الواقعية والوحدة الإسلامية (الفكر والتطبيق)

الواقعية والوحدة الإسلامية (الفكر والتطبيق)

 

 

الواقعية والوحدة الإسلامية

(الفكر والتطبيق)

 

خميس بن راشد بن سعيد العدوي

سلطنة عمان           

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن لـه كفوا أحد، والصلاة والسلام على النبي الأكرم، الذي جاء برسالة التوحيد إلى أمته، وعلى صحبه الكرام، وآله الأطهار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يقوم الناس.

أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد...

فواقع المسلمين اليوم نزل إلى الدرك الأسفل من التمزق والتشرذم، وحل محل التسامح، وتقطعت الأواصر، فلم تعد هناك وشائج تربط بين طوائف المسلمين وشعوبهم، بل أصبح غاية أحدهم ان يلتقط الخلاف من هنا وهناك ليبثه عبر وسائل الأعلام المتاحة وما أكثرها في هذا الزمن، لتتقد نار التفنة ويهيج

ـ(150)ـ

أوارها وتضطرم نارها والله تعالى يقول: ﴿والفتنة أشد من القتل﴾(1) ويقول جل ثناؤه: ﴿والفتنة أكبر من القتل﴾(2) وقد تنزل القارعة بطائفة من المسلمين فيفرح بها بنو جلدتهم في حين تبكي عدوهم، ويشمت بهم إخوانهم ويغيثهم أعداؤهم، وهذا من بلاء الزمان وذهاب الريح والرضا بالقليل، لم نعد أمة وسطا كما أرادها الله تعالى ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً﴾(3).

وللحق هذا الأمر لم يكن وليد الساعة، ولا كله نتيجة المؤامرات الخارجية، فهذا الواقع الذي وصلنا إليه   (4) ضارب في القدم، متشعب في المراجع، واصله ـ ولا ريب ـ الفتنة التي حدثت بين المسلمين في الصدر الأول بعد العهد النبوي والراشدي، وليس لنا ان نحاكم التاريخ فالأحكام التي ستصدر فيه لن تطبق عليه بل سيكتوي بنار شدّتها واقعنا المرير، وسيزداد الأمر سوءاً والرمضاء لهيباً والعطش سعاراً، وإنّما علينا ان نطوي تلك الصفحات المؤلمة ونقيل عثرتنا بالأخذ من علمهم وأقوالهم وآرائهم التي تخدم الدين في عقيدته وفكره وشريعته.

لقد نزلنا من جراء هذه الفتنة من الحركة الفاعلة للإسلام بقرانه العظيم وسنته المطهرة إلى الجدل والنقاش الحاد والردود المتكررة التي لا تغني ولا تسمن من

­­­­_________________________

1 ـ سورة البقرة: 191.

2 ـ سورة البقرة: 217.

3 ـ سورة البقرة: 143.

4 ـ هذا ما هو طاف على السطح، ولا يتنافى مع الدعوات الموجودة إلى الوحدة الإسلامية، فهي أصبحت من القلة بحيث لا تكاد ترى، وأنا آسف على هذا المدخل الذي قد يجعلني في عداد المتشائمين، فتصرفات المسلمين الحاضرة تزرع عدم التفاؤل في القلوب، ومع هذا فستجد في ثنايا البحث ما يعالج الموضوع، وستجد ما يدعو إلى التفاؤل أيضاً إن شاء الله.

ـ(151)ـ

جوع، بل هي سراب بقيعة يحسبه الضمان ماء حتى إذا جاءه لم يجد عنده شيئاً.

وأصبح الفكر الإسلامي يتململ طيلة قرون عديدة ـ ما عدا مواقف محدودة زمانا ومكانا جديرة بالفخر والاستفادة منها ـ يبحث عن حل لازمته هذه، حتى جاء عصر الصحوة الإسلامية وبدأت مراجعة ما كتب على جميع المستويات، وخرج لنا علماء أفذاذ ومفكرون أقطاب بكتابات مستنيرة وآراء سديدة وتشخيص للقضايا دقيق وحلول ناجعة لأمراض الأمة، وما جاء به هؤلاء وان كان جديداً في ثوبه مبتكرا في عرضه، إلا انه قديم في تأصيله، فهو منطق القرآن الكريم منذ نزل به الأمين جبريل عليه السلام على قلب الأمين محمد عليه الصلاة والسلام، وهو التطبيق العملي الذي سار عليه الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وصحابته الكرام.

فخصائص الإسلام موجودة فيه منذ هبوط الوحي على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بل هي اقدم من ذلك، فهي موجودة كخصائص في شرائع الأنبياء السابقين وان كانت غير مكتملة لعدم اكتمال شرائعهم.

وما قام به هؤلاء العلماء والمفكرون هو صياغته في قوالب علمية وقوانين واقعية واكتشاف جديد لهذه الخصائص.

أثر هذا الكشف في واقع الصحوة الإسلامية وأعطاها دفعة نشاطة نحو الأمام، وكادت ان تؤدي الصحوة أطيب ثمراتها وتكسي المسلمين ازهى حللها وهي الوحدة أو الجامعة الإسلامية، لولا إنها وئدت قبل ذلك من قبل مثيري الفتنة ومن يحب ركود المسلمين ويقدم هدايا مجانية لأعداء دين الله تعالى على حساب دينه وإخوانه وبني جلدته، فأنا لله وأنا إليه راجعون.

فإليكم أتوجه أيها العلماء والمفكرون، وأحملكم تبعة الأمة وصلاح أمرها، وعليكم انتم تقع المسؤولية في بناء الأمة واستثمار قوتها الشبابية في الإصلاح

ـ(152)ـ

والبناء والعمران الإسلامي، وبوحدة كلمتكم وقوة صفكم وصلابة رأيكم في الحق وتسامحكم فيما بينكم تفوتون الفرصة على أعداء الداخل والخارج.

ليس مثلي من يقول لكم هذا الكلام، فأين الثرا من الثريا؟ وأين الضريح من الضراح؟ ولكنها خلجات نفس تحب الخير لهذه الأمة وتود ان ترى الأمة أمة واحدة، وكلمتها على عدوها ظاهرة، تصنع العالم وتقوده، وتضخ فيه الأخلاق العظيمة، أخلاق الإسلام والرسالة ﴿وإنك لعلي خلق عظيم﴾(1).

وعندما رشحت لهذه المهمة من قبل مؤسستي كنت متهيبا الأمر، فهذا أمر قد تصدى لـه عباقرة الأمة وافذاذها، ولكن ما شرح صدري للموافقة على الكتابة، هو ـ أولا ـ محبتي للوحدة الإسلامية وثانيا رغبتي في التعلم من أعلام إجلاء وعلماء فضلاء وعاملين نبهاء، فالحمد لله أولا وآخرا.

فرجائي ان كان هناك ما ينبغي التنبيه عليه في هذا البحث المتواضع ان تنبهوني عليه وتعلموني صوابه من خطئه وصحيحه من سقيمه ولكن بالتي هي أحسن، فليس بين أيديكم إلا طالب علم صغير.

والله الموفق لما يحب ويرضى.

الإسلام مدارس وليس فرقا

سأكتب عن الواقعية كخاصية من خصائص الإسلام العامة في خدمة الوحدة الإسلامية، وقبل الولوج في هذا الموضوع، أريد أن أبين بأننا علينا ان نعتبر المذاهب الإسلامية مدارس وليس فرقا، لكل مدرسة أساليبها وطرائقها ومناهجها،

____________________

1 ـ سورة القلم: 4.

ـ(153)ـ

كلها تستقي من مصدر واحد وتصب في غاية واحدة، مصدرها الكتاب والسنة والإجماع وغايتها رضوان الله تعالى والسعادة في الدنيا والعقبى.

والأساليب والطرائف تختلف من مدرسة إلى أخرى باختلاف ظروفها وحاجتها، وفي هذا العصر الذي تداخلت فيه مجريات الحياة وتشابكت مصالح الناس، علينا ان نستفيد من المدارس جميعها، ونحاول ان ننقل الخبرات من مدرسة إلى أخرى، والواجب علينا ـ أيضاً ـ احترام رموز كل مدرسة، ولا نستنكف من ان نأخذ الحق من أي رمز كان، فالحق ضالة المؤمن أين وجدها فهو أولى بها، وعلينا ان ننتصر للدليل لا للرجال، يقول العلامة أبو الحسن البسيوي: (1).

 (فحصت الأديان ظهرا أو بطنا فلم أجد دينا أصفى من ديننا ولو علمنا غيره خيرا منه لما سمحنا لجهنم بأنفسنا، فعلينا في عصرنا هذا وبعد زماننا ان نعتصم بحبل الله ) (2).

فالمؤمن لا يضره ان يترك ما في يديه ان كان في تركه لـه نجاته، كما ان عليه ان يعرض ما عنده على الآخرين حتى يستفيدوا منه، فالعلم ملك للجميع.

من هذا المنطلق، فمن واجبي نحو اخوتي المسلمين ان اعرفهم بما عليه مدرسة الاباضية، (3) كما ان من واجبهم ان يعرفوني بما عليه مدارسهم، لنلتقي

____________________________

1 ـ هو العلامة الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن علي البسيوي العماني نسبه بسبا من أعمال ولاية بهلا، تلميذ العلامة الكبير الإمام أبي محمد ابن بركة البهلوي، وأبو الحسن علامة أصولي مجتهد من أقطاب المذهب الاباضي، لـه العديد من المؤلفات، أهمها جامع أبي الحسن البسيوي، وهو من علماء القرن الرابع الهجري.

2 ـ العقود الفضية في أصول الاباضية، سالم بن حمد الحارثي، ص 169، ط وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان.

3 ـ نحن نستخدم هنا وفي غيرها من الكتابات الألقاب المذهبية للدلالة على المدارس ليس أكثر، من باب قولـه تعالى: ﴿وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير﴾« الحجرات13»

ـ(154)ـ

حول مواطن اللقاء وما أكثرها، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، ولا اظن اننا اختلفنا إلا في الفروع، والفروع مختلف فيها من العهد الأول للإسلام (عهد الصحابة) ولكنه كانت رحمة في ذلك العهد، فلأي شيء ندعها تكون نقمة علينا؟! والعياذ بالله.

وهنا أريد ان أفصح عن نظرية علمية قال بها العلامة علي يحيى معمر (1) وهي «المعرفة والتعارف والاعتراف» وإني أدعو المسلمين جميعاً للأخذ بها، ولندع العلامة معمر يتكلم عنها: (وأنا على يقين في نفسي ان المذهبية في الأمة الإسلامية لا تتحطم بالقوة ولا تتحطم بالحجة ولا تتحطم بالقانون، فإن هذه الوسائل لا تزيدها إلا شدة في التعصب وقوة في رد الفعل، وإنّما تتحطم المذهبية بالمعرفة والتعارف والاعتراف.

فبالمعرفة: يفهم كل واحد ما يتماسك به الآخرون، ولماذا يتمسكون به ؟

وبالتعارف: يشتركون في السلوك والأداء الجماعي للعبادات.

وبالاعتراف: يتقبل كل واحد منهم مسلك الآخر برضى، ويعطيه مثل الحق الذي يعطيه لنفسه (اجتهد فأصاب أو اجتهد فاخطأ).

وفي ظل الأخوة والسماح تغيب التحديات وتجد القلوب نفسها تحاول ان تصحح عقيدتها وعملها بالأصل الثابت في الكتاب والسنة غير خائفة ان يقال عنها تركت مذهبا أو اعتقدت مذهبا.

_____________________________

1 ـ الشيخ علي يحيى معمر من مواليد مدينة تالوت بليبيا سنة 1919 م، تلقى العلم بمسقط رأسه، ثم في جزيرة جربة التونسية، فمعهد الحياة بالقرارة (الجزائر)، ودرس في جربة ومعهد الحياة، ورجع إلى بلده ليبيا سنة 1945 م، كان نشيطا في الحقل الديني والأدبي والاجتماعي والتاريخي، لـه مقالات عديدة في الصحف والمجلات في هذه المجالات، بالإضافة إلى ذلك أغنى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات التي تزيد عن 17 مؤلفا، توفي عام 1400 هـ : 1980م.

ـ(155)ـ

ولن نصل إلى هذه الدرجة حتى يعترف اليوم اتباع جابر وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزيد وجعفر وأحمد وغيرهم لمن يقلدهم الناس ان أئمتهم أيضاً يقفون في صعيد واحد لا مزية لأحدهم على الآخرين إلا بمقدار ما قدم من عمل خالص لله ) (1).

ويعلق الشيخ محمد بن ناصر بو حجام (2) على هذه النظرية بقوله:

 (لهذا يرى الشيخ علي ان المعرفة التي تتوفر للمسلمين عن كل مذهب، والتعارف الذي يتم بين معتنقي المذاهب، والاعتراف الذي يكون شعار كل فرد في كل المذاهب، كل ذلك يشعر الجميع انهم يسيرون في خط واحد، ويهدفون إلى غاية واحدة، وهي خدمة الإسلام ورفع كلمة الله، وبالتالي يؤمنون بضرورة الترفع عن سفاسف الأمور وعدم البقاء في دائرة الأمور الهامشية، والارتفاع إلى مستوى عظمة الرسالة) (3).

اعتقد ان هذه النظرية الموضوعية كفيلة ان تصلح من شان الواقع وترتقي به إلى الأحسن، وقد قال بها أحد علماء المذهب الاباضي ولو نظرنا إلى المذاهب الإسلامية الأخرى سنجد مثل ذلك أيضاً، فإن مجال الالتقاء واسع، وهو قريب المنال لمن أراده، داني الثمرة لمن استطابه.

ومن الحديث عن الواقع المر والأمل الحلو الذي ننشده ادخل إلى الحديث

­______________________________

1 ـ الاباضية بين الفرق الإسلامية، علي يحيى معمر، ج 1، ص 5، ص 5 ـ 6، ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان، 1406 هـ : 1986م.

2 ـ الشيخ محمد ناصر بو حجام، كاتب وباحث جزائري، من وادي ميزاب بالجزائر، تتسم مؤلفاته ومقالاته بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية، مازال يعيش.

3 ـ الشيخ علي يحيى معمر والدعوة إلى وحدة المسلمين، محمد ناصر بو حجام، ص 34 ـ 25، ط مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، السيب، سلطنة عمان.

ـ(156)ـ

عن الواقعية وعن الواقع لارتباطهما الوثيق، متعرضا للجوانب الكفيلة بتقارب المسلمين كخطوة متينة نحو الوحدة الإسلامية، رابطا كل ذلك بواقعية الإسلام، وسأعطي من التطبيقات الاباضية أمثلة في تصحيح مسيرة الأمة تجاه الوحدة الإسلامية، منتظرا من أساتذتي الباحثين والعلماء الإجلاء ان يقدموا ما يوجد في مدارسهم، لأنني متأكد ان خطوط الالتقاء ستكون واحدة، وإنما تحتاج إلى تنظيم لتلتقي في نقطة الأخوة الإسلامية والاتحاد الإيماني.

الصحوة كانت البداية

لما هبّت رياح الصحوة المباركة محملة ببشائر الخير على الأمة الإسلامية طفق أبناؤها الغيورون يبحثون عن بواعث النهضة في دينهم وينقبون عن عوامل الحركة الفاعلة في مسيرتهم الإسلامية الطويلة، كما أنهم أخذوا ينقدون الدخيل على النصوص الشرعية من كلام الناس نقدا بناء فيستفيدون من الصالح ويتركون الطالح بدون تجريح لعالم أو فقيه.

وقد أصاب المسلمون المفصل عندما ارتفعوا بعقيدة الإسلام وشريعته من الجدل العقيم إلى اكتناه أسرارهما التي تحرك النفوس الخامدة وتوقظ الهمم الخاملة وتحرر العقول الجامدة.

وقد ذكر المفكرون الإسلاميون مجموعة من الخصائص العامة للإسلام، وهذه الخصائص هي التي تفرد الإسلام كمنهج حياة عن سائر المناهج، فهو منهج يعلو على سائر المناهج بعلو خاصيته الإلهية السماوية، وتهبط هي عنه بهبوطها إلى الوضعية الأرضية، وهذه الخصائص هي التي أعطت الإسلام بقاءه واستمراره وصلاحه لكل زمان ومكان.

ـ(157)ـ

لم يكن قد بوبت هذه الخصائص قبل عصر الصحوة الإسلامية، ولكنها كانت موجودة ومستقرة في المنهج الإلهي، فأذن هي ليست إضافة إلى المنهج الإسلامي ولا تطور في مفرداته، فالإسلام قد اكتمل باكتمال الرسالة المحمدية ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾(1).

هذه الخصائص إنّما هي اكتشاف وتنظيم وتنسيق وطرح جديد، استفاد منها المسلمون في مسير حياتهم المعاصرة، وقد وعى التربويون فائدة هذه الخصائص في النمو الفكري السليم لدى الأجيال الإسلامية، فأدخلوها في مناهجهم فأتت ثمار الخير وأينعت النشاط والحركة والمودة والثقة بين المسلمين، والوعي بهذه الأهمية تعدّى الحركات والمدارس الإسلامية الخاصة التي تعنى بشؤون الصحوة مباشرة إلى المدارس الرسمية، وكانت هذه خطوة مباركة في التصحيح والتجديد الإسلامي، وأذكر من ذلك المناهج الدراسية في بلدي سلطنة عمان، فقد قررت في المناهج الدراسية للمرحلة الثانوية العامة بمادة التربية الإسلامية، (2) وفي كتاب العقيدة بمعهد القضاء الشرعي والوعظ والإرشاد (3).

والحقيقة ان هذا الانتشار المنهجي لتدريس خصائص الإسلام أثمر جيلا من الشباب همه منفعة الإسلام، منفتحا على الفكر الإسلامي الفاعل، رافضا الانغلاق في دائرة الجدل المذهبي، مما هيأ أرضية إسلامية شبابية مشتركة، ليت أولياء الأمور (قادة وعلماء) يستثمرونها في صالح الإسلام العام، ويفوتون بها الفرصة على دعاة المذهبية المنغلقة.

___________________________

1 ـ سورة المائدة 3.

2 ـ تتبع وزارة التربية والتعليم.

3 ـ تتبع وزارة العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية (سابقاً).

ـ(158)ـ

كان شهيد الإسلام سيد قطب هو الرائد الأول في الكتابة عن خصائص الإسلام ـ فيما أعلم ـ ومن كتب بعده إنّما نسج على منواله، ولعله لم يزد شيئاً في الفكرة، وإنّما ساق الأمثلة العديدة وعممها على فروع الإسلام المختلفة بعد ان خصصها سيد قطب في التصوير الإسلامي وهو الأصل.

