشريعة الإسلامية فقط، خلال نواب الأمة، وبأشراف الولي الفقيه، وعلى النحو التالي:

1ـ ان الأحكام الشرعية الثابتة المستخرجة من النص المقدس وبوضوح فقري مطلق، تعتبر جزءاً ثابتاً في وثيقة دستور الدولة الإسلامية أو في قوانينها الثابتة.

2ـ في الأحكام الشرعية التي فيها أكثر من موقف اجتهادي فقهي، تسن القوانين في إطار الموقف الاجتهادي للولي الفقيه.

3ـ في حالة عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم وإيجاب، وهو ما يصطلح عليه بـ «منطقة الفراغ»، التي تركت فيها الشريعة للإنسان اتخاذ الموقف الذي لا يتعارض مع الشريعة وينسجم مع روحها فان نواب الأمة يسنون القوانين ويصدرون القرارات التي لا تتعارض مع الدستور ومع الشريعة(53) وفي إطار الموقف الاجتهادي للولي الفقيه.

ومن هنا فالممارسة التشريعية لمجلس الشورى(السلطة التشريعية) يدخل في إطار البنود السابقة الثلاثة والتي تتلخص في تحويل الأحكام الشرعية الثابتة إلى قوانين وقرارات رسمية، وهي مهمة «تقنينية» محضة، ثم تحديد الموقف القانوني من الأحكام الشرعية التي فيها أكثر من موقف اجتهادي، وأخيراً ممارسة التشريع في المنطقة المرخص بها(منطقة الفراغ).

ويمارس الفقيه الحاكم دوره في الأشراف على شرعية ودستورية قوانين مجلس الشورى ومقرراته، من خلال مجلس صيانة الدستور، الذي لا يمارس التشريع أو التقنين، بل يبت في ما يصدره مجلس الشورى من قوانين. وبذلك تأخذ قوانين مجلس

ـ(353)ـ

الشورى وقراراته بعد مصادقة مجلس الصيانة عليها قوة التشريع عملياً، وتصبح واجبة التنفيذ على مستوى الدولة والأُمة.

وحول وجود مجلس صيانة الدستور إلى جانب مجلس الشورى، فإن ضرورته تنبع فقهياً من أن دور تفسير التشريعات الثابتة ومهمة الاجتهاد لملء المنطقة المرخصة بها، هي مهمة الفقهاء، وعلى مستوى الحكومة الإسلامية، فإنها مهمة الولي الفقيه أساساً، وقد اقتضت الضرورات التنظيمية والهيكلية للدورة ان يفوض الفقيه من الاشراف الدقيق على التشريعات التي يصدرها المجلس وعلى وفق الدستور فإن الفقيه منح هذه الصلاحيات لستة من الفقهاء، وهؤلاء الفقهاء الستة يشكلون إلى جانب ستة من الحقوقيين المتخصصين مجلس صيانة الدستور أما ضرورة وجود هذا المجلس دستورياً، فتنبع من أهمية عدم إصدار مجلس الشورى الإسلامي لقوانين وقرارات تتعارض مع الدستور ومع القانون الدستوري للجمهورية الإسلامية وبكلمة أخرى فإن مجلس صيانة الدستور هو المرجعية الفقهية والدستورية للتشريعات التي يصدرها مجلس الشورى الإسلامي(54).

ومن الناحية العملية، فإن معظم الأنظمة الديمقراطية لديها مرجعيات لها الحق في البت في تشريعات مجلس النواب. فبعض هذه الأنظمة لديه مجلسين(نواب وشيوخ مثلا)، أو مجلس أو محكمة دستورية ويطرحون في هذا المجال عدة مبررات منها الحيلولة دون استبداد البرلمان بتشريعاته، أو تعسفه في استعمالها في مواجهة السلطة التنفيذية، والحيلولة دون تسرع البرلمان في إصدار التشريعات، ورفع مستوى كفاءة السلطة التشريعية(55). ولكن هذه المرجعية في الدولة الإسلامية تختلف عنها في الأنظمة الديمقراطية، فصلاحيات وأداء وتبعية كل منهما يختلف، فهذه المرجعية في الدولة الإسلامية تتبع بشكل أو بآخر الولي الفقيه، ولها مرجعية عليا تتمثل في عدد من

ـ(354)ـ

المصادر، على رأسها القرآن الكريم والسنة الشريفة. في حين ان مرجعية المجالس الدستورية أو التشريعية الأخرى التي تقع في مقابل البرلمان تقتصر على الدستور أو على بعض النصوص النظرية السياسية لفقهاء الديمقراطية. لأن التشريع في الأنظمة الديمقراطية هو لنواب الشعب على نحو مطلق، دون وجود مرجعية حقيقية، وان وجدت فهي مرجعية بشرية محضة. وهو ما يوضح أيضا طبيعة الاختلاف في مصادر التشريع بين النظامين الإسلامي والديمقراطي، وكذلك مصادر القانون الدستوري.

بمصادر القانون الدستوري في النظام الإسلامي، تنقسم إلى مصادر مقدسة، وتتمثل في القرآن الكريم والسنة الشريفة، ومصادر تستند إلى المصادر المقدسة، كالدستور، وقرارات وأحكام الولي الفقيه، وقوانين وقرارات مجلس الشورى الإسلامي، وهذه المصادر من النوع الثاني تستنبط تشريعاتها وموادها وأحكامها من المصادر المقدسة عبر عملية الاجتهاد. والنوع الثالث هي المصادر الوضعية، ولكنها مقبولة شرعاً، كالعرف والعادات والتقاليد الاجتماعية.

أما مصادر القانون الدستوري في الأنظمة الديمقراطية وضعية، وتتمثل ـ عادة ـ في الدستور، وتشريعات البرلمان وعموم القوانين العادية، وقرارات رئيس الدولة، والعرف والتقاليد الاجتماعية، إضافة إلى نظريات فقهاء الديمقراطية.

3 ـ النظام السياسي:

 في الأنظمة الديمقراطية لا دخل للدين في صياغة شكل النظام السياسي ومحتواه ومؤسساته والمواقع والمناصب التي تمارس السلطة، إضافة إلى شروط وصلاحيات من يتسلم هذه المواقع، بل كل ذلك يدخل في إطار رغبة الإنسان وفكره وإرادته، أي ـ كما ذكرنا من قبل ـ المحتوى والشكل البشري للنظام السياسي الديمقراطي.