فبينما نجد في كتابه «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» (1) يذكر ما يتعلق بالفكر والعقيدة من خصائص وهي: الربانية والثبات والشمول والتوازن والإيجابية والواقعية والتوحيد.

نجد الدكتور يوسف القرضاوي يعممها على العقيدة والشريعة والأخلاق ونحوها، ويأتي بأمثلة على كل ذلك، ومن الخصائص التي ذكرها القرضاوي في كتابه «الخصائص العامة للإسلام» (2) الربانية والإنسانية والشمول والوسطية والواقعية والوضوح والتطور والثبات.

ونجد الدكتور عبد الكريم زيدان يعمل هذه الخصائص في الجانب الدعوي حيث يذكر في كتابه «أصول الدعوة» (3) خمسا منها: الإلهية، والشمول، والعموم، والجزاء الأخروي، والمثالية، والواقعية.

ويقتصر الشيخان أحمد بن سليمان الكندي وعاشور كسكاس على ثلاث خصائص بما يتناسب مع طبيعة كتابهم المنهجي (4) وهي: الربانية والتوازن

________________________________

1 ـ خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، سيد قطب، ط السابعة، دار الشروق.

2 ـ الخصائص العامة للإسلام، الدكتور يوسف القرضاوي، الثامنة، مؤسسة الرسالة، 1414 هـ : 1981م.

3 ـ أصول الدعوة، الدكتور عبد الكريم زيدان، ط مكتبة المنار الإسلامية، 1401 هـ / 1981 م.

4 ـ العقيدة ج 1، أحمد بن سليمان الكندي وعاشور بن يوسف كسكاس، ط معهد القضاء الشرعي والوعظ والإرشاد.

ـ(159)ـ

والواقعية.

هذا التداخل والتعدد في الخصائص لا يعني التنافر والتناقض، وإنّما يعني وجود قواعد عامة للخصائص الإسلامية يمكن ان يبني عليها المناهج الإسلامية المختلفة، فهي ضوابط واسعة المجال، يربطها رابط واحد وهو إلهية المصدر، يقول رائدها الأول سيد قطب: (هذه الخصائص تتعدد وتتوزع، ولكنها تتضام وتتجمع عند خاصية واحدة هي التي تنبثق منها وترجع إليها سائر الخصائص.. خاصية الربانية.

انه تصور رباني، جاء من عند الله بكل خصائصه، وبكل مقوماته وتلقاه الإنسانية كاملا بخصائصه هذه ومقوماته، لا ليزيد عليه من عنده شيئاً، ولا لينقص كذلك منه شيئاً، ولكن ليتكيف هو به وليطبق مقتضياته في حياته) (1).

إذا، فلماذا لا نكيف حياتنا مع المنهج الرباني ؟ ولماذا لا تستثمر هذه الخصائص في صالح الوحدة الإسلامية والالتقاء الإسلامي؟

فكما صيغ التصور الإسلامي بعقيدته وفكره بهذه الخصائص، وكذلك الشريعة والدعوة والمناهج، علينا ان نصوغ بها مقومات الوحدة الإسلامية، علينا ان نبحث في ضوء هذه الخصائص ما يؤدي إلى الوحدة الإسلامية من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وكل ما فيهما داع إلى الوحدة، منفر من الفرقة.

يقول الحق جل وعلا: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك ليبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن

__________________________

1 ـ خصائص التصور إسلامي، ص 40.

ـ(160)ـ

منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات فأولئك لهم عذاب عظيم﴾.

ويقول سبحانه: ﴿وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين﴾(1).

وفي كتاب الله تعالى سبيل رتق الفتق وجمع الشمل يقول سبحانه وتعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾(2).

وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «الجماعة رحمة والفرقة عذاب»(3).

وقال عليه الصلاة والسلام: «يد الله مع الجماعة»(4).

وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ «ان الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا: يرضى لكم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وان تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا...»(5).

وبعد نظرنا في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة. ننظر في كل مدرسة إسلامية روح التسامح والوحدة فنلتزمه، اما تلك الاختلاف والدعايات المنفرة فلنذروها مع الرياح حتى تذهب هباء منثورا كأنها لم تكن.

__________________________

 1 ـ سورة الأنفال: 46.

2 ـ سورة الشورى: 14.

3 ـ رواه عبدالله في زوائد المسند، والقضاعي عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ انظر جامع الشمل في أحاديث خاتم الرسل، محمد ابن يوسف اطفيش، خرج الأحاديث الدكتور عبد الرحمن عميرة، ج 2، ص 131، ط مكتبة الاستقامة، روي ـ سلطنة عمان.

4 ـ رواه الترمذي عن ابن عباس، جامع الشمل، ج 2، 131.

5 ـ رواه احمد ومسلم عن أبي هريرة، جامع الشمل، ج 2، ص 128.

ـ(161)ـ

خصائص الإسلام العامة

الإسلام كل متكامل لا ينقصه ما ينقص الفلسفات الأرضية، حيث لم يفرط في شيء يقول سبحانه وتعالى: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾(1) فالعقيدة واضحة وميسرة ومؤثرة لا يوجد بها غموض ولا التواء، تخاطب العقل فيسلم لها، ليس تسليم الأعمى؛ بل تسليم المدرك الواعي لسلامتها وصحتها، والشريعة ناضجة راقية تستوعب مستجدات الأيام وتقلبات الدهر، والدليل على ذلك؛ هانحن على مشارف القرن الحادي والعشرين الميلادي وقد قطع العلم والاختراع شوطا كبيرا في الحياة، وكان في شريعة الإسلام الحل لكل معضلة والكشف عن كل مدلهمة، والحكم الذي يعطي كل أمر موقعه من الأحكام الخمسة الفقهية (2). 

وتأتي خصائص الإسلام بتحريرها لتيسر لنا الطريق حتى نسير على هدى وبصيرة، ولا يمكن ان نطرح الإسلام كبديل حضاري للفلسفات الأرضية بدونها، ولا يمكن أيضاً ان نعمل بعضها ونجمد الآخر، فهذا إيمان ببعض الكتاب وكفر بآخره.

وهذه المسميات التي اصطلح عليها إنّما هي مسميات تقترب ان تكون اعتبارية لتيسر لنا الفهم والتعامل مع المنهج الرباني وفق نظرة منهجية حديثة، وإلاّ فخصائص الإسلام أعمق وأكبر وأوضح، وهناك مجال رحب للمفكرين ان يقدموا صيغة أكثر نضجا واشمل استيعابا لواقعنا المعاصر، يجب ان لا نجمد عند المصطلحات، فما ضر الفكر الإسلامي إلا عندما جمد في قوالب صلبة من قشور المصطلحات التي اخذ المسلمون يتراشقون بها في فترات فتنهم وتشتتهم

__________________________

1 ـ سورة الأنعام: 38.

2 ـ وهي الواجب والمستحب والمباح والمكروه والحرام.

ـ(162)ـ

كمصطلح الإيمان والكفر والفسق ونحوها.

إن الاستمرار في أعمال هذه الخصائص في المستجدات الفكرية، وخاصة فيما يخدم الوحدة الإسلامية لهو مطلب ضروري، وهذا فيما أحسب ما تفطنت لـه هذه الندوة المباركة.

لا يمكنني ان استقصي كل الخصائص العامة للإسلام وفي جميع المجالات، فهذا بحث يطول وهو خارج عن طاقتي العلمية والزمنية، ولكن بما ان أساس التقاء المسلمين هو العقيدة على وجه الخصوص، فيجدر بي ان استعرض بعض هذه الخصائص من هذا المنطلق، وذلك حتى يتبين لنا إننا لسنا على خلاف في هذا الأمر، فقط كل ما نحتاجه هو الإخلاص لله تعالى وصدق النية لـه تعالى في الاتجاه نحو الوحدة والوئام مبتعدين عن الفرقة والخصام.

ثم بعد الاستعراض السريع لهذه الخصائص اقف عند خاصية الواقعية، فهي الصق ما يكون بواقعنا، فلنبحث من خلالها عن حل لهذا الواقع، ومن المعلوم ان الفرقة المذهبية هي ما يحول غالبا عن التقاء المسلمين، وما ذلك إلا سبب الخوف من ترك المذهب، ولكن عندما نبحث داخل المذهب ما يقرب إلى الوحدة ورص الصف، نجد الخوف يزول والعقدة تنحل عند أرباب وأتباع ذلك المذهب، فيقدمون مصلحة الإسلام على مصلحة المذهب، ان كان للمذهب مصلحة لا توجد في الإسلام، ولا أظنها توجد في مذهب سليم صحيح.

لا يعني هذا اننا نجبر الناس ان يتخلوا عن عقائدهم التي يعتقدون سلامتها والتي تختلف عندهم عن غيرهم في المذاهب الأخرى، وإنّما نطلب ان تترك هذه الخلافات منزلة الفروع، هذا إذا لم يوجد الدليل القطعي على رجحان أحدهما، وفي حالة وجود الدليل القطعي فلابد لنا من ترك التثبت بما عليه الآباء

ـ(163)ـ

والتزام الق الذي ينضخ به الدليل الشرعي.

لذلك سوف أدعم الواقعية، وعلاج الواقع أيضاً، بما ورد من آراء وأقوال إيجابية في هذا الموضوع عند الاباضية ـ كما قلت ـ حتى يتبين للناس أن هذا المذهب الاباضي مستعد فكراً وعلماء واتباعا للوحدة الإسلامية، بل ويسعى إليها أقطابه من قديم الزمان.

والآن مع بيان موجز لبعض خصائص الإسلام العامة كنموذج يسمح به الوقت هنا:

الربانية: هي ـ كما يذهب سيد قطب ـ الخاصية التي تربط الخصائص الأخرى (1)، لأن الله سبحانه وتعالى طلب من المؤمنين ان يكونوا ربانيين في حياتهم جميعا بدون استثناء قال تعالى: ﴿قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك لـه وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء..﴾(2).

والربانية: تعني ان مصدر التلقي هو من عند الله تعالى وحده، ولا يجوز ان نستمد عقيدتنا من أي مصدر كان، بل ان رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام كانوا نقلة أمناء للوحي، لم يشرعوا للناس من هواهم ـ حاشهم عن ذلك ـ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى، ان هو إلا وحي يوحى﴾(3). وما زال المصدر واحدا والكل مجمع عليه ومجتمع حوله ففيما الخلف بين المسلمين ؟ !

وعندما يكون المصدر والتلقي واحدا فلا يكون الاختلاف إلا نتيجة إعمال الفكر

_________________________________

1 ـ خصائص التصور الإسلامي، ص 40.

2 ـ سورة الأنعام: 162 ـ 164.

3 ـ سورة النجم: 3 ـ 4.

ـ(164)ـ

البشري في هذه النصوص، ونحن لا نحجر على الإنسان التفكير في ذلك، ولكنه بدون ان يقودنا إلى الخلاف الممزق للصف، وإنّما يجب أن يؤدي بنا إلى تنوع الفكر داخل الإطار الإسلامي الواحد.

التوحيد: بحقيقته ان لا معبود بحق إلا الله تعالى، فهو المنزه عن النقص والمشابهة لخلقه ﴿يس كمثله شيء﴾(1) وهو سبحانه وتعالى الخالق الرازق المتكفل بأمر عباده، والمسلمين متفقون على تنزيه الله تعالى، ومن يشب توحيده بشائبة شرك فهو خارج عن ملة الإسلام، حائد عن دائرة الأمة، غير محسوب عليها ولا لها.

إذا؛ التوحيد هو السياج الذي يربط الأمة الإسلامية، فهو الروح الذي يغذي النفوس المؤمنة للالتقاء على مائدة الاخوة الإيمانية.

الثبات: الأمة الإسلامية مجمعة على القضايا الثابتة التي لا تتغير في المنهج الإسلامي، وهناك ثبات في العقائد وحقيقة الألوهية ومصدر التشريع، وثبات في الأخلاق والقيم الفاضلة، بل وثبات في بعض التشريعات العملية التي يبني عليها عنصر الإنسانية الثابت مثل شؤون الزواج والميراث والطلاق والحدود والقصاص.

وهذه خاصية حفظت الأمة ـ برغم اختلافها الواقع ـ من النشوز عن دائرة الإسلام، وكانت حركة الأمة (داخل إطار ثابت حول محور ثابت) (2).

وهو ـ أي الثبات ـ من أهم المقومات التي تثير فينا الحماس تجاه الوحدة الإسلامية.

___________________________

1 ـ  سورة الشورى 11.

2 ـ خصائص التصور الإسلامي، ص 72، والعبارة عبارة سيد قطب.

ـ(165)ـ

الإنسانية: خاطب الإسلام الإنسان باعتباره انساناً، فلم يعتبره ملكا ولم يعتبره شيطانا رجيما، والإنسان مركب من عنصر سماوي وهو الروح وعنصر ارضي وهو الجسد، وبين الروح والجسد تتوزع النوازع الخيرة والشريرة، وجاء الإسلام ليربي الفطرة الخيرة في هذا الكائن «كل مولود يولد على الفطرة»(1)، كما انه جاء ليستل ضغينة الشر بملقاط الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿العصر _ ان الإنسان لفي خسر _ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾(2).

وهذه السورة الكريمة تقرر صراحة ان الخسران الإنساني يجب ان يواجه بمعول الجماعة المؤمنة المتواصية بالحق والصبر حتى يتحطم.

والشريعة الإسلامية أعطت الإنسان مجالا ممتدا في فعل الخير بحسب قدرته وهمته، فهناك الفرائض والنوافل والطاعات، وكذلك من خصائص بشرية الإنسان الاختلاف النوعي والنسبي يقول الله تبارك وتعالى:  ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين _ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم..﴾(3) يكاد هذا الاختلاف يسري إلى كل شيء من نواحي الإنسان، وخاصة عقله وفكره، لك ذلك حتى ينمو الكون ويعمر وفق سنن الله تعالى الكونية والنصية، وهنا يجب ان تسقط الاختلافات المذهبية، أو بالأحرى تسقط آثارها السيئة لأننا لو أردنا أمة في قالب واحد فينبغي لنا ان نلغي خاصية الإنسان منه؛ وهذا لا يمكن قطعاً.

وهكذا لو تتبعنا بقية الخصائص الإسلامية سنجدها كلها تصب فيما يقرب المسلمين من بعضهم البعض، كالشمول والتوازن والوسطية والوضوح

____________________________

1 ـ رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي، جامع الشمل، ص 12.

2 ـ سورة العصر.

3 ـ سورة هود 118 ـ 199.

ـ(166)ـ

والإيجابية والمساواة والعموم... ونحوها.

والآن لنأت إلى خاصية الواقعية:

تعريف الواقعية:

الواقعية: في الأصل مذهب فلسفي تضاد المثالية.

والمثالية؛ بأبسط صورها الفلسفية وأوضحها كذلك؛ هي: المثل الأعلى الذي يتصف بكل كمال ـ طبعاً في حدود نوعه ـ ويمتنع عليه النقص.

هذا؛ وقد حاول صاحب المجموعة الفلسفية ان يفرق بين نوعين من المثال:

الأول: يقال: مثالي؛ على كل ما ينسب إلى الفكرة، وبالتالي يوجد في العقل بما هو فكرة، أي يوجد في الذهن ولا يوجد في الواقع.

والثاني: يقال مثالي؛ بمعنى كامل وتام، فالمثال: هو ما يحقق كمال النوع الذي يندرج فيه ويعبر عنه بالمثل الأعلى (1).

ولكن عند استقراء نظريات الفلاسفة وكتاباتهم في هذا الموضوع يذوب هذا الفارق ولا يكاد يكون لـه وجود، حيث ان المثل الأعلى نفسه لا وجود لـه ـ عندهم ـ في الواقع، وأقصى ما يراد منه هو محاولة وصول الواقع أو مفردات الواقع إلى ذلك المثال.

ولذلك عندما ناقشوا الغيبيات اضطربت إفهامهم أيما اضطراب، ولا يستطيع المرء أن يقف منهم على قول، وهذا يخالف العقيدة الإسلامية التي تؤمن بالغيب الذي أتت به النصوص إيمانا جازما.

__________________________

1 ـ موسوعة الفلسفة، الدكتور عبد الرحمن بدوي، مادة «المثالية»، ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984م.

ـ(167)ـ

ومقابل ذلك نجد الواقعية ـ كما قلت ـ تضاد المثالية؛ أي هي: الموجد والقائم المدرك بالحواس وهذا الموجود بطبعه ناقص يعتريه الضعف والفساد (1).

ويوصف الشخص بأنه «مثالي»: إذا كان لا يراعي الأحوال الواقعية ويطلب أحوالاً سامية لا يمكن أو يعسر أو يستحيل تحقيقها في الواقع، وإذا كان لا يستند في تصوراته وأحكامه إلى سند من الواقع الفعلي، وفي هذه الحالة يتصور «المثالي» ان الواقع ناقص، إذ يقيسه بالمثل الأعلى الذي يتخيله (2).

وبالعكس يوصف الشخص بأنه «واقعي» إذا تقبل الواقع على علاته ولم يطمح في الوصول إلى المثالي.

وخطورة هذا الفهم الفلسفي من جهتين:

الأولى: أنه يقسم الأمور إلى شيئين منفصلين: مثالي وواقعي، وما دام المثالي غير موجود أو غير قابل للوجود في الواقع ـ حسب هذه النظرة ـ سيصطدم المرء مع هذا المثال، وبالتالي سيجنح إلى الركون إلى الواقع، فالله والآخرة والأخلاق الفاضلة والقيم العظيمة لا وجود لها في الواقع، وبالتالي لا يصح الركون إلى الخيال، وهذه فكرة مرفوضة إسلامياً.

الثانية: نجد ان فلسفة الواقعية بهذا المعنى دخلت جوانب الحياة المختلفة، كالفن والأدب والسينما ونحوها.

ولنضرب على ذلك مثالا من السينما؛ فالأفلام الواقعية: هي الأفلام التي تبرر أخطاء الواقع وحماقاته وتعذر الفرد الذي يرتكب الجرائم لأن واقعه اجبره على ذلك.

_____________________________

1 ـ موسوعة الفلسفة، مادة «مثالي».

2 ـ موسوعة الفلسفة، مادة «مثالي».

ـ(168)ـ

ولنتصور الملايين من البشر ـ ومنهم المسلمون ـ كيف يكون تأثير هذه الأفلام على عقولهم وسلوكهم؟!.

إننا نريد إعلاما وفنا وأدبا واقعيا ولكن ليس وفق هذه النظرة بل وفق الواقعية الإسلامية.

على انني لا أنكر انه توجد هناك واقعية روحية (1) عند الفلاسفة ولكنها لا تكاد تظهر أو تستطيع ان تحدد منها موقفا عقليا أو عمليا.

أتيت بالتعريف الفلسفي قبل غير من التعريفات لأنه سابق عن غيره في تحديد مصطلح الواقعية، إذ ـ كما يتبادر لي ـ ان مصطلحي «المثالية» و«الواقعية»، في المنهج الإسلامي لم يستمدا ـ مبدئيا ـ من المعنى اللغوي أو الشرعي، بل استعيرا كترجمة لهاتين اللفظتين من الفلسفة الغربية، وهذا ليس بعيب يقدح في رواد هذا التحرير المنهجي من المسلمين، بل هي ـ في نظري ـ ميزة، حيث أعطت البديل الإسلامي الشامل والصحيح لتفسير هذين المصطلحين، مما يوقعهما عند أصحابهما الغربيين في مأزق القصور في فهم واقعية الكون ومثاليته الصحيحة.

ومن الناحية اللغوية نجد ان الواقع: يعني النازل والحدث، وبما ان الزمن الحادث كله نوازل وحوادث سمي واقعاً.

وعندما نقول: هذا الواقع: أي هذا الحادث والنازل الموجود حديثا وحاضرا، والواقع هو الحادث فعلاً، وأمر وقع: أي حدث فعلا وحقيقة، والواقع: هي الأحداث، وسميت المعارك وقائع لكونها حدثت فعلا.

____________________________

1 ـ  موسوعة الفلسفة، مادة «مثالي».

ـ(169)ـ

 ﴿ووقع القول عليهم﴾(1) وجب القول، أي حتما وقع؛ ومنه قولـه تعالى: ﴿إذا وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة﴾(2).

يقول ابن منظور في اللسان:

وقع السيف ووقعته ووقوعه: هبته ونزوله بالضربة.

ووقع به ما كره، يقع ووقوعا ووقيعة: نزل.

وأوقع ظنه على الشيء ووقعه؛ كلاهما: قدره وأنزله.

ووقع بالأمر: أحدثه وأنزله.

ووقع القول والحكم إذا وجب، ومنه قولـه تعالى: ﴿إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض﴾ (3).

وقال عز وجل: (ولما وقع عليهم الرجز) (4) معناه أصابهم ونزل بهم (5).

وحتى تتضح حقيقة كل أمر لابد من الرجوع إلى أربابه، فماذا يقولون عن الواقعية الإسلامية؟

من الطبيعي أن نبدأ بتعريف أبي المنهج الإسلامي المعاصر الشهيد سيد قطب وخاصة ان من جاء بعده كان عالة عليه في هذا الموضوع.

يعطي سيد قطب الواقعية مدلولين، ويتكلم عنهما داخل إطار التصور الإسلامي فيقول:

______________________________

1 ـ سورة النمل: 85.

2 ـ سورة الواقعة: 1 ـ 2.

3 ـ سورة النمل: 82.

4 ـ سورة الأعراف: 134.

5 ـ لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي ابن منظور، مادة «وقع»، ط دار أحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، 1416 هـ ـ 1996 م.

ـ(170)ـ

 (انه ـ أي التصور الإسلامي ـ يتعامل مع الحقائق الموضوعية ذات الوجود الحقيقي المتيقن، والأثر الواقعي الإيجابي.

يتعامل مع الحقيقة الإلهية، متمثلة في آثارها الإيجابية وفاعليتها الواقعية.

ويتعامل مع الحقيقة الكونية، متمثلة في مشاهدها المحسوسة، المؤثرة أو المتأثرة.

ويتعالم مع الحقيقة الإنسانية، متمثلة في الأناسي كما هم في الواقع(1).

وأما المدلول الثاني للواقعية في التصور الإسلامي، فيتعلق بطبيعة المنهج الذي يقدمه للحياة البشرية، وواقعية هذا الكون مع طبيعة الإنسان، وطبيعة الظروف التي تحيط بحياته في الكون، ومدى طاقاته الواقعية الحقيقية)(2).

نلاحظ ان سيد قطب لم يعط تعريفا محددا لنفس الواقعية، وإنّما تكلم عن مدلولاتها في التصور الإسلامي، ولعله بهذا يريد ان يفلت من مضيق التعريفات، حيث ان التعريفات المحددة هي التي تجعل الفكر يجمد عند المصطلحات فلا يستطيع ان يخرج عنها، فهو يريد مفهوما أوسع ومقاصد أرحب ومعاني اشمل، وهذا ما جعله يعلق على ذلك بقوله: ﴿نحن نستخدم هذا بمعناه الذي يعطيه لفظه العربي، مجردا من كل ما علق به من معنى اصطلاحي تاريخي في البيئات الأخرى﴾(3).

فسيد قطب ينطلق من اللفظة اللغوية ولكنه يعطيها مدلولات رحبة، وقابلة لاحتضان عدة معاني ما دامت تلتقي في نفس الهدف، وهذا ما جعل من أتى بعده

________________________________

1 ـ خصائص التصور الإسلامي: ص 163 ـ 164.

2 ـ خصائص التصور الإسلامي: ص 176.

3 ـ خصائص التصور الإسلامي: ص 163.

ـ(171)ـ

يعملها في جوانب عديدة كالشريعة والأخلاق والدعوة وأخيرا الوحدة.

ينطلق سيد من المعنى اللغوي البسيط (التحقيق في عالم الواقع) (1).

ويقترب تعريف الدكتور يوسف القرضاوي من مفهوم سيد قطب، بل في الحقيقة هو نفس المعنى، ولكن بأسلوب أقرب إلى التعريف منه إلى المدلول والمفهوم.

فبينما نجد سيد ينثر تعريفه نثرا يمتد خلال حديثه عن موضوع الواقعية بأكمله نجد القرضاوي يقرب المفهوم بعبارات متقاربة وفي أسطر محدودة فاصلا الأمثلة عن التعريف، ولعله أراد بذلك ان يسهل للقارئ الكريم تكوين المفهوم العام قبل دخوله إلى مفردات الموضوع، حيث يدخل الموضوع وهو محمل بتعريف أكثر تحديدا لـه.

وقد يكون أراد ان يتلافى ما يقع فيه الرواد من عدم إعطاء المصطلحات معانيها لأنهم في طور التكوين والإنشاء والإبداع.

فيعرف الواقعية بقوله:

 (نعني بالواقعية: مراعاة واقع الكون من حيث هو حقيقة واقعة، ووجود مشاهد لذاته، وهو وجود الواجب لذاته، وهو وجود الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا.

ومراعاة واقع الحياة من حيث هي مرحلة حافلة بالخير والشر، تنتهي بالموت وتمهد لحياة أخرى بعد الموت توفى كل نفس فيها ما كسبت وتخلد فيما عملت. ومراعاة واقع الإنسان من حيث هو مخلوق مزدوج الطبيعة، فهو نفحة من

_______________________________

1 ـ خصائص التصور الإسلامي: ص 163.

ـ(172)ـ

روح الله في غلاف من الطين، ففيه العنصر السماوي والعنصر الأرضي، ومن حيث هو ذكر أو أنثى لكل منهما تكوينه ونزعاته ووظيفته، ومن حيث هو عنصر في المجتمع، لا يستطيع ان يعيش وحده ولا ان يفنى تماما في المجتمع، ولهذا تصطرع في نفسه عوامل الأنانية والغيرية) (1).

أما الدكتور عبد الكريم زيدان فيتناول الجانب الدعوي للواقعية ويسهب في بيان ذلك، وملخصه: ان الناس بأشواقهم الروحية وبنوازعهم الأرضية يتفاوتون من فرد إلى آخر في الاستعداد لبلوغ المستوى الرفيع الذي يرسمه الإسلام، فجعل الإسلام خطا أدنى لقبول العمل وهو فعل الواجبات وترك المحرمات، وهذه تقع في مقدور الإنسان ولا تتعارض مع واقعه البشري، ولكنه ـ أي الإسلام ـ يفتح للارتقاء عن طريق المندوبات والفضائل وكذلك بترك المكروهات وسفاسف الأمور، وذلك لأنه واقع بعض الناس يقتضي هذا المجال السامي للوصول إلى الكمال البشري الأعلى (2).

ولا تقف واقعية الإسلام عند هذا الحد وهو وضعه مستويين للكمال، أدنى وأعلى، وإنّما تتعدى إلى إيجاد المخارج المشروعة للمسلم في أوقات الشدة والضيق والحرج وهي الرخص وفقا للقاعدة الشرعية (الضرورات تبيح المحظورات) (3).

ومغزى الدكتور زيدان من هذا الكلام ان على الداعية ان يراعي الواقع الإنساني، فلا يطلب من المدعو أكثر من الحد الأدنى، إلا ان كان يرى لديه شوقا

______________________________

1 ـ الخصائص العامة للإسلام، ص 157 ـ 158.

2 ـ أصول الدعوة: ص 70 ـ 71.

3 ـ أصول الدعوة: ص 73.

ـ(173)ـ

إلى ذلك وهمة عالية لبلوغه، فلا يعتبر من لم يصل إلى الكمال الأعلى مقصرا ينبغي عدم العناية به في الدعوة أو عدم الاستفادة منه.

وأخصر التعريفات التي وجدتها هو تعريف الشيخين أحمد الكندي وعاشور كسكاس وهو:

الواقعية: التحقيق في عالم الواقع ورد الفطرة إلى صراط الله الذي هو اصل كل واقع صحيح (1).

وهذا تعريف حسن، حيث اشتمل في كلمات محددة ومعدودة على كل معاني التعريفات السابقة، واشتمل على كل ما يمكنه ان توحي به الواقعية، وهو مدخل جيد للمناهج التربوية التي تعنى بإصلاح الشبيبة وإعطائهم معاني محددة تلازمهم في طلبهم للعلم، بل هذه طريقة متبعة عند علمائنا منذ قديم الزمان.

لعل القارئ الكريم يلاحظ أنني أطلت في سوق التعريفات لمصطلح الواقعية، ولكن في نظري لابد منها حتى تتضح بصورة وافية وجلية في الذهن، ولكي أبيّن انها تدخل في كل معاني المنهج الإسلامي بتصوره وفكره وشريعته وأخلاقه وتربيته ودعوته ووحدته، والواقعية التي ننشدها ـ وكذلك بقية الخصائص ـ يجب ان تلامس كل مناحي الحياة.

نستخلص مما مضى ان الواقعية المطلوبة في المنهج الإسلامي هي الواقعية:

1 ـ التي تراعي الواقع كما هو دون إفراط وتفريط سواء بالنظر إلى الغيبيات الموجودة كحقيقة الألوهية والآخرة والموت، أو وضع المشاهدات في وضعها الصحيح فلا تركن إلى خداع الحواس فيها.

________________________

1 ـ العقيدة ج 1، ص 207.

ـ(174)ـ

2 ـ والتي لا تتعارض مع المثالية بل هي مكملة لها، فالأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة هي من المثل العليا لكن في المنهج الرباني يستطيع البشر ان يتخلقوا بها ويعملوا على نشرها ويغيروا الواقع على مقتضاها يقول الحق جل وعلا: ﴿ان الله لا يغير ما قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...﴾(1) ولأجل ذلك نادى مفكرونا بالواقعية المثالية (2).

3 ـ والتي تعني ان المثل والمثالية ليست شيئاً خياليا بل هي قائمة وموجودة، أو يمكن تحققها ولكن يتفاوت الناس في تحقيقها في أنفسهم، ومن الواقعية ان نطلب من كل إنسان حسب قدرته وطاقته: ﴿لا تكلف نفس إلا وسعها﴾(3) ويقول سبحانه أيضاً: ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾(4).

4 ـ والتي تراعي الإنسان بما هو عليه من قوة وضعف ومنشط ومكره، واتفاق بين أفراده واختلاف، وأشواق ونوازع، وصحة ومرض، وروح وجسد، وأيضاً تراعي الكون بمفرداته، فلا تعارض ولا تضارب، ولا قهر للطبيعة ولا غزو ولا تدمير، بل الإنسان مسخر في هذا الكون يعمل فيه وفق مطلب مسخره، أي الاحتكام إلى منهج الله تعالى في تسيير هذا الكون والإقرار بالحاكمية لـه سبحانه، يقول الحق جل وعلا: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..﴾(5) ويقول سبحانه وتعالى: ﴿... ويجعلكم خلفاء الأرض...﴾(6) ويقول أيضاً ﴿آمنوا

___________________________

1 ـ سورة الرعد: 11.

2 ـ خصائص التصور الإسلامي، ص 163، والخصائص العامة للإسلام، ص 158.

3 ـ سورة البقرة: 233.

4 ـ سورة البقرة: 286.

5 ـ سورة البقرة: 30.

6 ـ سورة النمل: 62.

ـ(175)ـ

بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه..﴾(1).

5 ـ والتي تعني رجوع الناس إلى فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها وفق سنن الله تعالى الكونية، وإرشاداتها العظيمة التي جاء بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يكون هذا إلا بالعمل بالكتاب والسنة، وكل إنسان مطالب بالرجوع إلى الحق، ومصلحة الشرع مقدمة على هوى النفس، لأن في مصلحة الشرع مصلحة النفس، وفي هوى النفس مضرتها.

6 ـ والتي تصحح مسير الناس ليفلحوا في مصيرهم، إذ ثبت من الواقع ان الناس على مدى التاريخ البشري تنزع إلى الابتعاد عن منهج الله تعالى، ولذلك يجب قودهم إلى الحق بالتي هي احسن، ولا يكون ذلك إلا بوجود المؤسسات القادرة على ذلك والضالعة بشؤون إصلاح المجتمعات والأفراد، وبالتعاون بين المؤمنين في إرجاع الناس إلى جادة الصواب، ولذلك كانت الدعوة مطلبا شرعيا واجبا على كل مؤمن ومؤمنة، يقول الحق جل وعلا: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾(2). ويقول سبحانه ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر...﴾(3).

تشخيص الواقع في السنة النبوية

هذا معنى الواقعية في التصور الإسلامي، إلا ان الواقع غير ذلك، فأثره على

______________________

1 ـ سورة الحديد: 7.

2 ـ سورة آل عمران: 104.

3 ـ سورة التوبة: 71.

ـ(176)ـ

الناس شديد، فهو أشبه بالمغناطيس، يشد الناس إليه بكل خيره وشره، ولا يمكن ان يفلت منه إنسان إلا ان وعى أمر هذا الواقع، وحاول ان يرسم لنفسه منهجا يلتزمه، ملازما فيه هدى الإسلام، صابغا حياته بصبغة الله تعالى، مثيرا في نفسه كوامن الفطرة التي غطى عليها الواقع بغباره، ويتأتى هذا بالسير على وفق المنهج الإسلامي، الذي تدخل أوامره ونواهيه وتصوراته وحقائقه تحت الواقعية التي لا تخرج عن قدرة البشرية في فهمها والتزامها بمقتضياتها.

والرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ قد نبه إلى تأثير الواقع على الإنسان بأحاديث كثيرة، ولكن نختار حديثا واحدا لشموله لواقع الناس، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (أمتي على خمس طبقات، الطبقة الأولى: أهل علم وهدى، والطبقة الثانية: أهل بر وتقى، والطبقة الثالثة: أهل تواصل وتراحم، والطبقة الرابعة: أهل تدابر وتنافر، والطبقة الخامسة: أهل هرج ومرج) (1).

ويشرح العلامة أبو يعقوب الوارجلاني (2) هذا الحديث تحت عنوان «نصيب ظروف الزمان في آفة الدين» بقوله: «وإنّما صار القرن الأول أهل علم وهدى، لا نهم اقتبسوا العلم مما سبق لهم من أمور الدنيا، يفهمون عن النبي ـ عليه السلام ـ الدين تلقينا علما وهدى، وقبلوه يقينا علما وهدى، فكانت علومهم وبصائرهم أقوى من أعمالهم، فمن استقى من عنصر النبوة من ذات نفسه حصل لـه العلم

__________________________

1 ـ الدليل والبرهان، أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني، ج 1 ص 32 ـ 33، ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان، 1417 هـ / 1997 م، والحديث رواه ابن ماجة.

2 ـ هو العلامة أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني، عالم مجتهد من علماء الجزائر يعتبر أحد أقطاب أصول الدين وأصول الفقه في المذهب الاباضي، كما أنه موسوعي فله باع في التاريخ والجغرافيا والرحلات والاستكشاف، والمنطق والرياضيات، وله العديد من المؤلفات المعتمدة في المذهب، توفي عام 570 هـ .

ـ(177)ـ

والهدى بتوفيق الله تعالى وتسديده.

وأما أهل الطبقة الثانية: فإنما صاروا أهل بر وتقوى لأنهم نشأوا في الإسلام من حال الصغر، فالفوا فعل البر وسبقت إليهم المخاوف التي في الآخرة، فغلبت عليهم التقوى.

وأما أهل الطبقة الثالثة: أهل تواصل وتراحم، لأنهم غلبت عليهم المسودة الظلمة والملوك الفجرة، فحالوا بينهم وبين ما أفاء الله عليهم من الفيء وخراج الأرض والغنائم والعطايا، فأعقبهم التراحم بينهم البين والتواصل بما قدر به بعضهم لبعض.

وأما الطبقة الرابعة: أهل تدابر وتنافر، وذلك لأنهم استولت عليهم الأئمة، فلقنوهم الإسلام الذي يأتوا به، ولقنوهم بعض أحزابهم في مفارقتهم إياهم في بعض مذاهبهم وآرائهم، ولقنوهم ان من لم يكن قويا في دينه ومذهبه ليس منهم على شيء، فوقعت الوحشة بينهم والعداوة والبغضاء، فتنافروا وتدابروا، وعزا كل واحد منهم لصاحبه ما لا يقول، فرجع التدابر والتنافر بينهم البين، بعدما كان بينهم وبين أهل الشرك أعدائهم.

واما أهل هرج ومرج: فحين فتر الإيمان عن القلوب وقل العلم وكثر الظلم وقست القلوب لطول المدة وفترت لخلو المادة وانطماس الجادة، فهم يتقلبون في قدرة إبليس، ولم يرض لهم بدون الهرج والمرج.

والله أعلم بمدد هذه الطبقات، وعدد هذه المدات، وما وراء ذلك من التعمق في الفتنات، التي اضطربت بأفاضل هذه الأمة في الأوقات(1).