أما في النظام السياسي الإسلامي، فإن الدين يتدخل في كل تلك الجوانب فمثلاً رئيس الدولة أو الفقيه الحاكم، فان الإسلام هو الذي يحدد لـه موقعه ومواصفاته

ـ(355)ـ

وصلاحياته، ولم تتدخل رغبة البشر وإرادته في ذلك، بل أن دور الإنسان هنا هو عملية اكتشاف هذا الموقع واستنباط مواصفاته وصلاحياته من الأصول الإسلامية المقدسة، وفي النتيجة تقنينها دستورياً وكان الإمام الخميني أبرز الفقهاء المعاصرين الذين بلوروا كل ما يتعلق بهذا الموقع وبنى النظرية السياسية الإسلامية عليه. يقول الإمام الخميني بأن «الشروط التي ينبغي توفرها في الحاكم نابعة من طبيعة الحكومة الإسلامية»(56) ويذكر شرطين مهمين لهذا الحاكم، وهما: العلم بالقانون الإسلامي، أي يكون فقيها في الشريعة الإسلامية، والعدالة، ويعتبرهما من أهم أركان الإمامة(57).

ومساحة ولاية هذا الفقيه العادل الذي نهض بأمر الحكومة الإسلامية، في أمور المجتمع، هي مساحة ولاية النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم نفسها، فهو يملك «من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام»(58) ويؤكد دستور الجمهورية الإسلامية موضوعي الشروط(59) والمساحة والصلاحيات نفسها(60).

أما كيفية تولي الفقيه لرئاسة الدولة، فهي تختلف عن النظام الديمقراطي على المستوى النظري لأن انتخاب رئيس الدولة الديمقراطية من قبل الشعب بشكل مباشر أو غير مباشر هو الذي يعطيه حق ممارسة السلطة في حين ان العملية تختلف على مستوى رئيس الدولة الإسلامية. فأبرز نظريتين في اختيار الولي الفقيه هما:

1 ـ الفقيه المنصوب، الذي تصدى بنفسه للأمر وأنشأ الحكومة، وكان فقيها عادلا، فهو هنا واجب الطاعة ولا دور للأُمة في تعيينه، لأن معين ـ أساساً ـ تعييناً نوعياً من قبل الإمام المعصوم عليه السلام على اعتباران الفقيه هو امتداد رشيد للنبي والإمام(6).

2 ـ الفقيه المنتخب، أي الذي تنتخبه، انتخاباً مباشراً أو غير مباشر(62).

والاختلاف هنا نظري محظ، ويكمن في دور انتخاب الأمة، أو البيعة، هل هي أساس شرعية الفقيه في ممارسة السلطة، أم ان الانتخاب هو عملية كشف ـ عند تعدد الفقهاء ـ تعلن فيه الأمة عن طاعتها. ولكن لا فرق بين النظريتين في النتائج، لأن الفقيه

ـ(356)ـ

العادل ـ دون غيره ـ هو الذي سيحكم دون عامة الناس، وسيكون واجب الطاعة، وسيمتلك مساحة الصلاحيات نفسها.

بيدان نظرية الإمام الخميني التي تبلورت في الدستور كانت أكثر دقة وعمقاً، إذ وجدت النظريتين وحققت مضامينهما معا. وكان الإمام الشهيد محمد باقر الصدر قد فصل هذا الموضوع في نظريته التي اسماها «خط الشهادة والخلافة »، والتي وجدت صدى واضحا في دستور الجمهورية الإسلامية، حيث جمع فيها بين اصل ولاية الفقيه التي هي استمرار لولاية الرسول والإمام واصل حرية الإنسان في الاختيار، أي اجتماع حاكمية الله تعالى المفوضة إلى الإنسان المتمثل في الفقيه(الشاهد)، بالإنسان أو الأمة(الخليفة)(63).

ومن هنا سمي النظام السياسي الإسلام بـ «النظام القيادي» في مقابل الأنظمة السائدة في الديمقراطية التقليدية، كالنظام الرئاسي والبرلماني ـ وهو ـ أي النظام القيادي ـ شكل جديد غير معروف قبل قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهو اختلاف عملي آخر بين النظام الإسلامي والأنظمة الديمقراطية، ففي الأخير ـ الأنظمة الرئاسية تحديدا ـ يكون رئيس الجمهورية المنتخب هو رئيس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية، في حين ان الفقيه القائد هو رئيس الدولة في النظام الإسلامي، أما رئيس الجمهورية فهو رئيس السلطة التنفيذية فقط.

كما لا وجود لحكم ائتلافي في النظام الإسلامي، يجمع في الحكومة الإسلامية علمانيين أو شيوعيين ـ مثلا ـ إلى جانب الإسلاميين، إذ لا يمكن للعلماني أو الشيوعي ان يكون وزيرا في الحكومة الإسلامية أو يكون رئيسا لها ـ بل ولا يمكن لحزب علماني ان يتسلم السلطة التنفيذية(الوزارة) أو السلطة التشريعية(البرلمان) في الحكم الإسلامي، حتى بحجة حرية المشاركة السياسية أو دخول الانتخابات أما في النظام الديمقراطي التقليدي فإن الحكم الائتلافي ممكن، ولا دخل للإيديولوجيات أو

ـ(357)ـ

الدين في تشكيلة الحكومة ـ وعلى مستوى تقسيم الشعب أيضا، فان الشريعة الإسلامية تتدخل في تقسيم الشعب إلى مسلمين وأهل ذمة وأهل عهد ـ مثلا ـ وفي المقابل لا يوجد هذا النوع من التقسيم ـ على أساس الدين ـ في الأنظمة الديمقراطية.

وعلى مستوى الانتخابات، فإنها أساس قيام النظام الديمقراطي، في حين انها في النظام الإسلامي، تأكيد على دور الأمة وإيمانها بالنظام الإسلامي وحريتها في اختيار ممثليها في السلطات، أي ان آلية الانتخاب ليس هي الأساس، حيث لا يكون المسؤول ـ ايا كانت مسؤوليته ـ مفوضاً من قبل الشعب، لأن الأخير ليس لـه الولاية لكي يفوضها لذلك المسؤول، بل ان الأخير يعمل وفقاً لتكليفهم الشرعي وواجبهم الديني، ولا يعمل وفقاً لما يريده الناخبون وعلى الرغم من ذلك فان المنتخبون في النظام الإسلامي يمثلون الأمة تمثيلا حقيقيا، دون تدخل أية تأثيرات إعلامية أو سياسية، لأن الشعب يمارس الانتخاب بشكل حر وحقيقي. في حين ان الشعب في النظام الديمقراطي يفتقد ـ كما يقولـه الإمام الخامنئي ـ حق الانتخاب الحر، ويخضع لتأثير وسائل الدعاية والإعلام وأساليب الخداع والتهريج، والتي تسد كل طرق الانتخاب الواعي والصائب بوجوه الناس(64). فضلا عن ان هؤلاء المنتخبين يمثلون الأكثرية التي صوتت لهم في الانتخابات، وهذه الأكثرية هي في الواقع أقلية نسبة(4) إلى عدد أفراد الشعب فغالباً ما تشترك فئة قليلة ممن يحق لهم التصويت ثم يقوم هؤلاء المنتخبون بممارسة دكتاتورية مميزة، تعرف بدكتاتورية الأكثرية أو طغيان الأكثرية،(65) وهي في الواقع دكتاتورية الأقلية. أما في النظام الإسلامي فهناك العديد جدا من الضمانات التي تحول دون ممارسة أي نوع من أنواع الدكتاتورية أو الاستبداد(وسنأتي على هذا الموضوع في فقرة قادمة).