_________________________

1 ـ الدليل والبرهان ج 1 ص 32 ـ 33.

ـ(178)ـ

ثم يضيف الشيخ أبو يعقوب الوارجلاني بفهمه الثاقب وقدرته على التحليل، يضيف تأثير البيئة والسياسة والصحبة على واقع الناس فيقول:

 وأما نصيب ظروف المكان في آفات الدين: فكالذي جرى لبعض التجار مع النصارى في بلاد ارمينية، فلقنوهم مذاهبهم، فقبله من قبله منهم.

وكذلك من جاور أهل البوادي، فإن الغالب عليهم الحل والترحال والشقي في اقتناء الأموال والغارات طول الزمان والقتل والقتال.

وآفة أخرى: الملوك الجورة والظلمة الذين يحملون الناس بجورهم على غير دين الله تعالى حتى يتخذ الناس طرائقهم وسننهم دينا، ويألفون ذلك ويحسبون انهم على شيء وليسوا على شيء، كسيرة الوليد بن عبد الملك والحجاج ابن يوسف في الجمعة انهم يؤخرونها إلى آخر النهار.

وأما الأخوان والأصحاب والأخدان والأتراب فحسبك فيهم قول الله عز وجل حيث يقول حكاية عن بعض الكفار: ﴿يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي لم اتخذ فلانا خليلا﴾(1)(2).

وهذا الحديث ليس حكما قاطعا على مجريات الأمور، وإنّما حكاية واقع، فهو من جهة يكشف عن أثر الواقع على الناس، ومن جهة ثانية يحث على إيجاد البيئة الصالحة، فالبيئة الصالحة تؤثر على أفرادها ليكونوا مجتمعا صالحا، ويحذر من البيئة الطالحة منفرا من الوقوع في براثن سيئاتها، وليس في الإسلام الاستسلام السلبي، بل الإنسان المسلم هو الذي يصنع نفسه ومجتمعه والعالم أجمع، وكما يعتقد محمد اقبال ان المسلم لم يخلق ليندفع من التيار، وليساير

________________________

1 ـ الفرقان 27 ـ 28.

2 ـ الدليل والبرهان ج 1، ص 33 ـ 34، باختصار وتصرف غير مخل.

ـ(179)ـ

الركب البشري حيث اتجه وسار، بل خلق ليواجه العالم والمجتمع والمدينة، ويفرض على البشرية اتجاهه، ويملي عليها إرادته، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين، ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهاته، فليس مقامه مقام التقليد والاتباع، ان مقامه مقام الإمامة والقيادة، ومقام الإرشاد والتوجيه، ومقام الآمر والناهي، إذا تنكر لـه الزمان وعصاه المجتمع وانحرف عن الجادة، لم يكن لـه ان يستسلم ويخضع، ويضع أوزاره ويسالم الدهر، بل عليه ان يثور عليه وينازله، ويظل في صراع معه وعراك، حتى يقضي الله في أمره.

ويرى محمد إقبال (ان الخضوع والاستكانة للأحوال القاسرة والأوضاع القاهرة، والاعتذار بالقضاء والقدر، من شأن الضعفاء والأقزام، فالمسلم الضعيف يعتذر دائما بالقضاء والقدر، أما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد، وإذا احسن المؤمن تربية شخصيته وعرف قيمة نفسه، لم يقع في العالم إلا مايرضاه ويحبه) (1).

واقعنا الواقعية

من خلال ما مر ومما نعايشه، نستطيع بسهولة ان نرى واقعنا غارقا في الواقعية، ولكن في الواقعية الخطأ، وليست الواقعية المطلوبة.

بين عموم الناس؛ الواقعية المستمدة من حركة الواقع الخارج عن منهج الله تعالى، ويشفع لهم الفكر الارجائي المستشري بين المسلمين (2).

__________________________

1 ـ روائع إقبال، أبو الحسن علي الحسيني الندوي، ص 92 ـ 93 ط المجمع الإسلامي العلمي لكنهو الهند، الطبعة الخامسة، 1411 هـ 1991 م.

2 ـ واقعنا المعاصر، محمد قطب، ص 9، ط مؤسسة المدينة للصحافة، الطبعة الثانية، 1408 هـ ـ 1987م.

ـ(180)ـ

وعلى مستوى النخبة الثقافية؛ الواقعية الفلسفية التي تضاد المثالية.

وعلى مستوى الفن وخاصة السينما؛ الواقعية التبريرية التي تعمق الخلل والواقع بين البشر.

وكذلك الواقعية السياسية والاقتصادية التي انجرف إليها الساسة والاقتصاديون بحكم سيرهم خلف الفكر الرأسمالي واقتصاد السوق الحر، وحجتهم ان الواقع فرض عليهم هذا الفكر بغلبة أصحابه، ونسوا أن المسلم يجب ان يقود لا ان ينقاد، وان يكون متبوعا لا تابعا، حسبما ورد من روائع المفكر الإسلامي الكبير محمد اقبال.

اننا محتاجون إلى الواقعية حسب التصور الإسلامي حاجة ملحة.

محتاجون إليها لإرجاع الناس إلى الصراط المستقيم، وفي كتاب الله تعالى الحل لكل مشاكلنا وهو يراعي مقتضيات الإنسان والكون بأسره.

ومحتاجون إليها في تهذيب النفوس وتصفية الضمائر.

ومحتاجون إليها في التنظير والتأطير الفكري والثقافي.

ومحتاجون إليها في الاجتهاد الفقهي والاستنباط الشرعي.

ومحتاجون إليها في لم شعت الأمة ورتق فتوقها ورص صفوفها، ومحتاجون إليها في الارتقاء بالأمة لتكون أمة وسطا بين الناس كما كانت.

ويكون ذلك كله باتباع الواقعية المثالية في القضايا الآتية.

الواقعية في العقيدة الإسلامية:

لابد لنا ونحن نخطو خطوات ثابتة نحو الوحدة الإسلامية ان نبين ملامح في

ـ(181)ـ

العقيدة الإسلامية، فالعقيدة أساس الوحدة وبدونها لا وحدة ولا أمة ولا إسلام.

العقيدة الإسلامية لها سمات محددة تخرج من مشكاة الواقعية، فبكونها ـ كما قلنا ـ تراعي الحقائق الإلهية والكونية والإنسانية، فهي لا تؤمن إلا بالحقيقة الواقعة.

ولذلك جاءت جميع دعوات الرسل واحدة، قال تعالى حكاية عن دعوات الرسل عليهم السلام: ﴿قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره﴾(1) ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾(2) ويقول سبحانه: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه انه لا اله إلا أنا فاعبدون﴾(3).

إنها حقيقة ثابتة لا يمكن تغيرها بتغير الزمان والمكان، وهذا يدعونا إلى تأمل حياة الرسل عليهم الصلاة والسلام، كيف عملوا على نشر هذه العقيدة ؟ وكيف جابهوا أقوامهم؛ وتحملوا في سبيل عقيدتهم الإسلامية شتى صنوف العذاب والإرهاق ؟ وكانت النهاية نصرة لهم ولاتباعهم المؤمنين.

ان تجربة الرسالات السابقة فيها ملامح كثيرة ومعالم واضحة للسالكين في طريق الخير من امتنا، لم ترد أخبارهم وأخبار قومهم وصراع الحق والباطل في القرآن الكريم لمجرد ان نتلذذ بقراءتها، وإنّما لنعملها في واقعنا، ولا يكاد تحدث قضية إلا وفي حياتهم عليهم السلام مؤشرات في التعامل معها، ولا تقع نوازل إلا وفي حياتهم كواشف لها.

_________________________

1 ـ هذه العبارة كانت تتردد على السنة الرسل عليهم السلام انظر سورة هود.

2 ـ سورة النحل: 36.

3 ـ سورة الأنبياء: 25.

ـ(182)ـ

خذ ـ مثلا ـ قصة موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ مع بني إسرائيل في قضية الحفاظ على وحدة شعبهما، أليس فيها ما يذعر بعضنا بعضا بدلا من تشتيت الأمة وتفريق صفها، قد تشتد القيادة فيما بينها ولكن يجب ان يبقى صف الأمة واحدا، وعلى الأطراف ان تسعى إلى حل مشكلتها وفي المنهج الإلهي.

فلنستمع إلى هذه الآيات الكريمة وهي تشرح لنا هذا الموقف بكل تداعياته وحلوله، إنها القيادة الواعية العظيمة، ولنسأل أنفسنا أين منها أولئك الذين يفرقون الصف لأجل قضية فرعية، قد يكون دليلها قول عالم فحسب ؟!.

يقول الحق جل وعلا: ﴿قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك واضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان اسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا افطال عليكم العهد ام أردتم ان يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما اخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا لـه خوار فقالوا هذا إلهكم واله موسى فنسى أفلا يرون الا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنّما فتنتم به وان ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن افعصيت أمري قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أني خشيت ان تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فأذهب فان لك في الحياة ان تقول لا مساس وان لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ضلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنّما إلهكم الله الذي لا اله إلا هو وسع كل شيء علما كذلك نقص

ـ(183)ـ

عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا﴾ (1).

وهذا موقف لا يحتاج إلى تعليق وإنّما يحتاج إلى تطبيق.

والعقيدة الإسلامية لا تؤخذ إلا من وحي الله تعالى الذي نزل على هؤلاء الرسل الكرم قال تعالى على لسان عبده عيسى بن مريم عليه السلام: ﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ان اعبدوا الله ربي وربكم﴾(2).

إذن؛ العقيدة الإسلامية حقائق كاملة وواقعة، وما يزيد عليها نقصان، لأنها لا تقبل الإضافة من أي كان ولو بلغ من العلم والفضل ما بلغ، يقول العلامة أبو يعقوب الوارجلاني: «ولم يؤثر عن أحد من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ انه شرع لأحد من مسائل الاعتقاد شيئاً»(3).

لم يدفع بالأمة التشرذم والتمزق إلا عندما اخترع المسلمون لأنفسهم مسطلحات وآراء ثم اعتقدوها عقيدة لا يجوز النكوص عنها، يقول العلامة أبو يعقوب الوارجلاني: «اعلم ان الغالب على هذه الأمة حيث افترقت وتوزعتها الأئمة، الغالب عليها التقليد، فاستبصرت كل فرقة في مذهبها، فأصيبت من جهة التقليد لغير مأمونين من الخطأ والزلل، وتركوا البحث فيما جاءهم عن أئمتهم، عادة الله تعالى في الذين خلو من قبلهم تقليد الآباء والأمهات والسلف الصالح والطالح»(4).

ويقول العلامة أحمد بن حمد الخليلي: «وليس هذا النزاع في أصول الدين

______________________

1 ـ سورة طه 85 ـ 99.

2 ـ سورة المائدة: 117.

3 ـ الدليل والبرهان ج 2 ص 16.

4 ـ الدليل والبرهان ج 2، ص 99، بتصرف.

ـ(184)ـ

مع وحدة المصدر الذي تنهل منه العقول المتنازعة إلا نتيجة لتباين المدارك واختلاف التصورات عند أئمة الفرق، ثم يؤصله تعصب الجماهير لأقوال أئمتهم بحيث تجعل كل طائفة قول أمامها أصلا تطوع لـه الأدلة المخالفة بكل ما تخترعه من التأويلات المتكلفة، فتوزعت الأمة شيعا وأحزابا﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ (1)(2).

ولو انا تجردنا من هوى الاتباع والتقليد الأعمى، وأخذت كل طائفة من الأمة تبحث عما فيه نجاتها، لو صلنا إلى نتيجة واحدة تسلمنا إلى الاتفاق والتواد والتراحم، وان لم تكن نتيجة واحدة قاطعة، فإنها ـ ولا ريب ـ لا تكون متنافرة متناحرة، فمن يستمد عقيدته من كتاب الله تعالى، لا يمكن ان تؤدي به إلى قطع عذر أخيه الذي يستمد هو الآخر من كتاب الله تعالى، على إننا نؤكد دائما ان الإنسان مطالب باتباع الدليل وان خالف ما عليه سلفه، يقول العلامة نور الدين السالمي (3).

ولاتناطر بكتاب الله ___ ولا كلام المصطفى الاواه

معناه لا تجعل لـه نظيرا ___ ولو يكون عالما خبيرا (4).

______________________________

1 ـ المؤمنون: 53.

2 ـ الحق الدامغ، أحمد بن حمد الخليلي، ص 7، ط 1409، مسقط، مسقط، سلطنة عمان.

3 ـ هو العلامة عبدالله بن حميد بن سلوم السالمي، عالم مجتهد مطلق، اتسمت مؤلفاته بالتحقيق العلمي الرصين، كان داعية إلى الوحدة والجامعة الإسلامية، حارب الاستعمار الإنجليزي حتى استطاع ان يقيم دولة الإمامة 1331 هـ ، لـه تأليف في معظم الفنون كأصول الدين وأصول الفقه والفقه واللغة والأدب والتاريخ، وكان مصلحا اجتماعيا، ولد بالحوقين من أعمال الرستاق عام 1286 هـ ، وتوفي بتنوف من أعمال نزوي العاصمة العمانية آنذاك عام 1332 هـ .

4 ـ جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام، عبدالله بن حميد السالمي، ج 1، ص 11، 1989م.

ـ(185)ـ

وهذا لا يمنع من ان ننظر إلى ما عند السلف، ولكن ليس بقصد التقليد وإنّما بقصد التقييد، وليس للسلف العصمة فما ورد عنهم من خطأ يرد ولا يلتفت إليه يقول العلامة أبو يعقوب الوارجلاني: (إننا اتبعنا أوائلنا وحاسبناهم واتبعناهم تقييدا ولم نتبعهم تقليدا) (1).

لم تتحول العقيدة الإسلامية عن واقعيتها البسيطة السهلة إلا عندما دخلها الجدل واخذ كل فريق يضرب أخاه بقوارع الكلام وافانين السباب، وأحيانا بحد السلاح والسنان.

علينا ان نرجع العقيدة إلى معينها الصافي ومنبعها الدافق فقيه غنى عن أقوال الرجال، هذا طريق الوحدة ان أردناها حقيقة.

العقيدة الإسلامية عقيدة توقيفية لا يجوز فيها الإضافة ـ كما قلت ـ ولا يجوز أيضاً فيها القياس، لأن القياس من أعمال العقل الإنساني الذي يخالطه الوهم وهو وان كان محاطاً بشروط وموانع تؤدي به إلى الاستنتاج السليم إلا ان هذه السلامة نسبية وليست دائمة، والقياس يصلح في القضايا العملية لا التصورات والاعتقادات والعلم اليقيني.

ومثله ما يمكن ان يخالطه الوهم والتدليس والنسيان والخطأ وهو خبر الآحاد، فقد اتفق جمهور الأمة على عدم الأخذ به في مجال الاعتقاد، يقول العلامة المحدث سعيد بن مبروك القنوبي (2) (ان الأحاديث الآحادية لا يجوز الاحتجاج بها في مسائل الاعتقاد، وذلك لعدم القطع بثبوتها وهذا هو مذهب

_____________________________

1 ـ الدليل والبرهان ج 1، ص 50.

2 ـ العلامة المحدث سعيد بن مبروك بن حمود القنوبي من شرقية عمان، نابغة في مختلف فنون العلم وأخصها علم الحديث، وهو مجتهد، لـه مؤلفات عديدة، على قيد الحياة.

ـ(186)ـ

جمهور الأمة) (1).

هذه ضوابط أقرتها الأمة الإسلامية ـ في مجموعها ـ وهي ضوابط ولاشك تؤدي بنا إلى التقارب في الفكر والاستنتاج وبالتالي إلى الالتقاء.

واقعية العبادات

أهم أساس لوحدتنا الإسلامية هو العقيدة، وقد رأينا أن الخطوط الواضحة للعقيدة متفق عليها بين الأمة الإسلامية، والسلوك العملي العبادي لافراد الأمة الإسلامية يعتبر ثمرة لهذه الشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين.

وقد تيبست طراوة الحلاوة الإيمانية في العبادة بفعل الشعور بالعادة فيما يؤتي من العبادات والشعائر، فالمسلم لرتابة ما يأتيه من العبادة وفي زحمة الحياة ودبيب واقعها المادي، يجمد فيه شعور النداوة الإيمانية، فتغدو العبادة بالنسبة لـه عملية عادية يؤديها بدون ان يفكر في مقاصدها، وأحيانا بدون ان يشعر بألفاظها وأذكارها.

أضف إلى هذا عدم الاستشعار بأن ما يجري في الحياة من حركات وسكنات يمكن ان يتحول إلى عبادة يؤجر عليها، فمن المعلوم ان النية الخالصة لله تعالى تحول العادة إلى عبادة.

لابد من إيقاظ الشعور الإيماني لدى الناس، ويكون ذلك بالتربية الإيمانية،

______________________________

1 ـ السيف الحاد محل يكل من أخذ بالحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد، سعيد بن مبروك القنوبي  ص 1 ـ 2، ط، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، السيب ـ سلطنة عمان، الطبعة الأولى 1415 هـ ـ 1994 م.

ـ(187)ـ

والدروس المسجدية وحلقات الذكر والصفا، وان نربط واقع حياتنا بالصلة بالله تعالى، وان يلتزم المؤمن على الأقل بالحد الأدنى من العبادات والشعائر، وهي من واقع المنهج الإسلامي.

فالعبادات ليس تكليفا فوق الطاقة، بل ضرورة لابد منها حتى يصبح الفرد ربانيا لله تعالى، فالأمة التي تترك أمر عباداتها لاخير فيها، وسوف تنساق إلى مادية مجدبة، كما لا يكفي ان تسطر هذه العبادات بشروطها وأركانها ونواقضها في كتب الفقه، بل يجب ان تتحول إلى حياة فاعلة في نفس المؤمن تلامس فيه شغاف قلبه، وتحرك منه نوابغ عقله، وتهز رواكد نفسه، فتصنع منه رجلا عابدا لله تعالى بكل معاني العبودية لـه تعالى ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين لـه الدين حنفاء﴾(1).

والعبادة الصحيحة المتقبلة عند الله تعالى هي العبادة التي تثمر التقوى، قال تعالى: ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾(2)، والتقوى هي التي تدفع الإنسان إلى المسارعة إلى رضوان الله تعالى والى تجنب ما يسخطه والى حسن معاشرة جميع عباد الله، والى ان يستعلي على رغبات نفسه ونزواتها (3).

والعبادة جعلها الله تعالى مسايرة لمقتضيات حياة الإنسان حتى يتمكن من عمارة هذا الكون وهي داخلة في حدود واقعة، فالإسلام يرفض الرهبانية المنقطعة عن الدنيا، كما انه يرفض المادية المنحلة من كل وازع ديني، فالإسلام

_____________________________

1 ـ البينة 5.

2 ـ البقرة 21.

3 ـ العبادة وأثرها في حياة المسلم، أحمد بن الخليلي، ص 33، ط مكتبة الاستقامة، روي، سلطنة عمان، الطبعة الأولى 1412 هـ ، 1992 م.

ـ(188)ـ

دين الوسط.

يقول العلامة الخليلي: (اقتضت حكمة الله عز وجل ان يكون سير هذه العبادات التي يمارسها الإنسان بحسب الحاجة إليها، فكما كانت الحاجة أدعى كانت ممارسته أيسر وأهون، لأن في هذه العبادة تغذية للروح، وكما ان غذاء الجسد يسره الله سبحانه وتعالى بحسب الحاجة إليه، كذلك غذاء الروح يسره الله سبحانه وتعالى بحسب حاجة الروح إليه ) (1).

العبادة من طرق الوحدة

والعبادة هي الأخرى تؤدي إلى الوحدة الإسلامية، فالمؤمنون يتجهون إلى الله تعالى بنفس الشعائر والهيئات، ويقرؤون ذات الأذكار والآيات، وبذلك تتحقق الوحدة الشعورية بين المسلمين، وتتوحد المشاعر، وتتقارب النفوس، وتتحد المصالح الإسلامية.

وقد أكد العلماء المستنيرون على هذه الحقائق، واعتبروا العبادة من أهم دواعي الوحدة الإسلامية وموصلة إليها.

يقول العلامة احمد بن حمد الخليلي: (ان الشعائر الدينية في الإسلام من أبرز العوامل وأقوى الوسائل للتآلف والترابط والتواد والتعاطف بين أفراد الأمة المسلمة الذين يدينون بهذه الشعائر ويمارسونها بأمانة وإخلاص نابعين من الشعور بالمسؤولية أمام الله سبحانه، ومما يؤكد ذلك الصيغة التعليمية التي جاءت في القرآن لإرشادنا وتوجيهنا في توجيه العبادة إلى الله عز وجل، فقد

_______________________

1 ـ العبادة وأثرها في حياة المسلم، ص 24 ـ 25.

 

 

ـ(189)ـ

جاءت هذه الصيغة في سورة تتكرر في كل ركعة من ركعات الصلاة التي هي أم العبادات وأقدسها، تلكم الصيغة هي قولـه تعالى: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ فإن ضمير الجمع فيها يبعث في نفس المؤمن العباد المستعين شعورا باندماجه مع سائر العابدين الذين يشتركون معه في هذه العبادة، وليس بخاف ما يترتب على هذا الشعور من التآلف والتراحم، وما ينبعث منه من روح الإخاء الديني) (1).

وإذا كان هذا في مجمل الشعائر التعبدية، فإن كلا منها يعمق مفهوم الوحدة والإخاء بين المسلمين.

فالصلاة تذيب الفوارق بين الغني والفقير والقوي والضعيف والحاكم والمحكوم، كلهم يصطفون في صف واحد، يأتمرون بأمرة واحدة، لا يختلفون في ركوعهم وسجودهم.

ان معاني الوحدة الإسلامية تفيض من روحانية الصلاة؛ هذه الصلاة السهلة الأداء العميقة المعنى، التي تخلو من أي بعد فلسفي أو تكلف رهباني، انها الرابط الذي يشد القلوب المؤمنة بعضها البعض لتكون بمجموعها موصولة بالله تعالى بوشائج الإيمان والتقوى.

هذه القيمة العظيمة التي تأتي في أعلى سلم المثالية التعبدية، تنبض بالواقعية الإنسانية.

يقول العلامة الخليلي: (واشتراك جميع المصلين بين الأمة يؤدي إلى تفاعل جميع افراد الأمة في أسرهم ومجتمعاتهم، وبهذا يتماسك جميع أجزاء الأمة فتكون متحدة في مبادئها وفي آمالها وآلامها، يشد قويها ازر ضعيفها، ويسد

__________________________

1 ـ عوامل تقوية الوحدة الإسلامية في الشعائر الدينية، أحمد بن حمد الخليلي، ص 8 ـ 9، ط مكتب المفتي العام لسلطنة عمان، 1410 هـ ـ 1990م.

ـ(190)ـ

غنيها حاجة فقيرها، يوقر صغيرها كبيرها، ويرحم كبيرها صغيرها، وفي ذلك تجسيد لما يدعو إليه قولـه تعالى: ﴿إنّما المؤمنون اخوة﴾(1) وقولـه: ﴿إن هذه أمتكم أمة واحد وأنا ربكم فاعبدون﴾(2) وقولـه: ﴿إن هذه أمتكم أمة واحد وأنا ربكم فاتقون﴾(3)(4).

والزكاة ـ وهي العبادة المالية ـ تقدم لعالم الاقتصاد حلا كبيرا لمشاكله، فهي تمنع الأغنياء ورجال المال من الانغماس في مادية الأموال، وتبقي في قلوبهم جذوة الإيمان مشتعلة، إنها تشعر الإنسان المسلم ان المال الذي بين يديه ليس ماله، وإنّما هو مال الله وهو مستخلف فيه، يقول الحق جلا وعلا: ﴿وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه﴾(5).

والزكاة تمزق الأنانية والشح والبخل، وتمنع التقاتل على المال، إنها تقدم لعالم المال والاقتصاد المثل الأعلى في التعامل مع الموجودات المسخرة تحت أيديهم، وبالإضافة إلى ذلك لم يحلق بهم الإسلام في عالم المثل المعدومة، بل اوجدهم ـ وأوجد لهم ـ في مثالية واقعية، طلب منهم قدراً محدداً يقف في أغلب الأصناف عند 5/2% ولا يتجاوزه كثيرا في أصناف قليلة، ولكنه مع ذلك فتح المجال لمن أراد ان يرتقي نحو كمالات النفس المعطاءة والكريمة وذلك بالصدقة غير المحددة، وخاصة في حالات الحاجة الاجتماعية.

نعم، إنها تقدم حلولاً للمجتمع تجعله يعيش في تواد وإلفة وتستل منه

____________________

1 ـ سورة الحجرات: 10.

2 ـ سورة الأنبياء: 42.

3 ـ سورة المؤمنون: 52.

4 ـ عوامل تقوية الوحدة الإسلامية، ص 15 ـ 16.

5 ـ سورة الحديد: 7.

ـ(191)ـ

السخائم والشحناء، وهي النماء في كل شيء؛ في المال، وفي طهارة النفس، وفي سلامة الأخلاق، وأواصر المجتمع، وفي وحدة الأمة.

يقول العلامة الخليلي: (ومهما يكن فإن الإنفاق سواء كان من الزكاة أو من غيرها يربي الضمير الإنساني، ويجعل الفرد يحس بأحاسيس مجتمعه، يتألم بالأمة ويسر بسروره، فيتجسد في المجتمع معنى حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى لـه سائر الجسد بالحمى والسهر) (1) وقولـه عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (2).

وما أعظم سرور الأغنياء عندما يرون إخوانهم الفقراء ينعمون برغد العيش، ويرفلون في حلل النعيم بما أجراه الله لهم على أيديهم من رزق فيما آتاهم الله من مال، فكانوا بذلك سببا لسد حاجة أخوانهم بما يوصلهم إلى رضوان الله في الدار الآخرة، وما ينيلهم مودة الناس في الحياة الدنيا، وما أسعد أولئك الفقراء الذين يرون حاجاتهم تقضى وخلتهم تسد على أيدي إخوانهم الذين استخلفهم الله في ماله، ووسع عليهم من رزقه من غير منٍّ ولا أذى، ولا تعال ولا استكبار، ومن غير ان يشعروا بذل أو صغار.

إن مجتمعاً هذا شأنه حقيق بأن يسوده التواؤم بين أفراده، والتلاحم بين طبقاته، وإن أمة هذه مبادئها لجديرة بأن تسود العالم وان تقود الإنسانية،

___________________

1 ـ رواه البخاري ومسلم.

2 ـ رواه الشيخان عن طريق أنس رضي الله عنه.

ـ(192)ـ

وان تكون رسالتها رحمة للعالمين) (1).

وبالصوم يطمح الإنسان دائما نحو السمو النفسي، ويطلب الرقي الروحي، ويسعى للتخلص من الاكدار المادية، ليعرج بروحه من عالم الماديات إلى عالم الروحانيات، ومن مصاف المردة إلى منازل البررة، حتى اتخذه الروحانيون بمختلف أديانهم معراجاً لهذا السمو، إلا ان تلك الأديان ـ ما خلا الإسلام ـ قد غالت فيه حتى انقطعوا عن نعم الدنيا، ونحلت أجسامهم حتى أصبحت أشباحا لا تكاد ترى وهياكل تصطك عظامها، أرادوا ان يحيوا الأرواح فقتلوا الأرواح والأجساد، وتركوا الدنيا للماديين يعبثون بها كيفما شاءوا، وهم فوق هذا عاشوا لذواتهم فقط منعزلين عن الجماعة.

اما الإسلام فقد أنزل الصوم من عالم المثال الخيالي إلى عالم المثال الواقعي، فهو لأيام معدودة وعن أشياء محدودة، لا ترهق الجسد ولا تطمس شعلة الحركة والعطاء فيه، وجعله شعيرة جماعية تنشد الأمة فيها سبيل إلفتها ولحمة اخوتها.

إن الإسلام يطلب الوحدة الشاملة، التي ينتظم فيها كل فئات المجتمع وأفراده، وعناصر الشعوب وجنسياتها، وتفاوت الثقافات وتباينها، لأجل ذلك جعله ميسرا مستطاعا يعايش الواقع الإنساني بأشواقه وطموحه وبقدراته واستطاعته.

يقول العلامة محمد عبده: (ومن وجوه إعداد الصوم للتقوى ان الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا فيحمله التذكر على الرافة والرحمة الداعيين إلى البذل والصدقة، وقد وصف الله تعالى نبيه بأنه رؤوف رحيم، ويرتضي لعباده

__________________________

1 ـ عوامل تقوية الوحدة الإسلامية، ص 21 ـ 22.

ـ(193)ـ

المؤمنين ما ارتضاه لنبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ولذلك أمرهم بالتأسي به ووصفهم بقوله: ﴿رحماء بينهم﴾(1).

وبهذا التعاطف بين الأغنياء والفقراء والاشتراك في الأحاسيس والمشاعر يحصل الانسجام وتتحقق الوحدة المنشودة.

ومن فوائد عبادة الصيام الاجتماعية المساواة فيه بين الأغنياء والفقراء والملوك والسوقة، ومنها تعليم الأمة النظام في المعيشة، فالجميع يفطرون في وقت واحد لا يتقدم أحد على أحد دقيقة واحدة، وقلما يتأخر عنه دقيقة واحدة) (2).

وأما شعيرة الحج فمن الواضح تماما انها شعيرة وحدة كما انها شعيرة توحيد، حيث يجتمع المؤمنون من كل فج عميق، في صعيد الأماكن المقدسة، هناك تعرج الأرواح شوقا إلى باريها، وتتجرد الأجسام من كل زيف دنيوي، ولا تبقى إلا بثوب واحد من قطعتين، تردد الألسنة بعبارة واحدة «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لـه لبيك، ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك » يؤدي المسلمون نفس الشعائر، ويقفون في صعيد واحد في نفس الوقت، هناك تلاشي العنصرية ويبقى عنصر التوحيد والتلبية وحده، وتنطمس الجنسيات الاجنسية «لا اله إلا الله» وتنعدم نعرات الجاهلية المفرقة لترتسم لدى الشعوب المؤمنة نعوت الإيمان المعتصمة بحبل الله تعالى، وتدبر الناس عن كل شيء؛ عن الولد والمال والوطن والزخرف، وعن الفقر والغنى، لتعلن من نفسها الفقر أمام الغني الواحد جل وعلا، وتتصل بالعروة الوثقى فيما بينها، عارفة لحقيقة التوحيد والوحدة، وان الله تعالى لا ينظر إلى القلوب المختلفة.

_____________________________

1 ـ الأحزاب 29.

2 ـ تفسير المنار: محمد رشيد رضا، ج 2، ص 147 ـ 148، الطبعة الرابعة.

ـ(194)ـ

في الحج فرصة للتعارف بين المؤمنين، وهناك على كل مؤمن ان يقدم نفسه لأخيه المؤمن، وهناك يجب ان تنتقل الخبرات الإسلامية في الإصلاح والتجديد الديني، وهناك أيضاً ينبغي ألا يستنكف المؤمن من تقبل أخيه المؤمن.

الفرصة العظيمة للانطلاق إلى الوحدة الإسلامية تكون من العرصات المباركة والعتبات المقدسة، وهذا المؤتمر الإسلامي الكبير لا يصعب على المرء حضوره وشهود وقائعه، فهو لا يجري داخل الصالات المغلقة والردهات الخفية، ولا في البروج العاجية، ففيه تطرح القضايا العملية ويشرح الواقع كما هو ليطلب لـه الحلول الواقعية أيضاً، فالحلول في هذا المؤتمر المفتوح ليست حلولاً تصاغ بمعزل عن الأمة وهمومها، ولا تبتكر وفق فلسفة مثالية غالية، أو وفق فلسفة واقعية هشة، ولا تستجدي من الشرق والغرب، بل الحلول الإسلامية موجودة ومجربة منذ مئات السنين، وفي الحج ينبغي ان تنطلق الأمة تحت قيادة واحدة تدفع بها نحو الآفاق والمجد والسعادة التي ينشدها المؤمنون، ونحو القيادة والريادة التي تتزعم بها الأمة الأمم التي ورثتها بحكم كتاب الله تعالى.

يقول العلامة الخليلي: (وبما ان الحج يجمع أصحاب الاختصاصات المتنوعة من جميع أقطار الأرض من رجال الفقه والفكر والسياسة والأدب وغيرهم، ففيه فرصة اللقاء بين أفراد كل طبقة من هؤلاء لتدارس مشكلاتهم في مهبط الوحي ومطلع النور ومنطلق الدعوة، على ضوء تعاليم الإسلام، واستنتاج الحلول الناجعة من كتاب الله الخالد وسنة نبيه المطهرة ومنهاج السلف الصالح، وبهذا تتحقق حكمة الحج المشار إليه ﴿ليشهدوا منافع لهم﴾(1) وما أحوج أمتنا في

_________________________

1 ـ الحج: 28.

ـ(195)ـ

مثل هذا العصر إلى هذه اللقاءات التي تمسح الخلاف وترأب الصدع وترتق الفتن وتقيم الناس على سواء الصراط، وإنما الأمر يقتصر إلى شيء من التنظيم لإتاحة مثل هذه الفرص) (1).

فطرية الأخلاق الإسلامية

لقد بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالشريعة السمحاء، وسماحة الإسلام داخلة كل شيء، فهي كالماء الذي يعطي الشجرة طراوتها ونضارتها، والأخلاق الفاضلة بطبيعتها سمحة إلا انها تكتسب في الإسلام سماحة فوق سماحتها، فتجتمع فيها سماحة الفطرة وسماحة الإسلام، انه الكمال الإسلامي.

وبعث الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ جاء لثلاثة جوانب عامة؛ إصلاح العقيدة، وتيسير العبادة، وإكمال الأخلاق، فالأخلاق ثالثة الأعمدة الإسلامية العظيمة، يقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ : (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ويقول الحق في حقه عليه السلام ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾(2).

فكل خلق من الأخلاق التي حث عليها الإسلام يناغي جزء من الفطرة التي فطر عليها الإنسان، فالكرم والصدق والشجاعة والإحسان... ونحوها، لها بواعث فطرية في النفس السوية، تسلم الإنسان إلى الاتزان في تعامله مع الحياة، ووضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وهذا من مقومات الالتقاء الإسلامي المطلوب.

ولا شيء أخطر على الأمة من تفشي الأخلاق المرذولة وانتشار الرذائل الفاسدة، وخاصة تلك التي تثير الضغناء والأحقاد، وقد جاء الإسلام محذرا منها

_________________________________

1 ـ عوامل تقوية الوحدة الإسلامية، ص 31.

2 ـ سورة القلم: 4.

ـ(196)ـ

التحذير الشديد بقوله جل وعلا: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى ان يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولاتنابزوا بالإلقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه فاتقوا الله ان الله تواب رحيم يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ان الله عليم خبير﴾(1).

ويقول عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) (2).

ومن الدليل على فطرية هذه الأخلاق، ان جميع البشر متفقون على تصنيف الأخلاق إلى فاضلة ومرفوضة، فالشجاعة والجود والشهامة وإغاثة المحتاج ونصرة المظلوم والعدل، أخلاق محبوبة من كل الناس، والظلم والكذب والرياء والنفاق ونحوها، أخلاق منبوذة كذلك عند كل الناس، وإن اختلفت نسب والأخذ بها أو تركها، وهي على ذلك ـ وستبقى ـ ما دامت لم تدخلها التفسيرات المادية ولم تلوها الفلسفات المستهجنة، لتجعل من الأخلاق السامية مثلا صعبة المنال ومن الأخلاق السافلة واقعا لا مفر منه.

والإسلام يلزم الفرد الالتزام بالأخلاق الحميدة كما أنه يطلب من المجتمع ان يوفر البيئة الصالحة لرسوخ المبادئ والقيم والأخلاق النبيلة، وان يجفف منابع الرذائل والسلوك الخاطئ، وأن يكون ذلك بالسير على هدي الله تعالى وهدي رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وهكذا تتحقق المثالية الواقعية في الأخلاق الإسلامية.

__________________________

1 ـ سورة الحجرات: 11 ـ 13.

2 ـ رواه البخاري ومسلم وابن ماجه.

ـ(197)ـ

ومن دلائل فطرتها أيضاً ان الإسلام التزم بالتعامل بهذه الأخلاق مع جميع الناس، بغض النظر عن أديانهم وأجناسهم، فالمسلم لا يظلم وان كان خصمه كافرا، ولا يكذب ولو على فاجر، ولا يثير الفتنة ولو في مجتمع غير إسلامي.

فدائرة الأخلاق دائرة إنسانية، جاء الإسلام ليحميها من الانحرافات التي قد تطرأ عليها من المرضى نفسياً واجتماعياً وأخلاقيا.