ـ(358)ـ

مجالات التقاء الثيوقراطية بالنظام الإسلامي وافتراقها عنه

الثيوقراطية، وان كانت تنسب نفسها إلى الله تعالى وإرادته، إلا أنها ليست سوى نظام وضعي، أبدعت العقلية المسيحية البشرية، التي وجدت نفسها في ظروف تضطرها لدخول معترك الحكم وهي تحمل نظرية خاصة بها وقد فصلتها على مقاس الظروف التي كانت تعيشها. ومن هنا فقد شهدت النظرية الثيوقراية تحولات عدة وفقاً لتلك الظروف، قسمتها إلى أنواع ثلاثة، وفي كل نوع منها، تحاول ان تجدلها منفذاً للسماء تغلّف بها نفسه.وهذا الغلاف هو الذي جعل بعض علماء المسلمين يعتقد بأن النظام الإسلامي هو نظام ثيوقراطي(66). بالشكل الذي حاول فيه البعض ان ينسب النظام الإسلامي إلى الديمقراطي والحقيقة ان النظام الإسلامي ليس ثيوقراطيا ـ كما سنرى ـ ولا يمكن ان يكون ثيوقراطيا، على الرغم من وجود بعض نقاط اللقاء بين النظام الإسلامي والأنظمة الثيواطية. وأبرز نقاط اللقاء هذه، إضافة إلى نقاط الافتراق، نلخصها في المحاور الثلاثة التالية:

1 ـ المبنى النظري:

ويقف موضوع الحاكمية والسيادة في مقدمة موضوعاته، بل هو الأساس الذي تقف عليه النظرية الثيوقراطية. لأن الثيوقراطية التي افرزها فكر رجال الدين المسيحي لا تحتوي على نظام سياسي حقيقي، لأن المسيحية ـ كما يقول الإمام الخميني ـ «ليس فيها شيء سوى بضع نصائح أخلاقية، وهي تخلو من الأمور التي تختص بتدبير النظام والسياسة الحديثة والمدنية وقضايا البلدان وإدارتها. فلا يظنن أحد ان الإسلام يفتقد هو الآخر البرامج الخاصة بهذه الأمور»(67) وهي في الحقيقة ليست المسيحية، بل المسيحية الممسوخة. حين جعله مقتصرة على الأمور العبادية فقط(68) ومن هنا كان موضوع انتساب الحاكم الثيوقراطي إلى الإرادة الإلهية لا يعدو كونه حاجة زمنية ليفرض الحاكم نفسه، أو من وراءه، على الشعب، وليس لـه أصول نقلية في الديانة المسيحية.

ـ(359)ـ

 

أما في النظام الإسلامي، فإن ارتباط الحاكمية بالله تعالى وكونها امتداداً ربانياً إلى الرسول وصولاً إلى رئيس الدولة الإسلامية(الولي الفقيه)، هو من الثوابت التي استنبطها الفقهاء من الأصول الإسلامية المقدسة(القرآن الكريم والسنة الشريفة). وإذا دققنا في طبيعة نظرية الحق الإلهي المباشر، أي النوع الأول من الثيوقراطية المنسوبة إلى المسيحية، فسنجد ان موضوع السيادة الذي تدعيه، والمتمثل بالنصب المباشر للحاكم من قبل الله تعالى لا يلتقي مع كل رئيس للدولة الإسلامية، بل ان فيه خيوط عامة تلتقي مع طبيعة حاكمية الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم وأئمة المسلمين عليه السلام. في حين تعطي الثيوقراطية هذا الحق(أي النصب المباشر) لحكامها البشر. أما نظرية الحق الإلهي غير المباشر، المتمثلة في النصب غير المباشر للحاكم، أي ان الحاكم كيفما تم نصبه، فإنه هذا النصب هو في حدود إرادة الله تعالى ورعايته ورقابته. وهذه النظرية وان كانت تلتقي في النتائج مع طبيعة السيادة في النظام الإسلامي ـ برئاسة الفقيه دون الرسول أو الإمام ـ، على اعتبار ان المصدر النهائي لشرعية الحاكم هو الله سبحانه وتعالى. بيد ان الاختلاف يكمن في ان شرعية الولي الفقيه مستمدة في النظام الإسلامي من كونه نائباً للإمام المعصوم. أي ان العملية هي متسلسلة موضوعياً وامتدادات مترابطة، تدعمها النصوص المقدسة. أما الحاكم الثيوقراطي فهو يتسبب إلى الله مباشرة، دون أي قنوات أو امتدادات أو مسوغات شرعية. والاختلاف الآخر في موضوع السيادة، هو ان الحاكم في النظام الثيوقراطي مطلق وغير مسؤول وفوق القانون. في حين ان الحاكم(وليس الدولة) في النظام الإسلامي خاضع للشريعة الإسلامية وأحكامها وثوابتها، كما أنه مسؤول، ويتساوى مع كل فرد من أفراد الشعب أمام القانون(69).

2 ـ آليات التطبيق:

آليات استخدام السلطة في الأنظمة الثيوقراطية، بكل أنواعها، تتجسد في شخص

ـ(360)ـ

الحاكم فقد، بأنه صاحب السلطة المطلق والحاكم بأمره، فلا وجود لأي تعدد في السلطات ولا أي نوع من الشورية ولا وجود لدستور أو قانون أو مؤسسات سياسية دستورية، أي ان سلطات التنفيذ والتشريع والقضاء تتلخص في شخص الحاكم فقط، يمارسها وفقاً لرغباته وأرادته، دون ان توقفه شورى عند حده أو قضاء.

ويختلف النظام الإسلامي مع الأنظمة الثيوقراطية اختلافا كاملا في هذه النقطة، لأنه نظام يتمتع بعدد كبير من مجالس الشورى، والمجالس النيابية المنتخبة من قبل الأمة، إضافة إلى وجود دستور وقائي وعدد من المؤسسات السياسية، والسلطات(التنفيذية والتشريعية والقضائية) المنفصلة عن بعضها، ويمارسها أشخاص متعددون. ولا يمارس الحاكم هذه السلطات بنفسه، فهو وان كان ـ مثلا ـ يتمتع بصلاحيات تعيين القاضي، إلا ان الولي الفقيه ليس فوق القضاء، بل يمكن للقضاء محاكمته واستجوابه كأي فرد من أفراد الشعب. أي ان أشراف الولي الفقيه(الإمام القائد) على هذه المؤسسات والسلطات، لا يعني أنه يمارس حكماً مطلقاً من خلالها. بل ان مهمته هنا هي الأشراف والرقابة، دون انحراف هذه السلطات عن خط الإسلام، في مجالات التقنين والتنفيذ.

3 ـ موقع رجال الدين:

في النظام الثيوقراطي الكنسي يخضع النظام السياسي لسلطة رجال الدين على نحو مطلق، فهم الطبقة الحاكمة المتميزة، ويعرفون بـ(الاكليروس)، أي ان هذا النوع من يحكم هي حكومة رجال الدين، التي يسيطر فيها رجال الدين المسيحي على المجتمع سيطرة كاملة، ليس من منطلق كفاءتهم العلمية في الشريعة أو كفاءتهم الإدارية بل من منطلق كونهم طبقة حاكمة مفروضة، تمارس سلطة مطلقة في التشريع والتنفيذ والقضاء، ومن أبرز ما أفرزته السلطة الأخيرة(القضاء)، وان لم تكن سلطة مستقلة أصلا، ما عرف بمحاكم التفتيش. وكانت هذه السلطة المطلقة للكنيسة ورجالها، السبب

ـ(361)ـ

الرئيس في ظهور الفكر الغربي الحديث، المبني على اللادينية والعلمانية ولا لحادية، وشعارات فصل الدين عن الدولة وعن السياسة، وفصل رجال الدين عن آية سلطة مدنية، ورفض أي نوع من أنواع المجتمع الديني وغيرها، ثم تأسيس النظم السياسية والاقتصادية الحديثة في أعقابها، ابتداءً من الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، وانتهاءً بالدكتاتوريات الطبقية الماركسية، والتي كانت بمجملها ردود أفعال وردود أفعال مضادة.

أما في النظام الإسلامي، فلا وجود لحكومة رجال الدين، بل لا وجود لمصطلح رجال الدين، لأن لك مسلم هو رجل الدين، ولكن في الإسلام هناك علماء دين، أي المتخصصون في الشريعة، وهؤلاء لا يمثلون طبقة في الإسلام رغم دورهم المتميز في النظام الإسلامي. يقول الإمام الخميني: «هل يمكن ان يكون هناك إسلام دون علماء دين؟ وهل يمكنكم ان تفعلوا شيئاً دون وجود العلماء؟... ان قبول الإسلام من دون علماء دين كالقول بقبول الإسلام من دون سياسة... فلا يمكن ان يكون إسلام دون علماء دين، فالنبي نفسه كان عالم دين، لقد كان أعظم علماء الدين وعلى رأسهم طراً»(70) وواضح من كلام الإمام الخميني ان علماء الدين هم جزء من النظام الإسلامي، وبعضهم يقف على رأسه وليس النظام الإسلامي مختص بهم أو ان مسؤولياته تقتصر عليهم. فالسلطة التنفيذية(الحكومة) والسلطة التشريعية هما سلطة الشعب بأجمعه، وبإمكان أي مرد منهم مسؤولاً فيهما. وهما ما يؤكده الإمام الخميني بقوله: «ان لعلماء الدين دورهم، وللحكومة دورها أيضا فعالم الدين لا يريد ان يصبح حاكماً، لكنه يريد ان يكون لـه دور... ان لعالم الدين دوره، ويجب ان يقوم بهذا الدور، ولا يجب ان يكون رئيسا للجمهورية، ولكنه يمكنه ان يقوم بدور في موضوع رئاسة الجمهورية... وليس ضرور في أن يكون عالم الدين رئيسا للحكومة، ولكنه يؤدي في الدولة دورا مهما فإذا أراد رئيس الحكومة ان ينحرف فان العالم يمنعه من ذلك»(71). وهذا تأكيد آخر على

ـ(362)ـ

رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة(السلطة التنفيذية) يمكن ان تكون من نصيب عالم الدين أو أي فرد آخر من أفراد الشعب على حد سواء، فعالم الدين والمؤمن العادي متساويان في هذا المجال. بيد ان طبيعة الدولة الإسلامية ومصدر سيادتها وشرعية حكمها وقوانيها، تشترط ان تكون بعض المناصب خاصة بالفقهاء دون غيرهم، أي بالمجتهدين وليس بمطلق علماء الدين، وهي خمسة مناصب فقط: الولي الفقيه(رئيس الدولة الإمام القائد)، رئيس السلطة القضائية، المدعي العام للبلاد، نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور، وأعضاء مجلس خبراء القيادة. ومعيار تسنم هذه المناصب هو ان يكون من يشغلها فقيهاً عادلاً، لأن لهذه المناصب جوانب دينية محضة.

أما وجود عدد آخر من علماء الدين يشغلون مناصب في الدولة، وان كانت مناصب مدنية، فمعيار ذلك الكفاءة الإدارية والتخصص في موضوع المنصب، وليس لأنهم من علماء الدين، فأي شخص بإمكانه احتلال هذه المناصب من غير علماء الدين، وهو السائد في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن ذلك رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الشورى وغيرهما. وفي نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية حالياً لا يتجاوز عدد علماء الدين في المسؤوليات العليا نسبة 5 % من مجموع الوزراء والمعاونين والمستشارين والمدراء العامين وغيرهم. مثلا هناك ثلاثة وزراء فقط من مجموع(23) وزير ومعاون لرئيس الجمهورية. أما مجلس الشورى الإسلامي فمعظم أعضائه من غير علماء الدين، والمحكمة العليا كذلك، ونصف أعضاء مجلس صيانة الدستور هم من غير علماء الدين، والمحافظون يندر ان يكون بينهم علام دين، ومعظم السفراء هم من غير علماء الدين، ذلك لأن هذه المناصب وغيرها مفتوحة لكل أبناء الشعب، ويتم أشغالها أما بالانتخاب من قبل الشعب نفسه، أو بالتعيين في إطار معيار الكفاءة. والنتيجة فإن موقع علماء الدين في النظام الإسلامي يختلف عن دور رجال الدين في النظام الثيوقراطي الكنسي، وهو اختلاف أساس بين النظامين.

ـ(363)ـ

الاستبداد والدكتاتورية على وفق الأنظمة الثلاثة

تحاول الديمقراطية من خلال مختلف الأساليب تجنب الممارسات الاستبدادية والدكتاتورية في ممارسة السلطة وفي الوصول إليها، بل أنها جاءت لتقضي على الاستبداد والدكتاتورية، اللذين كانا يتمثلان في الحكومات الاتوقراطية والأرستقراطية المدعومة من قبل الكنيسة. ولكن في الواقع لازالت الديمقراطية عاجزة عن الحيلولة دون بروز أنواع من الدكتاتورية والاستبداد في إطار أنظمتها السياسية. ويبدأ هذا الاستبداد بالعملية الانتخابية وينتهي بممارسة الجماعة الفائزة للسلطة ففي العملية الانتخابية، لا يرشح سوى المنظمين إلى جماعات السياسيين المحترفين وأصحاب رؤوس الأموال والقادة الحزبيين، في قوائم حزبية، لا تمثل طبقات الشعب مطلقاً، بل تمثل تلك الجماعات، التي هي شكل أكثر تعقيداً، من أشكال الأرستقراطية السياسية والاقتصادية. وبالتالي فان الاستبداد الديمقراطي يبدأ من الترشيح للانتخابات، إذ لا علاقة للشعب بإقرار هؤلاء المرشحين، بل قوى الاستبداد التي تقف أما خلف الكواليس أو على المسرح وخلال عملية التصويت تمارس هذه القوى أشكالا أخرى من الاستبداد منها:

1ـ الاستبداد الدعائي والاضطهاد النفسي للمواطن، والذي لا يترك لـه أي مساحة من الحرية في التصويت، فضلا عن شراء الأصوات أو شراء أصوات بعض المتنفذين اجتماعيا واقتصاديا، مقابل مصالح شخصية محضة، وهؤلاء المتنفذين يقومون بالضغط على المواطنين بشتى الأساليب. وخلف هذا الاستبداد تكمن السيطرة الخفية على العملية الانتخابية.