يقول الشيخ الداعية محمد الغزالي: (قد تكون لكل دين شعائر خاصة به، تعتبر سمات مميزة لـه، ولا شك ان في الإسلام طاعات معينة، الزم بها اتباعه وتعتبر فيما بينهم أمورا مقررة لاصلة غيرهم بها.

غير ان التعاليم الخلقية ليست من هذا القبيل، فالمسلم مكلف ان يلقى أهل الأرض قاطبة بفضائل لا ترقى إليها شبهة، فالصدق واجب على المسلم مع المسلم وغيره والسماحة والوفاء والمروءة والتعاون والكرم... الخ) (1).

انها الرسالة العالمية التي تسعى إلى الانتشار والعموم بين البشر، لم يأت الإسلام ليبق في صومعة أو مسجد، أو ينحصر داخل التكايا والزوايا، بل ليعم خيره البشرية، ولا نستطيع ان نبشر بهذه الفضائل وهي غير متحققة بين المسلمين بعضهم البعض، فهل يتقبل من أمة تضع نصالها في رقابها، وتحز غلاصمها بمداها ؟ ! وهل يتقبل ممن يتراشقون بقوارع الكلام وبهتان السباب ؟ ! قطعا لا، وإذا اختفت الشحناء والضغائن وصفت النفوس لا يكون بين اتحاد الأمة والتئام تصدعها إلا قاب قوسين أو أدنى.

___________________________

1 ـ خلق المسلم، محمد الغزالي، ص 31، ط دار القلم، دمشق، سوريا، الطبعة السادسة، 1407 هـ _ 1987 م.

ـ(198)ـ

السماحة الإسلامية

ما استعرضناه من الجوانب العقائدية والعبادية والأخلاقية، رأيناه كله يدعو إلى الوحدة الإسلامية ويقارب بين المشاعر الأخوية، ولكن ما بالنا في واقع من التناحر مرير، وظلمة من القطيعة يكاد لا ترى فيها سناء الإخاء.

في رأيي راجع هذا الحال المتدني إلى المثالية الغالبية التي يعيش فيها أرباب المذاهب، فهم يعتقدون بصحة ما لديهم ويرونه وحده الإسلام، وما عداه كفر وانحراف وزيغ وضلال وبدعة يخرج صاحبها من الدين، هذه المثالية التي يعيش فيها هؤلاء منفصلة تمام الانفصال عن واقع المسلمين ومنبترة عن سماحة الدين ورشده وهديه.

ونحن لا ننكر عليهم تعلقهم بمذاهبهم وآرائهم فذلك لهم ـ وان كنا نقول بوجوب التزام الدليل الشرعي ـ لكننا نطالبهم ان تكون لهم خصوصيتهم داخل إطار الإسلام العام، علينا كلنا ان ندور حول محور الإسلام ونرتع في حظيرة الإيمان.

يجب علينا ان نخطو خطوة جريئة وإيجابية ونقول بصراحة: ان اتباع المذاهب ليس مما يكفر به المسلم ويخرجه عن ربقة الإسلام، فالمذهب مدرسة داخل الجامعة الإسلامية الكبرى، وللناس عقول في اختيار من أي المدارس، يقول العلامة أبو يعقوب الوارجلاني: (واما المذاهب: وهي طريقة الأمة الشريعة من الفقهيات ومذاهبهم في التفسير وما يؤول إلى ذلك، لا تفسيق ولا تضليل، وهو سائغ الأخذ به، والعمل للخاصة والعامة التخيير بين المذاهب) (1).

______________________________

1 ـ الدليل والبرهان ج 2، ص 6.

ـ(199)ـ

ولو نظرنا إلى حقيقة الأمر لرأينا ما يتشبث به دعاة الفرقة والاختلاف قشورا وألفاظا ليس لها في حقائق المعاني وزن، وكم جرت الألفاظ على أمتنا من التمزق والتصدع ؟ وعندما نريد ان نحاسب الآخرين نحاسبهم على اصطلاحنا لهذه الألفاظ ! مع ان القاعدة (لكل قوم اصطلاحهم ولامشاحة في الاصطلاح) فهل يعذر بعضنا بعضا في هذه الاصطلاحات، ولا نتشدد فيها ؟ فغن مرونة الدين وواقع المسلمين يطلب منا ذلك، وقد حذر قديما العلامة أبو يعقوب الوارجلاني من التشتت الناشيء عن الاختلاف اللفظي، حيث يقول: (في الخطأ الموهوم فيما اختلف فيه الأمة من الأسماء والتسميات في الدين والإسلام والإيمان، والكفر والشرك والنفاق، والاسامي كمؤمن وكافر ومسلم ومنافق ومشرك، وأسماء الأبدان وأسماء الأفعال وخلق القرآن، وأسماء الله وصفاته، وأمثالها، وليس إلا الخطأ فيها، والخطأ محمول لمن عري من الشروط المهلكة، وهي الاعتقاد انها دين الله، أو قطع الشهادة على أحد في ذلك، أو هدم قاعدة من قواعد الإسلام) (1).

وأود هنا ان أعلن من طرف المدرسة الاباضية إننا كنا ومازلنا على أتم الاستعداد إلى الالتقاء مع إخواننا المسلمين بروح التسامح والمرونة والمودة، وندعو إلى طرح التشنج والتنابز جانبا، وللاباضية على مر التاريخ مشروعهم الحضاري الذي يلخصه العلامة احمد الخليلي ـ وهو قطب أقطاب الاباضية في هذا الوقت ـ في كتابه الحق الدامغ بقوله:

 (ان الاباضية  ـ أهل الحق والاستقامة ـ تمتاز عقيدتهم وتتسم طريقتهم في فهم أصول الدين بثلاثة أمور... نذكر منها هنا ما يخصنا... المرونة والتسامح

_____________________________

1 ـ الدليل والبرهان، ج 2  ص 6 7.

ـ(200)ـ

في معاملة سائر فرق الأمة وان بلغ الخلاف بينهم وبينهم ما بلغ، إذ لا يتجرأوا على اخراج أحد من الملة وقطع صلته بهذه الأمة ما دام يدين بالشهادتين ولا ينكر شيئا مما علم من الدين بالضرورة بغير تأويل، اما من استند إلى التأويل ـ وان كان أوهي من نسج العنكبوت ـ فحسبه تأويله واقيا لـه من الحكم عليه عندهم بالخروج عن حظيرة الأمة، وخلع ربقة الملة من عنقه، ومن هذا المنطلق صدر ذلك الإعلان المنصف ـ الذي رسم مبدأ الاباضية في نظرتهم إلى الأمة ـ من اشهر قائد اباضي وهو أبو حمزة المختار بن عوف السليمي، في خطبته التي ألقاها على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فأصاخ لهم الدهر، وسجلها الزمن، وخلدها التاريخ، إذ قال فيها ـ رحمة الله ـ : (الناس منا ونحن منهم إلا ثلاثة: مشركا عابد وثن، أو كافرا من أهل كتاب، أو إماماً جائراً) (1).

وقد مشى الاباضية في هذا النهج السليم، والتزموا هذا المبدأ القويم في معاملتهم لسائر طوائف الأمة كما يشهد بذلك التاريخ، ونجد هذه النبرة المنصفة تتردد في أصوات قادة الكفر منهم في الخلف كما كانت عند السلف، فهذا الإمام نور الدين السالمي ـ رحمه الله تعالى ـ يجدد لنا موقف الاباضية من سائر الأمة بقوله:

ونحن لا نطالب العبادا ___ فوق شهادتهم اعتقادا فمن أتى بالجملتين قلنا ___ إخواننا وبالحقوق قمنا إلا إذا ما نقضوا المقالا ___ واعتقدوا في دينهم ضلالا قمنا نبين الصواب لهم ___ ونحسبن ذلك من حقهم ______________________________

1 ـ الاغاني، علي بن الحسين الاصفهاني، ج 20، ص 104، ط بولاق.

ـ(201)ـ

فما رأيته من التحرير___ في كتب التوحيد والتقرير

رد مـ ـ سائـ ـ ـ ل وحل شـ ـ به___  جــــاء بــهـا من ضـل للمنتبه

قمنا نردها ونبـ دي الحقا___ بجهدنا كي لا يضل الخلقا

لو سكتوا عنا سكتــنا عنــهـــم___ ونـ كتـ في منهـ م ان يسلمـ وا (1).

وعلى هذه القاعدة بنى الاباضية حكمهم على طوائف الأمة التي زاغت عن الحق وجانبت الحقيقة في معتقداتها، فكانوا أشد احتياطا من إخراج أحد منهم من الملة بسبب معتقده ما دام مبنيا على تأويل نص شرعي، وان لم يكن لتأويله أساس من الصحة ولا حظ من الصواب، ومن هنا اشتد إنكار الإمام الاباضي الكبير محبوب بن الرحيل ـ رحمه الله تعالى ـ على هارون اليماني الذي حكم بشرك المشبهة وخروجهم من الملة، وانشأ محبوب في ذلك رسالتين جامعتين ضمنهما حججه الداحضة لرأي هارون، وجه إحداهما إلى اباضية عمان، وثانيتها إلى اباضية حضرموت (2) وأطبق الرأي الاباضي على تصويبه وتخطئة هارون.

وسئل المحقق الخليلي ـ رضوان الله عليه ـ عن حكم هؤلاء المشبهة، هل هم مشركون؟ فكان جوابه لسائله: (إياك ثم إياك ان تعجل بالحكم على أهل القبلة بالإشراك من قبل معرفة بأصوله، فإنه موضوع الهلاك والإهلاك) (3) (4).

____________________________

1 ـ كشف الحقيقة لمن جهل الطريقة، عبدالله بن حميد السالمي، ص 25، المطابع العالمية، سلطنة عمان.

2 ـ السير والجوابات، لعلماء وأئمة عمان، ج 1، ص 276 ـ 324، ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان، 1406 هـ - 1986 م.

3 ـ تمهيد قواعد الإيمان وتقييد شوارد مسائل الأحكام والأديان، سعيد بن خلفان بن احمد الخليلي، ج 1 ص 224، ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان، 1407 هـ - 1986 م.

4 ـ الحق الدامغ ، ص 10 ـ 12.

ـ(202)ـ

بهذا التصور الواضح في المرونة والتسامح نصلح من واقعنا، ونغير حالنا، ان المثالية التي في عقول البعض بأن يجتمع الناس على رأي واحد ـ وهو رأيه ـ لا يمكن ان يتحقق في عالم الواقع بأي حال، فهو رأي محشور في مضيق عقله، وإذا أردنا ان نرتفع من الواقعية المحضة التي نعيشها إلى واقعية المثال، فلابد ان تكون هناك عناصر مشتركة من لين الجانب ونبذ الحرفية القاطعة.

ان الوحدة الإسلامية قريبة المنال نراها رأي العين، ولكن يحول عنها سياج التعصب وحائط الانتصار لما عندنا، وغمط الناس أشياءهم، حتى وصل الحال بأن نرفض ما هو موجود عند الآخرين ولو كان يسنده الدليل الشرعي القوي بحجة مخالفة أهل الأهواء والبدع، إنها حجة المفلس.

يقول الأستاذ إبراهيم العسعس عائبا على التيار الذي يرفض الخروج على الحاكم المتسلط الفاسق الظالم بحجة انه لو خرج سيوافق «الخوارج»: (اما ان كانوا خوارج لأنهم يرون الخروج على الحاكم المتسلط الفاسق الظالم، فأكرم بها من تهمة، وما الضير في تبني قول الخوارج إذا كان قولهم موافقا للدليل) (1).

إن الألباب لتبقى مشدوهة والعقول حيرى من أمر هذه الأمة التي تلتصق بالأرض، وهي تملك ما تحلق به في عنان السماء، إن هذه الأمة وجدت لتكون سراجا وهاجا يضيء حلكة الكون ويبدد غسقه لتسير الشعوب على هداه، فهل من اوبة صادقة إلى التسامح واللين والمرونة؟.

نسأل الله تعالى ذلك.

___________________________

1 ـ الأمة والسلطة باتجاه الوعي والتغيير، إبراهيم العسعس، ص 28 ـ 29، ط دار البيارق، بيروت ـ لبنان الطبعة الأولى، 1417 ـ 1996م.

ـ(203)ـ

إلغاء الألقاب المذهبية:

تندرج الألقاب المذهبية في قائمة الألفاظ التي تحول عن الوحدة الإسلامية، وتأتي خطورة هذه الألقاب من كونها حملت من أصحابها كل معاني الإجلال والافتخار، في حين الصق بها الآخرون كل معاني الحقارة والبعد عن الدين، وأخذ كل فريق يشد من طرف مقطّعين بذلك أوصال الأمة.

وتشبثت الفرق بهذه الألقاب ـ التي لم ينزل بها من سلطان ـ وكأن الدين جاء بها، فليس من مسميات الإسلام: الاباضية والشيعة والأشعرية والزيدية والمالكية، والشافعية والأحناف والحنابلة، ولا غيرها من المسميات، بل المسميات التي جاءت بها الشريعة: الدين والإيمان والإسلام، فخاطب الله تعالى اتباع هذه الملة السمحاء  (بالمؤمنين) و (الذين آمنوا) وقال تعالى مؤكدا على هذه الحقيقة ومنبها إلى خطورة التفرق في الدين: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تفرقوا...﴾(1) ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه﴾(2) ويقول عز من قائل: ﴿وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير﴾(3).

هذه نظرة الإسلام الحكيمة ـ لأنها نزلت من حكيم خبير ـ في الالتزام

________________________

1 ـ سورة الشورى: 13.

2 ـ سورة آل عمران: 85.

3 ـ سورة الحج: 78.

ـ(204)ـ

بالمسميات الشرعية، انها تدعوا إلى الوحدة والاعتصام بالله تعالى، في حين يدعو غيرها إلى الاختلاف والضياع، فهل نطلب الهدى بعد ذلك في غير هذه الآيات المحكمة؟ ‍ كلا؛ والله.

ومرة أخرى نطرح مشروعا للوحدة الإسلامية وهو إلغاء هذه الألقاب، ولكل إنسان ان يطلع على ما عند الآخرين، وقد زوده الله تعالى بالعقل السليم وبوجود الكتاب العزيز والسنة المطهرة بين يديه ليرتوي من مناهلها الحق ويفند بآلتها الباطل.

ونذكر من علماء المذهب الاباضي ممن نادى بإلغاء الألقاب المذهبية:

ـ الإمام نور الدين عبدالله بن حميد السالمي ونص كلامه:

 (وجمع الأمة بعد تشعب الخلاف ممكن عقلا مستحيل عادة، وإذا أراد الله أمرا كان  ﴿ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم﴾(1) والساعي في الجمع مصلح لا محالة، وأقرب الطرق لـه ان يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية، ويحثهم على التسمي بالإسلام، فإن الدين عند الله الإسلام، فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية) (2).

ـ الإمام العدل محمد بن عبدالله الخليلي (3) ونص كلامه:

 (ومن الأمر بالمعروف السعي في توحيد كلمة المسلمين، وفي الغاء

_____________________________

1 ـ الأنفال: 63.

2 ـ العقد الثمين، عبدالله بن حميد السالمي، ج 1، ص 126 ـ 127، الطبعة الأولى.

3 ـ الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، إمام عدل بويع بالإمامة 1338 هـ ، عالم مجتهد مطلق، لم يترك كثيرا من المؤلفات لاشتغاله بمهام الدولة الإسلامية، كان محبوبا من رعيته، توفي 1373 هـ .

ـ(205)ـ

الانتساب إلى المذاهب وإظهار التعصب لها، اللذين قضيا على الإسلام، وتسلط على أبنائه عبدة الأصنام الأجانب الاكالب، وان لزوم ما كان عليه السلف الصالح والسير بالمسلمين سيرهم هو الذي يعيد علينا عزنا الشامخ ومجدنا الباذخ) (1).

ـ العلامة علي يحيى معمر، ونص كلامه:

 (سبق إلى أذهان الناس، بسبب ما يقوله كل أصحاب مذهب عن أنفسهم بأنهم أصحاب الحق وأهل العدل، وأهل الصواب، وأهل السنة، وأهل الاستقامة، وبما يقولونه عن غيرهم من انهم أهل الزيغ وأهل الضلالة وأهل البدع وأهل الأهواء، وبأنهم فعلا أهل الحق وبأنهم في الجنة، وبأن غيرهم فعلا أهل الباطل وانهم في النار.

وهذه المفاهيم المبنية على أنانية مذهبية يجب ان تختفي، وان يقوم بدلا منها مفهوم هو انه ليس هناك في الإسلام إلا أمة واحدة هي الأمة الإسلامية التي وعدها الله تبارك وتعالى بكل خير، وليس فيها مجموعات أو طرائف أو فرق تدفع بوصفها الجماعي إلى الهاوية) (2).

ـ العلامة احمد بن حمد الخليلي، ونص كلامه:

 (ولأجل المحافظة على وحدة الأمة والمجتمع شدد الإسلام الحكم في كل ما يؤدي إلى تفككها فحرم السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والغيبة والتعالي بالأنساب والاحساب) (3).

_________________________

1 ـ نهضة الاعيان بحرية عمان، محمد بن عبدالله بن حميد السالمي، ص 442، مكتبة التراث، القاهرة، مصر.

2 ـ الاباضية بين الفرق الإسلامية، ج 2، ص 127.

3 ـ عوامل تقوية الوحدة الإسلامية، ص 7.

ـ(206)ـ

ـ الشيخ المفكر احمد بن سعود السيابي،  (1) ونص كلامه:

والذي أراه في هذه القضية توحيدا للمذاهب الإسلامية أو تقريبا منها هو إلغاء الألقاب بين المذاهب وإماتة الانتماءات إليها، والرجوع إلى التسمي بالإسلام، والانتساب إليه فقط، ويكفي ان يكون المسلم مسلما يبحث عن الحق، وهذا الرأي هو أقوى الآراء وأكبر العوالم في القضاء على التفرقة، ومن شأنه التقريب بين المسلمين) (2).

والقائمة طويلة بالعلماء الداعين إلى هذه الدعوة المباركة حتى قال الشيخ المفكر احمد السيابي بعد ان تتبع هذه الدعوة في الفكر الاباضي:  (اذن؛ كان لدى علماء الاباضية تقويم ورؤية، تقويم لما عليه الأمة الإسلامية من اختلاف بين مذاهبها، وذلك مرده إلى الانتماءات المذهبية والتعصب لها، الأمر الذي جعلها فرقا وأحزابا، ورؤية إلى توحيد هذه المذاهب وجمعها، وذلك بضرورة إلغاء الألقاب المذهبية، والاكتفاء بالانتساب إلى الإسلام فقط) (3).