2ـ التزوير في الأصوات وهي عملية سهلة، وتستخدم فيها أساليب مختلفة، ولاسيما ان القوى المسيطرة على الساحة السياسية تمتلك كل هذه الأساليب، بما فيها العصابة المسلحة والخطوط المائلة العاملة في هيئات الاشراف على الانتخابات.

ـ(364)ـ

والصراع على السلطة والنفوذ بين القوى السياسية والاقتصادية التي تحتكر الساحة وتتخفى وراء ستار الديمقراطية، هو إفراز طبيعي للنظم الرأسمالية الليبرالية، التي تحتاج فيه تلك القوي إلى تأمين مصالحها من خلال الإمساك بزمام السلطتين التنفيذية والتشريعية إضافة إلى شراء ما أمكن من ذمم سلطات القضاء. وبعد إمساكها بالسلطة، تمارس هذه القوة التي تدعي تمثيل الأكثرية، أعقد أنواع الدكتاتورية. فهي ان كانت تمثل الأكثرية حقيقة، فهذه الأكثرية تعني في أفضل الأحوال 50 % + 1 من الأصوات، أي ان هذه الأكثرية ستمارس دكتاتورية واستبدادا بالسلطة ضد الـ 50 % ـ 1 من أبناء الشعب، وتحرمها من أية ممارسة سياسية، سوى التعبير الشكلي عن الاعتراض وهو ما تنبه لـه المفكر الفرنسي «الكسس دي توكفيل» في وقت مبكر، وحذر منه في كتابه «الديمقراطية في أمريكا» الذي صدر جزء الأول عام 1835، وأسمى ذلك بـ «طغيان الأكثرية»، وهي في الواقع ليست الأكثرية الحقيقية، بل الأكثرية الظاهرية، واعتبر ان هذا الطغيان الذي يتستّر خلف الممارسة الديمقراطية، يشكل تهدياً خطيراً للحرية وبالتالي ينعكس على حرية الفرد، وبذلك فان هذا الطابع الدكتاتوري والاستبدادي للأغلبية.. كما يقول دي تو فيل ـ يعد «من أهم مشكلات المجتمع الديمقراطي»(72) وفضلا عن ذلك، فإن هذه الأغلبية هي ـ في الحقيقة ـ ليست الأغلبية ولا الأكثرية، بل أنها لا تمثل سوى أقلية ضئيلة قياسا بعدد الذين يحق لهم التصويت. فالحزب هو الذي يدخل الانتخابات يسيطر عليه مجموعة من السياسيين الذين يمثلون الكارتلات الاقتصادية الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال. وهذا الحزب هو الذي يرشح أعضائه لمجلسي النواب والشيوخ(أو البرلمان في الدول ذات المجلس الواحد)، وكذلك إلى رئاسة الجمهورية(في الدول ذات الأنظمة الرئاسية). فمثلا على مستوى انتخابات رئاسة الجمهورية، لا يشترك ـ عادة ـ أكثر من 30 % ممن لهم حق التصويت. ومن هؤلاء يصوّت ما يقرب من 16 % للرئيس الفائز، أي 8 % فقط من مجموع السكان. والنتيجة ان

ـ(365)ـ

أصوات 8 % فقط تعلو على أصوات 92 % وهؤلاء الـ 8 % يمارسون استبداداً(ديمقراطيا)! ضد الأغلبية الساحقة للشعب، من خلال الدعاية والإعلام والمخابرات والسياسة والاقتصاد. طبعاً في أحسن أحوال الممارسة الديمقراطية، وإلا فالرئيس المنتخب يمثل ـ في الواقع ـ حزبه والقوى المسيطرة على هذا الحزب. والنتيجة فإن هذه القوى التي لا تمثل أكثر من 1 % فقط من السكان، تدعي تمثيل أكثرية الشعب.

أما الثيوقراطية، فهي بالأساس تمثل حكماً استبدادياً مطلقاً، أما يكون حكم مجموعة مستبدة أو حكماً فردياً(اوتوقراطيا) متمثلا في الإمبراطور أو الأمير أو البابا. وهذا الحكم الفردي المطلق يعني تركيز كل سلطات الدولة في يد شخص واحد، فيكون هو المشرع وهو المنفذ وهو الذي يقضي، دون وجود أية شريعة أو قوانين تحده، وان وجدت فإنه بيده أبطالها أو تعطيلها أو تحريفها وتفسيرها كما يشاء. وقد أثبتت التجربة التاريخية للثيوقراطية، إنها كانت تمارس أبشع أنواع الاستبداد وسلب الحريات وكتم أي صوت ينطق باتجاه يخالف بشكل أو بآخر الاتجاه الحاكم. وما محاكم التفتيش إلا مؤسسة واحدة من مؤسسات الحكم الثيوقراطي، والتي كانت تأخذ على عاتقها التفتيش عن آراء الناس ومعتقداتهم في المجالات السياسية والدينية، وحتى مجالات العلوم النظرية والتطبيقية، وتحكم بالزندقة والكفر على من تريد التخلص منه، وهذا الحكم يعني الحرق أو قطع الرأس أو الشنق، أو الحبس المؤبد في أحسن الأحوال.

ونصل إلى النظام السياسي الإسلامي، فإن الإسلام إنّما جاء ليكون خاتم الرسالات والأديان والشرائع، وليحمل الحق والأخلاق والعدالة والخير والحرية للبشرية، ويقضي على كل ألوان الاستبداد والظلم ومن هنا فإن النظام السياسي المنبثق عنه يحمل هذه الصفات بالذات وبنظرة فاحصة إلى آليات استخدام السلطة في النظام السياسي الإسلامي نرى ان السلطات موزعة بشكل متوازن، وإنها ملزمة بقوانين

ـ(366)ـ

الشريعة الإسلامية، وملزمة برقابة الفقهاء، وملزمة أيضا برقابة الأمة، فلا تستطيع أية مؤسسة أو سلطة ـ مهما كان مستواها ـ الاستبداد في الحكم أو ممارسة الدكتاتورية، سواء كان الفقيه أو رئيس الجمهورية أو البرلمان فهناك ـ اذن ـ كوابح دستورية، حددها دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تحول بصورة حازمة وواضحة دون أي نوع من أنواع الاستبداد. وكذلك كوابح شرعية ومعنوية، حددتها الشريعة الإسلامية، وفي مقدمتها وجوب عدالة الحكام، فممارسة الاستبداد يناقض العدالة يسقطها عن الحاكم، وبذلك يسقط الحاكم وتسقط ولايته فور ممارسته الاستبداد، على اعتبار ان العدالة هي أحد أهم شروط الحكّام في الدولة الإسلامية. يقول الإمام الخميني: «وليس لأحد أن تكون بيده الحكومة(المطلقة) لا الفقيه ولا غير الفقيه، وإنّما الجميع يعملون طبقا للقانون، وهم مجرد منفذين لـه وحسب. والفقيه ليس فقط لا يريد ارتكاب مخالفة، وليس فقد لا يريد فرض سيطرته على الحكومة، وإنّما يريد إلا يسمح لهذه الحكومات بأن تعود إلى ما كان عليه الوضع سابقا، والى الوضع الطاغوتي والدكتاتوري، ويريد ان يمنع من حصول ذلك»(73). ويضيف في خطاب آخر: «الحكومة الإسلامية هي الحكومة التي تأتي لمحو الدكتاتورية، وان الشخص الذي يفوضه الإسلام للحكم يخالف الدكتاتورية انطلاقاً من دينه، فدينه يحكم عليه بعدم انتهاج الدكتاتورية»(74).

والحقيقة ان ما يذهب إليه العلمانيون من الربط بين الحكم الديني والاستبداد، لا ينطلق من قراءتهم الموضوعية لواقع الحكم الإسلامي في إيران، بل من التجارب التاريخية للحكومات التي قامت باسم الدين، وسواء تجربة الحكم الثيوقراطي المسيحي، أو الحكم السلطاني المسلم. وفي هذا المجال يتساءل الإمام الخامنئي: «كيف يمكن ان تكون الحكومة الإلهية شعبية أيضا؟ وهل ان عبارة الجمهورية الإسلامية التي تجمع بين الحكومة الإسلامية والحكومة الشعبية، هي عبارة صحيحة، أم فيها شيء من التسامح؟.

في الواقع ان لقضية التناقض المدعى وجوده بين الحكومة الإسلامية والحكومة

ـ(367)ـ

الشعبية سوابق تاريخية. فطيلة التاريخ الماضي كانت معظم الحكومات التي قامت باسم الدين حكومات استبدادية، كما تدل على ذلك المعطيات التاريخية، بحيث أنه لم يكن للشعب والرأي العام فيها أي دور يذكر»(75). وحول عدم وجود أية أرضية للاستبداد في الحكومة الإسلامية، نورد الأمثلة التالية.

1ـ ان العدالة هي إحداهم شرطي الولي الفقيه(القائد)، فإذا سقطت عدالته سقطت ولايته وسلبت ذاتيا. وتسقط هذه العدالة ـ كما يقول الإمام الخميني ـ حتى إذا «تفوه الفقيه بكلمة كذب واحدة أو أقدم على خطوة انحارفية واحدة»(76)، أو مارس أي نوع من أنواع الظلم، حتى لو ضد فرد واحد من أفراد الشعب. وبذلك يمكن للأُمة، من خلال مجلس الخبراء، عزل الفقيه(الإمام القائد) عن منصبه إذا فقد عدالته وتقواه واستبد بالأمر، وإذ فقد أي شرط من شروط الولاية(77). لأنه «الولاية هنا لا تقوم على أساس القهر والغلبة، وإنّما تتحقق بتحقق شروطها... وهي شروط تقود تصرفات ولي الأمر نحو الخط الصحيح، وتدع الأمة مراقبة لـه ولتوفر الشروط فيه»(78).

2ـ وضع الدستور أكبر مجلس استشاري للفقيه(الإمام)، هو مجمع تشخيص مصلحة النظام، ليرسم سياسات الدولة العليا من خلاله. كما ان المجلس الأعلى للأمن الوطني هو الذي يقر السياسات الدفاعية والأمنية للدولة، وينفذها بعد مصادقة الفقيه عليها. اذن... من خلال هذه النقطة والنقطة الأولى لن تبقى أية أرضية لاستبداد رئيس الدولة(الفقيه).

3ـ ان الأمة، من خلال مجلس الشورى الذي تنتخبه، بإمكانها عزل رئيس الجمهورية عن منصبه. بعد إمضاء الفقيه. كما يستطيع الفقيه(القائد) عزل رئيس الجمهورية إذا صدر ضده حكم من قبل المحكمة العليا. وبذلك لا يستطيع رئيس الجمهورية ان يستبد في السلطة كما ان مجلس الوزراء بجمعه والوزراء كل على حدة، يخضعون لمراقبة مجلس الشورى الإسلامي. وفي هذا المجال يقول الإمام

ـ(368)ـ

الخميني: «ان الذي يحول دون تحول رئيس الجمهورية إلى دكتاتور، لا يسمح لقائد الجيش أو الشرطة أو الدرك أو رئيس الوزراء بأن يمارسوا الدكتاتورية إنّما هو الفقيه. ان الفقيه الذي عينته الأمة وجعل إماما لها هو الذي يريد إزالة الدكتاتورية ومكافحة مظاهرها، ويجعل الجميع ينطوون تحت راية الإسلام ويقيم حكومة تتبع القانون»(79).

ويقول الإمام  في مكان آخر: «لو صفع رئيس الجمهورية شخصا فثرا دونما سبب أو حق، فقد سقط وانتهت رئاسته للجمهورية، وعليه ان يتنحى عن منصبه، ويأتي ذلك الشخص المضروب فيصفعه على وجهه واحدة بواحدة»(80).

4ـ ان قوانين مجلس الشورى الإسلامي خاضعة لرقابة فقهية ودستورية من قبل مجلس صيانة الدستور وبذلك لا يستطيع البرلمان الاستبداد بقراراته وقوانينه.

5ـ ان قرارات مجلس صيانة الدستور ـ هي الأخرى ـ ليست نهائية، بل تعود لمجلس الشورى لإصلاحها، وإذا أصرّ الطرفان على رأييهما، ترفع القضية إلى مجمع تشخيص المصلحة. وبذلك لا يمكن لمجلس الصيانة الاستبداد بقراراته.

6ـ ان العدالة هي أحد أبرز شرطي رئيس السلطة القضائية، وممارسته لأي فعل يناقض العدالة، فإن يعزل من قبل الفقيه(القائد) وآنذاك لا يستطيع رئيس القضاء الاستبداد في حكمه، على الرغم من صلاحياته الواسعة، التي تطال حتى رئيس الدولة(الفقيه).