نكتفي هنا بهذه النماذج الصالحة للاقتداء.

هذه هي الدعوة التي نلح عليها، ونرفعها في المحافل الإسلامية وملتقيات الوحدة ومجامع الأمة، ولكن ان كان البعض يرى هذه الدعوة تحلق في عالم المثال ـ ولست أراها كذلك بل هي من صميم الإسلام وعلاج لواقع المسلمين.

_______________________________

1 ـ هو احمد بن سعود السيابي، مفكر ومؤرخ عماني، داعية الوحدة الإسلامية، لـه مؤلفات تاريخية وفكرية وفقهية، يشغل الآن الأمين العام لمكتب الإفتاء بسلطنة عمان.

2 ـ جهود العلماء المصلحين في توحيد المذاهب الإسلامية، احمد بن سعود السيابي، انظر التقريب بين المذاهب الإسلامية، ص 85، ط المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم الثقافية  (ايسيكو)، 1415 هـ - 1994 م.

3 ـ جهود العلماء المصلحين، ص 84.

ـ(207)ـ

نقول ان في الأمر متسعاً، فيمكن ان نطلق على كل مذهب الألقاب والأسماء المقبولة عند أصحابه، وان نعطيها المعاني التي تحملها عندهم، تاركين المعاني القبيحة التي ألصقت بها من خصومهم.

الجامعة الإسلامية

بعد الحديث عن التسامح والمرونة والمطالبة بإلغاء الألقاب المذهبية يستدعينا الأمر الحديث عن الجامعة الإسلامية، والسؤال الذي يطرح نفسه:

هل الجامعة الإسلامية فكرة تحلق في عالم الخيال؟ وهل هي من المثل التي تعشش في عقول الفلاسفة؟ وخاصة بعد العديد من المحاولات التي قام بها رجال الصحوة الإسلامية، وبعد مرور عدة عقود من المناداة بها، تقلبت الأمة خلالها في لظى الفرقة المحرقة، واكتوت بنار التعصب الملتهبة، هل يمكن ان تكون الجامعة الإسلامية حقيقة واقعة؟ وإذا كان في الإسلام ـ بتوجيهاته السامية ودلائله النيرة ـ مما يهييء القاعدة المتينة لقيام هذه الجامعة؛ فهل المسلمون مستعدون لذلك؟ وهل القيادة الإسلامية وضعت في برامجها هذه الجامعة، وهل خطت خطوات عملية في هذا الجانب؟

أسئلة تتدافع في الذهن، وقد اجبنا على بعضها ونقول في الآخر:

إن بإشراقة الصحوة الإسلامية تعالت الأصوات بالوحدة الإسلامية، وتنادت الأفكار بقيام الجامعة الإسلامية، وأخذ عقلاء الأمة يتحركون في أنحاء الأمة وبين شعوبها داعين إلى الوحدة والى قيام جامعة وثيقة بينهم.

لقد كانت أولى المحاولات بين المذاهب الإسلامية هي محاولات فردية قام بها الأستاذ المصلح جمال الدين الأفغاني ثم سار على ذلك النهج الشيخ محمد

ـ(208)ـ

عبده، الذي كانت لـه محاولات جادة وملموسة في العمل من أجل التقريب والتفاهم بين المذاهب الإسلامية.

وقد تطورت تلك المحاولات الفردية إلى عمل جماعي، وقد تبنى هذه الفكرة نخبة من علماء الأمة الإسلامية(1).

وفي غمرة الصحوة الإسلامية واسترجاع الذاتية الإيمانية للمسلمين في هذا العصر كانت هناك مرحلة عظيمة انفرد بها الاباضية وهي إعادة الإمامة الإسلامية العادلة، وذلك بقيام إمامة سالم بن راشد الخروصي ثم بعده الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، هذا الانتصار الإسلامي للاباضية بقيام إمامتهم لم ينسهم أمر الوحدة الإسلامية والالتقاء مع إخوانهم المسلمين، فقد عمل أقطاب الاباضية على تشجيع الوحدة الإسلامية والانفتاح الأخوي مع إخوانهم المسلمين.

فكان في عُمان العلامة الإمام نور الدين السالمي وتلاميذه الإمام سالم بن راشد الخروصي  (2) والإمام محمد ابن عبدالله الخليلي وقيادة الأمة عموما، وفي شرق أفريقيا العلامة الكبير ناصر بن سالم الرواحي، وفي ليبيا المجاهد الكبير سليمان باشا الباروني، وفي الجزائر القطب محمد بن يوسف اطفيش، عمل هؤلاء العظماء على دراسة أوضاع الأمة الإسلامية، وخرجوا بحقيقة مفادها انه لابد من توحد الأمة الإسلامية، واطلاع العالم الإسلامي على الإمامة العادلة في عمان رجاء ان يلتف المسلمون حولها مناصرين لها، ومن هناك تنبثق العزة الإسلامية لتحيي نفوس المؤمنين لتجابه الاستعمار البغيض.

_________________________

1 ـ جهود العلماء المصلحين، ص 79 ـ 80.

2 ـ هذا الإمام العدل سالم بن راشد بن سليمان الخروصي، بويع بالإمامة 1331 هـ واستشهد 1338، كان رضيا محبوبا من رعيته، وحّد الشعب العماني وقارع الاستعمار الإنجليزي.

ـ(209)ـ

فنجد العلامة أبا مسلم ناصر بن سالم البهلاني  (1) يرسل إلى الإمام سالم بن راشد الخروصي رسالة تفيض بروح الاخوة الإسلامية، وينصحه فيها بالالتقاء مع إخوانه المسلمين، ويحذره من مغبة الانغلاق على النفس، وهذه الرسالة تبين عن مكنونها فلا تحتاج إلى تعليق منا، فمما جاء فيها:

 (ثم إني أشير عليك بمصادقة حكام نجد وأمراء الساحل الفارسي، ولابد من إرسال وفد لتوثيق الالفة والصداقة بينك وبينهم، ففي ذلك حسن السياسة وخير المغبة ما لا يخفى عليك، وتخير الوفد الذي ترسله ان يكون من علماء المسلمين نفرين أو أكثر، ومن العقلاء الساسة ذوي البصائر والفطنة ممن ترضيك بصيرته ويؤدي عنك فوق ما في نفسك، وكاتب شريف مكة وإمام صنعاء وسلطان لحج، واتخذ مع كل أمير من أمراء جزيرة العرب يدا وسياسة وان استطعت ان لا تدع جزيرة العرب إلا كتلة واحدة تؤدي لك الصداقة فافعل، ولابد لكم من مكاتبة الشيخ سليمان بن عبدالله الباروني فقد صار بعد حرب طرابلس الغرب وزيرا في مجلس الأعيان باستانبول، وفي مكاتبة هذا الرجل والتعرف إليه والى الدولة العثمانية بواسطته سياسة معتبرة النفع عظيمة الفائدة، وهذا رأي توجه لي وأراه ضروريا لازما لسياستكم، وقصركم النظر على إقامة الشعائر الدينية في مملكتكم فقط دون النظر في سياسة الدين والإكثار من الصديق أمر يحتاج إلى النظر.

ثم ان في الهند جمعيات دينية إسلامية سياستها حياطة الإسلام، فإن رأيتم

_____________________________

1 ـ هو العلامة ناصر بن سالم بن عديم الرواحي البهلاني، مجتهد مطلق، وشاعر فحل حتى لقب بعالم الشعراء وشاعر العلماء، وأديب وصحفي، عني بأمر الوحدة الإسلامية ودعا إليها، وكان قاضي قضاة المسلمين بشرق أفريقيا، لـه العديد من المؤلفات، ولد 1273 هـ بعمان، وتوفي 1329 بزنجبار.

ـ(210)ـ

ان تعقدوا معها حبلا فاكتبوا كتاباً ونحن نتكفل بإرسالها إليهم، وقد وصلتنا عنهم إعلانات ونشرات وجهنا إليكم منها نسخة، وهذا ان لم ينفع لم يضر، فأقل ما فيه إشاعة دعوة المسلمين في الممالك الإسلامية، والإظهار مع أعدائنا الكفرة ان أهل الإسلام قد ارتبط بعضهم ببعض وجمعتهم الجامعة الإسلامية بعواطف الإخاء الإيماني والوئام الملي.

وإظهار دعوة المسلمين إلى جميع الأمم الإسلامية يكشف لسائر الأنحاء الإسلامية ما أنتم عليه من حسن المقصد ومراعاة إقامة الشعائر الدينية وإحياء السنة وإماتة البدعة، وإنكم لم تنهضوا للملك والسلطان وإنّما نهضتكم غيرة لانتهاك حرماته وتعطيل حدوده، ووقوفكم حجرة في بلعوم القوم الكافرين) (1).

ويعمل الإمام سالم بهذه النصيحة قدر استطاعته ثم يعمل بها من بعده الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، فيرسل رسالة إلى الملك السعودي سعود بن عبد العزيز جاء فيها:

 (وقد جعلتنا نيتكم الطيبة الخالصة ندعو لكم بالنصر والتوفيق على سعيكم الجميل في توجيه كلمة المسلمين، وتكتلهم تحت لواء الإسلام وانتسابهم إليه ودعائهم إلى كتاب الله العزيز وسنة نبيه محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ، والى ذلك أرشد القرآن العظيم فقال: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه﴾(2) ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾(3) قال ـ صلى الله عليه وآله ـ :  (كونوا عباد الله إخوانا على الخير أعوانا) (4).

___________________________

1 ـ أبو مسلم الرواحي حسان عمان، د. محمد بن صالح ناصر، ص 205 ـ 206، الطبعة الأولى 1416 هـ 1996 م.

2 ـ سورة آل عمران 85.

3 ـ سورة آل عمران: 19.

4 ـ رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

ـ(211)ـ

 

فيا صاحب الجلالة، قد استخلفكم الله في بلاده، فنرغب إليه سبحانه ان يجعلكم من الذين وصفهم في قولـه: ﴿الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾(1).

ومن الأمر بالمعروف السعي في توحيد كلمة المسلمين، وفي إماتة الانتساب إلى المذاهب وإظهار التعصب لها، اللذين قضيا على الإسلام، وتسلط على أبنائه عبدة الأصنام الأجانب الاكالب، وان لزوم ما كان عليه السلف الصالح والسير بالمسلمين سيرهم هو الذي يعيد علينا عزنا الشامخ ومجدنا الباذج) (2).

وتباحث العلامتان الفذان، قطب السياسة الليبية، عضو مجلس المبعوثان التركي، الشيخ سليمان بن عبدالله الباروني، وقطب السياسة العمانية وزعيم نهضتها المعاصرة، العلامة نور الدين السالمي، تباحثا في كيفية الوصول إلى الوحدة الإسلامية ووضعا برنامجا عمليا لخطواتها، ووضعا أمام أعينهم جميع الاحتمالات التي قد تحول عن الوحدة فيعمل على إزالتها، أو قد توجد عقبات فيعمل على تذليلها ومواطن قوة للوحدة فيأخذ بأسبابها.

جاء في رسالة الشيخ الباروني(3) أسئلة طارحة لهذه الاحتمالات ونصها:

 (المرجو من حضرتكم، أيها الأستاذ الذي سنعتمد على أقواله وأقوال أمثاله؛ إمعان النظر في المقالة المحررة تحت عنوان «الجامعة الإسلامية» في جريدة الأسد الإسلامي، الآتية إليكم مع هذا، ثم بعد إطلاق الفكر بحثا وراء عين الحقيقة

___________________________

1 ـ سورة الحج: 41.

2 ـ نهضة الأعيان، ص 442.

3 ـ هو سليمان بن عبدالله الباروني، مجاهد ليبيي عظيم وكاتب إسلامي قدير، أحد القادرة الذين حرروا ليبيا من الاستعمار وأدى خدمات جلى للدولة العثمانية، نفاه الاستعمار الأوروبي وحرم عليه دخول البلاد العربية التي كانت تحت سيطرته، توفي 1940 م.

ـ(212)ـ

نطلب إبداء ما اقتضاه نظركم السامي من الجواب عن الأسئلة الآتية بإيجاز غير مخل بالمراد خدمة للجامعة والدين ولحضرتكم الثواب والشكر.

هل توافقون على ان أقوى أسباب اختلاف المسلمين تعدد المذاهب وتباينها؟ على فرض عدم الموافقة على ذلك؛ فما هو الأمر الآخر الموجب للتفرق؟ على فرض الموافقة؛ فهل يمكن توحيدها بالجمع بين أقوالها المتباينة وإلغاء التعدد في هذا الزمن الذي نحن فيه أحوج إلى الاتحاد من كل شيء؟ وعلى فرض عدم إمكان التوحيد؛ فما الأمر القوي النافع في نظركم؟ وهل لإزالته من وجه؟ على فرض إمكان التوحيد؛ فأي طريق يسهل الحصول على النتيجة المطلوبة؟ وأي بلد يليق فيه إبراز هذا الأمر؟ وفي كم سنة ينتج؟ وكم يلزم له من المال تقريباً؟ وكيف يكون ترتيب العمل فيه؟ وعلى كل حال؛ فما الحكم في الساعي في هذا الأمر شرعاً وسياسة؛ مصلح أم مفسد؟)(1).

فرد الإمام السالمي على تلك الأسئلة بواقعية مثالية تشخص الواقع الإسلامي كما هو وتعطي حلولا إسلامية متزنة، لم تجنح في سماء الخيال بحيث استسهلت الأمر، ولم تستسلم للواقع بحيث أبدت سلبية تجاه الوحدة، لا؛ بل كانت إيجابية تضع المقصل على المفصل.

كان رد الإمام السالمي الآتي:

 (قد نظرنا في الجامعة الإسلامية فإذا فيها كشف الغطاء عن حقيقة الواقع، فلله ذلك الفكر المبدي لتلك الحقائق.

نعم نوافق أن منشأ التشتيت اختلاف المذاهب وتشعب الآراء، وهو السبب

______________________________

1 ـ العقد الثمين، ج 1، ص 126.

ـ(213)ـ

الأعظم في افتراق الأمة على حسب ما اقتضاه نظركم الواسع في بيان الجامعة الإسلامية.

وللتفرق أسباب أخرى منها التحاسد أو التباغض والتكالب على الحظوظ العاجلة، وفيها طلب الرئاسة والاستبداد بالأمر.

وجمع الأمة على الفطرة الإسلامية بعد تشعب الخلاف ممكن عقلا مستحيل عادة، وإذا أراد الله أمرا كان  ﴿لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم﴾(1).

والساعي في الجمع مصلح لا محالة وأقرب الطرق لـه ان يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية ويحضهم على التسمي بالإسلام، فإن الدين عند الله الإسلام.

فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية ولو بعد حين، فيبقى المرء يلتمس الحق بنفسه، ويكون الحق أولا عند آحاد الرجال ثم يفشوا شيئاً فشيئا حتى يرجع إلى الفطرة، وهي دعاية الإسلام التي بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام، وتضمحل البدع شيئاً فشيئاً، فيصير الناس إخوانا، ومن ضل فإنما يضل على نفسه.

ولو أجاب الملوك والأمراء إلى ذلك لأسرع في الناس قبولهم وكفيتم مؤنة المغرم، وان تعذر هذا من الملوك فالأمر عسر والغرم ثقيل.

وأوفق البلاد لهذه الدعوة مهبط الوحي ومتردد الملائكة ومقصد الخاص والعام حرم الله الآمن، لأنه مرجع الكل.

وليس لنا مذهب إلا الإسلام، فمن ثم تجدنا نقبل الحق ممن جاء به وان كان

____________________________

1 ـ العقد الثمين، ج 1، ص 126 ـ 127.

ـ(214)ـ

بغيضا، ونرد الباطل على من جاء به وان كان حبيبا، ونعرف الرجال بالحق، فالكبير عندنا من وافقه والصغير من خالفه، ولم يشرع لنا ابن اباض مذهباً، وإنّما نسبنا إليه لضرورة التمييز حين ذهب كل فريق إلى طريق، أما الدين عندنا لم يتغير؛ والحمد لله ) (1).

كما عمل قطب الأئمة  (2) جاهدا في مجاهد الاستعمار الفرنسي ورد غائلته عن المغرب العربي وخاصة الجزائر، وكانت حينذاك تابعة لدولة الخلافة العثمانية، وله مواقف مشهودة للحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، مما حدى بالدولة العثمانية ان تمنحه عدة أوسمة(3).

يقول عنه العلامة أبو إسحاق إبراهيم اطفيش:  (يعز عليه ان يهضم شعب إسلامي ويسلب حريته أو يناله أدنى ضيم، كثير الدعاء بالنصر للامة الإسلامية على من يناوئها، شديد الرغبة في وجود الجامعة الإسلامية، يرى من الواجب ان يكون الإسلام في عز وأهله في منعة، ويرى ان كل ما يلم بشعب إسلامي كائنا من كان من الإرهاق، فهو نكبة أصابت الأمة لما في ذلك الشعب من التوحيد والانتساب إلى الدين الإسلامي، الجامعة العامة) (4).

وهكذا أخذت قافلة الاخوة الإسلامية تسير يحدوها الأمل بأن تصل إلى نقطة الوحدة الإسلامية، وضجت رموز الصحوة الإسلامية بالمناداة إلى الوحدة

___________________________

1 ـ العقد الثمين، ص 126 ـ 127.

2 ـ هو الإمام محمد بن يوسف اطفيش، عالم موسوعي ومجتهد مطلق، لـه مئات المؤلفات في جميع فنون المعرفة حتى لقب بقطب الأئمة، ولد في غردابة بالجزائر 1236 هـ ، وتوفي بعدما عمر طويلا عام 1332 هـ .

3 ـ قطب الأئمة العلامة محمد بن يوسف اطفيش، بكير بن سعيد اعوشت، ص 77، ط مكتبة الضامري، السيب ـ سلطنة عمان.

4 ـ الذهب الخالص المنوه بالعلم القالص، محمد بن يوسف اطفيش، ص 20، ط أبي إسحاق اطفيش.

ـ(215)ـ

الإسلامية والجامعة الملية، وظلت قلوب الشبيبة تهفوا إلى هذا المقصد العظيم والهدف النبيل، وتسعي سعيها الحثيث لتقفوا اثر سلفها الصالح، الذي فتح العالم بوحدته وتوحيده وأخلاقه قبل ان يفتحه بسيفه وسنانه ورماحه، حتى كادت تنال المقصود، وتحط في محطة الاخوة الاسلامية الجامعة، ثارت طفيليات خبيثة محسوبة على الأمة لتستأصل جرثومة الاخوة الإسلامية، وتثير داء التكفير من جديد بصورة أشد وأنكى على الأمة فأنا لله وإنا إليه راجعون.