7ـ ان الفقهاء العدول بأجمعهم يراقبون الحكومة في ممارستها للسلطة، ويحدون من أخطائها، «وربما نقضوا حكمها في الموارد التي يكون فيها نقض الحكم أقل مفسدة من الخطأ الذي وقع فيه حكمها، ويكون عصيان الحاكم أفضل من تفادي مضاعفات الانشقاق بمجاراة أخطائه في نظرهم»(81).

8ـ ان الأمة تمارس مع جميع سلطات الدولة، واجب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أسمى أنواع الرقابة الشعبية. وهذا الموقع الراقي الذي منحه

ـ(369)ـ

الإسلام للأُمة، أي موقع الخلافة الذي يسمح لها باختيارـ في عصر الغيبة ـ ومراقبتهم ومحاسبتهم، لم تخط به أي من الأمم في أرقى المذاهب الاجتماعية ومن خلال ذلك نجد ان الإسلام ونظامه السياسي، وضع على مستويي النظرية والتطبيق، العديد من الضمانات الشرعية الدستورية، التي تحول دون ممارسة السلطات الحاكمة، مهما كانت صلاحياتها لأي شكل من أشكال الاستبداد أو الدكتاتورية أو الظلم أو الانحراف، بالصورة التي لم يتوصل إليها فقهاء الديمقراطية، إذ لا تمتلك الأنظمة الديمقراطية غير الانصياع لخيارها الوحيد، وهو حكم ممثلي الأغلبية البرلمانية، ولا تمتلك الديمقراطية أية ضمانات حيال ممارسة الأغلبية البرلمانية، سواء على مستوى السلطة التشريعية(البرلمان نفسه) أو السلطة التنفيذية(مجلس الوزراء )، ما يحلو لها من ممارسات استبدادية وديكتاتورية(82).

النتائج:

المعالجات المختصرة التي مرت، تقودنا إلى نتائج نحسبها موضوعية، تلخص طبيعة العلاقة بين الأنظمة السياسية الإسلامية والديمقراطية والثيوقراطية، هي:

1ـ البشرية تمتلك كثيرا من الخيارات، وليس خيارين فقط لا ثالث لهما، كما يصوّرون لها، وهما: الديمقراطية أو الدكتاتورية، فإن لم تحكمها الديمقراطية حكمتها الدكتاتورية. هذه الحتمية خاطئة تماما. وحقاً لو لم يكن أمام البشرية سوى خيار الديمقراطية والدكتاتورية، فلتختر الديمقراطية، لأنها أهون الشرين. ولكنها ـ في الحقيقة ـ تمتلك خياراً ثالثاً، ذلك هو خيار النظام الإسلامي، الذي هو نظام متكامل يستوعب كل مجالات الحياة، ويرافق الإنسان، من ولادته وحتى موته.

2ـ ان النظام الإسلامي ليس ديمقراطيا ولاثيوقراطياً، ولا يتمثل نظاما توفيقياً أو توليفياً، ليس من منطلق مجافاة الديمقراطية أو معاداة الثيوقراطية، بل أنه نظام مستقل

ـ(370)ـ

تماما ومن نوع آخر، أسمه «النظام الإسلامي» دون آية مسميات وضعية أخرى، وان كان يشترك في بعض النقاط العامة ـ أو يختلف ـ مع الأنظمة الديمقراطية والثيوقراطية. كما ان أسلوبه في ممارسة الحكم لا يشبه الأنظمة المألوفة، وان اشترك مع النظامين الرئاسي والبرلماني في بعض النقاط، إلا أنه أيضا يشكل نظاما جديدا ومستقلا، هو «النظام القيادي» وبذلك فالنظام الإسلامي يشكل على مستوى مناهج القانون والسياسة، إضافة جديدة لمادتي «النظم السياسية» و«القانون الدستوري» ـ فمن الخطأ ـ أذن ـ القول بالنظام الإسلامي الديمقراطي أو النظام الإسلامي الثيوقراطي، أو الثيوقراطية الإسلامية الديمقراطية، في محاولة للتوفيق ـ عبثا ـ بين الفكر الإسلامي والأفكار الوضعية الأخرى فهذا التوفيق يحاول قسرا ان يضع عقيدة ورسالة سماوية ونظاما متكاملا إلى جانب تجارب تاريخية أو أفكارا اجتماعية بشرية أو آليات حكم وضعية، في حين ان تلك العقيدة ليست بحاجة إلى هذه التجارب أو الأفكار، وان استفادت من بعض آلياتها الفنية المحايدة، فلا يعني التسمي بسمياتها. والانكى من كل ذلك ان يذهب بعض المفكرين والكتاب إلى تشبيه النظام الإسلامي الذي يقف على أساس ولاية الفقيه، بالنظام الثيوقراطي، والنظام الإسلامي الذي يقف على أساس الشورى، بالنظام الديمقراطي. والتشبيهان خاطئان تماماً كما مر في معالجات هذا البحث.

3ـ ان النظام الإسلامي هو الصيغة الإلهية للحكومة التي أرادها الله تعالى للبشرية، والله(عز وجل) أعلم بمصالح عباده. وهذا النظام يستقي غاياته وأهدافه ومنطلقاته الفكرية ومضمونه وشكله وطبيعة ممارسته للسلطة، من مصدرين مقدسين هما: القرآن الكريم والسنة المطهرة(سنة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليه السلام وفقاً لنظرية الشيعة الإمامية) في حين ان النظام الديمقراطي هو تجربة بشرية، وكذا النظام الثيوقراطي، وان نسب نفسه للدين.

ـ(371)ـ

4ـ المعيار في سلامة النظام الإسلامي ليس ديمقراطيته، وليس نجاحه المادي أو عصريته بالمعنى الوضعي للعصرية، بل المعيار في سلامته يمكن في مقدار أدائه للتكليف الرباني، والتزامه بمبادئ الإسلام وشرع الله تعالى. فالديمقراطية التي هي مجرد صغية بشرية، لا يمكن ان تكون معياراً في تقييم نظام الهي متكامل، بل وفي تقييم أي فكر أو نظام اجتماعي بشري آخر، فالديمقراطية لا يمكن ان تكون خصماً وحكماً ومعياراً. إنّما المعيار ـ على وفق المقاييس البشرية ـ هو ما يمنحه كل نظام من حقوق وحريات وسعادة(دنيوية) للبشرية.

5 ـ النظام الإسلامي يجمع بين أصالة النظرية والتشريع، وبين عصرية الآليات والأساليب الفنية وهو افضل تعبير عن إمكانية الشرعية الإسلامية على استيعاب متطلبات العصر، والاستجابة لحاجات الإنسان الجديد، ومنحه النظام الاجتماعي الأفضل، الذي يحقق لـه سعادة الدنيا والآخرة، وبذلك فإن مضامينه وأساليبه وتوازنه، ودور الأمة فيه، لا ترقى إليه أعظم الديمقراطيات في تاريخ البشرية وواقعها، حتى بالمقاييس البشرية السائدة(83).