ولندع العلامة الخليلي؛ بأسلوبه الأدبي الرفيع المتأثر لحال المسلمين وواقعهم المر؛ يحدثنا بقوله:  (وقد كان من بشائر الخير التي لاحت للامة مع تباشير إشراقة الصحوة الإسلامية المعاصرة ما كان ـ بادئ ذي بدء ـ من التعاطف والتواد والتراحم بين الشباب المسلم الذي أشرقت عليه أنوار هذه الصحوة، فقد كانوا في بادئ أمرهم لا يلتفتون إلى الخلافات المذهبية، ولا يشتغلون بالنعرات الطائفية، إلا قليلا منهم، وهم الذين لم تصقل آثار تلك الصحوة ما تراكم في قلوبهم من الصدأ، وهؤلاء كانوا مغفورين بالكثرة الكاثرة التي ينصب همها في محيط الإسلام الواسع الذي يجمع ولا يفرق، ويوحد ولا يشتت، وكادت القضايا الخلافية تلقى في زوايا الإهمال لتصبح في خبر كان، حتى إذا نضرت هذه الألفة وكادت تؤتي ثمارها الطيبة وهاجت عليها أعاصير العصبية العمياء ـ بعدما حركتها أحقاد غصّت بها نفوس ساءتها وحدة الأمة ـ فلفحتها بسمومها التي أذبلت نضارتها، وقضت على رونقها، فإذا بالتواد تباغض، وبالتعاطف تباعد، وبالترابط تقاطع، وبالرحمة عذاب.

وكان أول ضحية لهذا التآمر البغيض هو الإسلام الحنيف ثم الشبيبة المسلمة التي كادت تقلب مجرى التاريخ، وتعيد إلى حاضر الأمة المشرقة ماضيها العريق

ـ(216)ـ

بضربها أروع الأمثال في الوحدة الإسلامية والترابط الديني، فقد انتزعت انتزاعا من حظيرة الوفاق الإسلامي ليدفع بها إلى متاهات من الخلاف والشقاق كان لها بد وأي بد من الدخول فيها والهيام في أرجائها.

وليت الأمر وقف عند حدود الجدل والمناظرات، ولم يصل إلى التكفير وإصدار الأحكام التعسفية الجائرة على كثير من المسلمين، بإخراجهم من الملة وتعريتهم من لباس الإسلام) (1).

والآن نرجع للإجابة على الأسئلة التي طرحناها قبل قليل عن الجامعة الإسلامية ونقول: مما رأينا من خلال استعراض الواقعية الإسلامية، ان الإسلام يحمل كل مضامين الوحدة الإسلامية، وآيات الكتاب تفيض بالدعوة إلى الاعتصام بحبل الله المتين، ولم تكن هذه الدعوة خارجة عن المستطاع، وقد عمل المصلحون على تنفيذها وإخراجها إلى ارض الواقع الإسلامي، ولكن ما يحول عن الوحدة هو انغلاق النفوس وضيق عطنها وعدم الوعي بمجريات الأمور، فهؤلاء المتبلدة أذهانهم لا يعلمون إلا ظاهرا من الأمر، ولا يعلمون انهم في حقيقة الأمر يخدمون مصالح أعداء الله تعالى، وان أردنا التحاما اخويا سليما فلابد من ان يترك هؤلاء الإثارات المذهبية المنغلقة، وان رفضوا ترك العصبيات المقيتة فعلى الأمة ان تتركهم وشأنهم، وان لم يتركوا الأمة في سعيها للوحدة والألفة فعلى الغيورين والمصلحين ان يحذروا ويحذروا من هذه الشجرة الخبيثة التي زرعها الشيطان في الأمة لتقضّ مضجعها، هذا ما نستطيع قولـه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

________________________

1 ـ الحق الدامغ، ص 19.

ـ(217)ـ

إن المؤتمرات والندوات ـ كهذا المؤتمر ـ التي تعقد من قبل دعاة الإصلاح والوحدة فيها الخير الكثير، ولابد من ان تؤتي الثمرة المرجوة منها، فالخير منتصر على الشر، والقافلة لا يضرها النباح والعواء.

الواقعية والوحدة الإسلامية:

بعد كل ذلك، بالنسبة للوحدة الإسلامية.

الواقعية: هي تحقيق الوحدة الإسلامية في واقع المسلمين، متخذين كتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى ـ صلى الله عليه وآله ـ دستورا لهذه الوحدة ونظاما لحياة المسلمين.

وان شئتم أكثر بيانا:

فالواقعية: تعني ان يتخذ المسلمون طريقا وسطا خلال هذا الركام الهائل من الانتصار للمذاهب، والتعصب الأعمى لها، يجب ان تختفي نبرة تكفير المسلمين، فالمسلمون في صعيد الوحدة الإسلامية كلهم متكافئون، لا يفضل بعضهم بعضا إلا بتقوى الله والعمل الصالح وتقديم التضحيات للأمة الإسلامية.

في الوحدة الإسلامية لا وجود لأولئك الذين يرون الخروج على أقوال الأئمة كفرا؛ ولا لأولئك الذين يعتقدون القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ضلالاً ما لم يفسر حسب رأي أئمتهم، لقد اتفقت أقوال العلماء والمجتهدين بأن كل شخص يرد عليه إلا صاحب القبر الشريف المعصوم محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ وكانت أقوالهم المشهورة على مر التاريخ الإسلامي:  (ان وافق قولي الحق فخذه، وان لم يوافق فلا تأخذه).

الوحدة الإسلامية ليست وهما وخيالاً، فحاشا الشريعة الخاتمة أن يأتي فيها

ـ(218)ـ

وهم أو تأمر بخيال، فكل أوامرها تصب في المفهوم الجماعي، وتمقت الأنانية والحزبية.

يمكن ان تجتمع المذاهب الإسلامية في ود وسلام واحترام تحت مظلة شرعية واحدة، إذا وسعت هذه المظلة تحت عدلها المذاهب ولم تعمل على الانتصار لمذهب دون مذهب، وقد تحقق هذا اللقاء المذهبي الأخوي في التاريخ الإسلامي، حيث شملت الدولة الرسمية  (1) المذاهب الإسلامية التي تحتها بالعدل فلم يظلم فيها أحد، وقد شهد على عدل أئمتها المؤرخ ابن الصغير المغربي) (2) (3).

وكذلك في عمان في عهد الأئمة العدول  (4).

ان الاستسلام للواقع الذي نعيشه الآن هو غفلة عن حركة سير التاريخ الحضارية، فالعالم كله يجتمع، فمنهم من يجتمع حول المصالح الاقتصادية، وآخرون يجتمعون إقليميا، وغيرهم يرتبطون بروابط ثقافية ولغوية... وهكذا، رغم ان هذه التجمعات لا يوجد فيها المقومات الحقيقة والقاعدة الصلبة للوحدة، إلا ان منظموها عملوا جادين على إيجادها، وان وجدت بعض

_________________________________

1 ـ الدولة الرستمية تعاقب عليها أئمة عدول منتخبون من قبل المسلمين، قامت في الشمال الأفريقي وكانت عاصمتها مدينة تيهرت الشهيرة، ابتدأت بخلافة الإمام العدل عبد الرحمن بن رستم الفارسي عام 160 هـ ، وانتهت بخلافة الإمام يوسف بن محمد بن افلح سنة 294 هـ على يد الدولة العبيدية.

2 ـ هو المشهور بابن الصغير الملالكي من رعايا الدولة الرستمية كان على غير المذهب الاباضي، قيل مالكيا وقيل شيعياً لـه كتاب أخبار الأئمة الرستميين ألفه حوالي 290 هـ ولذلك عرف بمؤرخ الدولة الرستمية.

3 ـ أخبار الأئمة الرستميين، ابن الصغير المالكي، ط دار الغرب الإسلامي، بيروت ـ لبنان، 1406 هـ _ 1986م.

4 ـ عمان الديمقراطية الإسلامية، د. حسين عبيد غباش، ط دار الجديد، الطبعة الأولى، 1997م.

ـ(219)ـ

المقومات ففي وحدتنا كل المقومات، فالدين ـ الذي صنع أمة واحدة ـ والمصالح المشتركة والأرض الواسعة وتنوع المصادر الاقتصادية والعقول البارزة في كل فن وتخصص، كل هذه المقومات موجودة ولا تحتاج إلا إلى أناس مخلصين يعملون على تنظيمها وصهرها في بوتقة المصالح الإسلامية العليا.

يجب ان نؤمن بأن الوحدة الإسلامية حقيقة قائمة لا محالة برغم الغشاوات التي تحجبها، علينا ان لا نلتقي في المؤتمرات لأجل ان نلقي كلاما رائعاً عن الوحدة، ثم نرحل إلى دهاليز مذاهبنا الضيقة، فهذا ترف سنحاسب عنه أمام الله تعالى.

الوحدة الإسلامية؛ علينا ان نؤمن بها ونعمل جادين للسعي إليها، وندخلها في مناهجنا الدراسية، فينشأ عليها الصغير ويشب ودمه يضخ في الوحدة والاتحاد، ويجب ان تختفي من مناهجنا القومية والجنسية والمذهبية، فهذه نصال تقطع أوردة الوحدة أو قل حواجز تمنع التئام الصفوف المسلمة.

الكون متآلف بذراته ومجراته، ولا يحيد عن السنن الإلهي ولا يخرج عن مقتضيات القوانين الربانية، وهو بعد ذلك مسخر للإنسان، فما بال الإنسان المسلم يتخلى عن قيادته لهذا الكون؟ ولماذا يكون نشازا عن هذا التآلف الكوني؟ ولماذا يرضى بذيل القافلة يلتقط غبارها وقد أوجده الخالق جل وعلا ليكون قائد زمانها؟.

عندما ينشز المسلم يعني ذلك ان الكون في نشاز واهتزاز، وسيظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، فالعالم وان بدا يسعى إلى مصالحه فهو يسعى إلى حتفه طالما انه مبتعد عن شريعة الله الحقة ونحن ـ المسلمين  ـ نتحمل تبعات كل ذلك، فالأمة الشاهدة كيف تتأتى لها الشهادة وهي طوائف

ـ(220)ـ

ممزعة ومذاهب متنافسة وعصبيات متناحرة وخلافات متباينة؟ هذه الأمة لم تنظر إلى حالها ولم تراع مآلها، فأنى لها ان توجه الأمم؟!

هذا الحال يجب ان لا يستمر لابد من الرجوع إلى المقاصد الإسلامية، إلى التوحيد والوحدة، حتى تنظم حركة العالم، فالعالم أعلن إفلاسه بعدما خذلته الشيوعية وتخذله الرأسمالية، ان قادة الشرق والغرب يتطلعون إلى الحل الإسلامي، والحل الإسلامي ـ وللأسف  ـ تتجاذبه المذاهب وتتقطعه العصبيات.

إننا نعرف ـ ونعترف ـ أن الطريق شاق والسبيل وعر وامامنا اكدية واودية، وعلل وادواء، ولكن متى كانت العقبات مذلة لأصحاب الهمم العالية، إن الجيل الأول من دعاة الوحدة الإسلامية ـ المعاصرين ـ ينفون من الأرض ويمنعون من التبشير بمبادئهم النبيلة بين شعوبهم، وهذا أمر قد ولى واختفى، والنفوس اليوم أكثر تهيئا إلى هذه الوحدة لو طمست الأصوات المنكرة التي تدعو إلى هاوية العصبية.

إننا نملك الإعلام والصحف وشبكات الاتصال المختلفة، علينا ان نبث خلالها الوعي بالوحدة الإسلامية، وان نثقف الجماهير الإسلامية بالخطوات العملية لهذه الوحدة.

الأفلام والمسلسلات والبرامج والنشرات ينبغي ان تصب في الأهداف الإسلامية، وجب ان تحل محل المسخ الذي نراه ليلا ونهارا، هذا المسخ الذي صنعته الآلة الغربية ذات الوقود الفلسفي المادي، اننا نسأل أين البرامج الإسلامية النابعة من الحاجة الإسلامية، والتي تخدم الواقع الإسلامي المطلوب؟ ولماذا اصبح الفن مرتبطاً بالعهر والخمر والرقص؟ فمتى ترتقي أمة إلى أوج العز والسؤدد وهي منغمسة في حفيض التبذل والاستهتار بالأخلاق.

ـ(221)ـ

الإسلام بواعيته المثالية يملك المقومات الحضارية لأمته، ولكنه لا يرتقي بخائري العزائم متصدعي الصفوف، فالإسلام لا ينقلنا من الدرك الأسفل إلى المنزلة العليا نقلة سحرية، بل هو يأمرنا باتباع الخطوات العملية التي يجب ان نخطوها في مسيرنا نحو الوحدة الإسلامية.

اما أولئك الذين يغطون في سبات عميق ويحلمون بأنهم سوف يستيقظون على الوحدة، هؤلاء سيطول بهم الرقاد حتى قيام الساعة ولا يرون وحدة ولا توحداً، على هؤلاء ان يتداركوا أنفسهم وشعوبهم ويعملوا بالسنن الكونية والنصية للنهوض بأمتهم، وإلا سيحقهم الزمن تحت عجلاته المتسارعة، فالزمن لا يرحم الكسالى والخاملين، الزمن لا يملكه إلا من يملك القوة والعزيمة والتسامح والإخاء.

الاقتراحات:

وفي الختام أتقدم إلى القائمين على المؤتمر بهذه الاقتراحات عسى ان تكون في محلها:

1 ـ تعميم دراسة الخصائص الإسلامية في المناهج التربوية الإسلامية، وان تعنى هذه الخصائص بالمنهج الإسلامي الشامل.

2 ـ تكوين لجنة إسلامية مشتركة من جميع المدارس الإسلامية، يكون عملها إبراز عناصر الوحدة الإسلامية من واقع مدارسنا، وتقوم بالرد على دعاة المذهبية المنغلقة، او الذين يثيرون الطعون في المذاهب الإسلامية ورموزها، ويكون عملها مشتركا يصدر باسم جميع المدارس الإسلامية.

3 ـ طرح مادة تربوية في المدارس والمؤسسات العلمية هدفها الوحدة

ـ(222)ـ

الإسلامية، وتكون مشتركة تقر من قبل علماء الأمة الإسلامية.

4 ـ بث البرامج الإعلامية والصحفية والثقافية التي توعي الشعوب الإسلامية بأهمية الوحدة، وان تحمل المؤسسات الإعلامية الرسمية من قبل مطالب العلماء على بث هذه البرامج.

5 ـ ان يحث العلماء والمفكرون الإسلاميون في موسم الحج اتباعهم على التعرف على إخوانهم المسلمين من البقاع الإسلامية المختلفة، وان يحضوهم على تبادل المعارف الإسلامية.

6 ـ ان يقوم العلماء بزيارات متبادلة لبلدان بعضهم مبشرين وداعين إلى الوحدة الإسلامية متآلفين لقلوب شعوبهم، ناصحين لهم بالتمسك بالكتاب والسنة فهما أساس الإسلام.

هذا وأسال الله تعالى العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وأساله تعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعته ويذل فيها أهل معصيته، وأساله أن يوحد صف الأمة ويرتق فتقها ويخزي عدوها ويهدي جاهلها.

انه سميع مجيب الدعاء وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ـ(223)ـ

قائمة المراجع:

1 ـ  القرآن الكريم.

2 ـ  تفسير المنار ـ محمد رشيد رضا.

3 ـ  كتب الصحاح والسنن.

4 ـ  جامع الشمل في أحاديث خاتم الرسل ـ محمد بن يوسف اطفيش.

5 ـ  الحق الدامغ ـ احمد بن حمد الخليلي.

6 ـ  العقيدة  (1) ـ احمد بن سليمان الكندي وعاشور بن يوسف سكاس

7 ـ  السيف الحاد على من اخذ بحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد ـ سعيد بن مبروك القنوبي.

8 ـ  كشف الحقيقة لمن جهل الطريقة ـ عبدالله بن حميد السالمي

9 ـ الدليل والبرهان ـ يوسف بن إبراهيم الوارجلاني

10 ـ  الذهب الخالص المنوه بالعلم القالص ـ محمد بن يوسف اطفيش

11 ـ  العقد الثمين ـ عبدالله بن حميد السالمي

12 ـ  جوهر النظام ـ عبدالله بن حميد السالمي

13 ـ  تمهيد قواعد الإيمان ـ سعيد بن خلفان الخليلي

14 ـ  لسان العرب ـ محمد بن مكرم بن علي بن منظور

15 ـ  أبو مسلم الرواحي حسان عمان ـ د. محمد بن صالح ناصر

16 ـ  العقود الفضية في أصول الاباضية ـ سالم بن حمد الحارثي

17 ـ  السير والجوابات ـ علماء وأئمة عمان.

18 ـ  الاباضية بين الفرق الإسلامية ـ علي يحيى معمر

ـ(224)ـ

19 ـ  نهضة الأعيان بحرية أهل عمان ـ محمد بن عبدالله السالمي.

20 ـ  قطب الأئمة محمد بن يوسف اطفيش ـ بكير بن سعيد اعوشت.

21 ـ  الأغاني ـ علي بن الحسين الأصفهاني.

22 ـ  الشيخ علي يحيى معمر والدعوة إلى الوحدة الإسلامية ـ محمد ناصر بو حجام.

23 ـ  عوامل تقوية الوحدة الإسلامية في الشعائر الدينية ـ احمد بن حمد الخليلي.

24 ـ  العبادة وأثرها في حياة المسلم ـ احمد بن حمد الخليلي

25 ـ  أصول الدعوة ـ د. عبدالكريم زيدان

26 ـ  الخصائص العامة للإسلام ـ د. يوسف القرضاوي

27 ـ  خصائص التصور الإسلامي ومقوماته ـ سيد قطب

28 ـ  جهود العلماء المصلحين في توحيد المذاهب الإسلامية ـ احمد بن سعود السيابي.

29 ـ  الأمة والسلطة باتجاه الوعي والتغيير ـ إبراهيم العسعس

30 ـ  واقعنا المعاصر ـ محمد قطب

31 ـ  روائع إقبال ـ أبو الحسن علي الحسن الندوي

32 ـ  خلق المسلم ـ محمد الغزالي

33 ـ  عمان الديمقراطية الإسلامية ـ د. حسين عبيد غباش

34 ـ  الإعلام ـ خير الدين الزركلي

35 ـ  موسوعة الفلسفة ـ د. عبد الرحمن البدوي