ـ(372)ـ

__________________________________

المصادر والمراجع:

أولا: الكتب

1 ـ امام، امام عبد الفتاح، الطاغية... دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1994 م.

2 ـ بدوي،(الدكتور) ثورت، النظم السياسية ج 1، النظرية العامة للنظم السياسية، دار النهضة العربية، القاهرة ـ 1970 م.

3 ـ التسخيري، الشيخ محمد علي، الأسس المهمة في النظام الإسلامي، دار الحق، بيروت 1993م.

4 ـ توشار، الدكتور جان وآخرون، تاريخ الفكر السياسي، ترجمة: الدكتور علي مقلد، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ 1987م.

5 ـ الجمل، الدكتور يحيى، الأنظمة السياسية المعاصرة، دار النهضة العربية، بيروت 1969م.

6 ـ الحائري، السيد كاظم، أساس الحكومة الإسلامية، الدار الإسلامية، بيروت 1979 م.

7 ـ خالد، خالد محمد، الديمقراطية..أبدا ! مؤسسة الخانجي، القاهرة، دار اليقظة العربية، دمشق 1958 م.

8 ـ الخامنئي الإمام السيد علي، الحكومة في الإسلام، ترجمة: رعد هادي جبارة، دار الروضة، بيروت 1995 م.

9 ـ الخميني الإمام السيد روح الله الموسوي، الحكومة الإسلامية، المكتبة الإسلامية الكبرى، طهران(د. ت).

10 ـ الخميني الإمام السيد روح الله الموسوي، صحيفة نور ج 1 و 3 و 5 و 9 و 10 و 11، وزارت فرهنگ وإرشاد اسلامي، طهران.

11 ـ الخميني الإمام السيد روح الله الموسوي، مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، مؤسسة الوفاء، بيروت.

12 ـ دستور الجمهورية الإسلامية في إيران بعد التعديل، منظمة الإعلام الإسلامي، ط 2(منقحة)، طهران ـ 1992 م.

13 ـ الشاوي، الدكتور توفيق محمد، فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة وقراءة في فكر الثورة الإيرانية، منشورات العصر الحديث(د. م) ط 1 ـ 1995 م.

ـ(373)ـ

14 ـ شمس الدين، الشيخ محمد مهدي الاجتماع السياسي الإسلامي، دار الثقافة للطباعة والنشر، قم 1994 م.

15 ـ ظاهر الدكتور احمد جمال، دراسات في الفلسفة السياسية، مكتبة الكندي، أربد 1988 م.

16 ـ عبد الرزاق علي، الإسلام وأصول الحكم، تحقيق: الدكتور محمد عماره، المؤسسة العربية للدراسة والنشر، ط 1، بيروت ـ 1972 م.

17 ـ الكيالي، الدكتور عبد الوهاب وآخرون، موسوعة السياسة ج 2 1981 م وج 4 1986 م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

18 ـ لجنة من الباحثين، المنهج في دراسة الدولة الإسلامية، ملحق مجلة التوحيد العدد 80، مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي، قم 1996 م.

19 ـ الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد، الأحكام السلطانية، مطبعة الحلبي، القاهرة 1996 م.

20 ـ مجموع كتاب، مقالات المؤتمر الرابع للفكر الإسلامي، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران 1986 م.

21 ـ مدني، الدكتور جلال الدين، حقوق أساسي در جمهوري اسلامي إيران ج 1، انتشارات سروش، ط 3، طهران 1365 هـ ش.

22 ـ مطهري، الشيخ الشهيد مرتضى، پيرامون انقلاب اسلامي، انتشارات صدرا، قم 1363 هـ ش.

23 ـ المعاونية الثقافية في منظمة الإعلام الإسلامي أعداد، حيث الشمس، ترجمة: رعد جباره، منظمة الإعلام الإسلامي، ط 1، طهران 1992 م.

24 ـ المنتظري، الشيخ حسين علي، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية ج 1 و ج 2، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، ط 2، قم 1409 هـ.

25 ـ المودودي، الشيخ أبو الاعلي، نظرية الإسلام وهدية في السياسة والقانون والدستور، مؤسسة الرسالة، بيروت 1969م.

26 ـ موسى، فرح، سلطة الفقهاء وفقهاء السلطة عند الإمام الخميني... دراسة تحليل مقارنة، دار الوسيلة، ط 1، بيروت 1995 م.

27 ـ نوري، الشيخ حسين جمهوري اسلامي، مركز نشر كتاب مصطفوي، قم(د.ت).

28 ـ هاشمي، الدكتور السيد محمد، حقوق أساسي جمهوري اسلامي إيران ج 2، حاكميت ونهادهاي سياسي، مجتمع آموزش عالي قم، ط 2، قم ـ 1375 هـ. ش.

29 ـ الهاشمي، السيد محمود، مصدر التشريع ونظام الحكم في الإسلام، سلسلة من هدى الإسلام 6، قم 1408 هـ.

ـ(374)ـ

ثانيا ـ المقالات:

1 ـ الأمين السيد محمد حسن، بين الشورى والديمقراطية، مجلة المنطلق بيروت، العدد 98 كانون الثاني: يناير 1993 م.

2 ـ شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، العلمانية... الشورى.. المجتمع المدني والشريعة حوار، مجلة منبر الحوار بيروت، العدد 34، خريف 1994 م.

3 ـ عميد زنجاني، الشيخ عباس علي، حق المشاركة في صياغة النظام السياسي والاجتماعي مجلة التوحيد طهران، العدد 28، نيسان ـ حزيران 1987 م.

4 ـ عميد زنجاني، الشيخ عباس علي، مجالس الشورى العمود الفقري للنظام السياسي الإسلامي، مقالات المؤتمر الرابع للفكر الإسلامي، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران 1986 م.

5 ـ كديور الشيخ محسن، نظريه هاي دولت در فقه شيعه، مجلة راهبرد طهران، العدد الرابع، خريف 1373 هـ. ش.

6 ـ لاريجاني، الدكتور محمد جواد، حكومت ديني كارآمد يا دمكراسى مشروع(حوار)، مجلة كيان(طهران العدد 30 ارديبهشت وخرداد 1375 هـ ش.

7 ـ الموسوي الدكتور محسن، الشورى والديمقراطية بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، مجلة الكلمة بيروت، العدد 10، شتاء 1996 م.

8 ـ المؤمن، علي، معالم النظرية السياسية في الإسلام ق 1، 2، مجلة التوحيد(طهران)، العدد ان 31 و 32، تشرين الأول ـ كانون الأول 1987 م، وكانون الثاني ـ شباط 1988 م.

9 ـ هويدي، فهمي، الإسلام والديمقراطية، مجلة المستقبل العربي(بيروت)، العدد 656، السنة 15، كانون الأول: ديسمبر 1992 م.