تعميق المنهج الوسطي في فهم الشريعة

تعميق المنهج الوسطي في فهم الشريعة

تعميق المنهج الوسطي في فهم الشريعة


محمد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية سابقاً

 

بسم الله الرحمن  الرحيم, والحمد له سبحانه ولي المؤمنين, وناصر المستضعفين, وقاهر الجبابرة المستكبرين, يجري قدره نافذا بما أقره من سنن النصر في قلوب  عباده الصالحين, الذين بنوا منهج حياتهم على صادق العزمات,مع حسن التوكل في المهمات.
 وأصلي وأسلم على رسوله الخاتم الأكرم, سيدنا محمد الذي كان له من سند الوحي,وقوة العزم, وصدق الفعل, وعظيم الخلق,ما بنى به الأمة فنقى عقيدتها, ووحد كلمتها, وأمن سلامتها, وفتح لها أبواب الكون لتنطلق في أرجائه رافعة رايتها,راية نقي الإيمان, والتأليف بين الأنام على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وثقافاتهم وألوانهم, فأصبحوا بنعمة  دين الله إخوانا0 أعزنا بدينه فرفعنا رؤوسنا وامتلأت مشاعرنا إعجابا لا عجبا, وطوع ملكاتنا لتصطبغ بهداه وتجتهد لتزداد من جلاله قربا, وتسمو إلى عالي مقامه إجلالا وحبا0
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, أصحاب السماحة والفضيلة, وفرسان الفكر, وقادة الرأي, هداة المجتمع, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من قلب يحمل لكم  ويقدم أنبل مشاعر الأخوة, وأصفى خلجات القلب المحب,وأزكى الأماني بالنصر والتأييد يوم يفرح المؤمنون بنصر الله. أريد أن أقدم في فاتحة كلمتي أخلص عبارات التقدير الذي هو أضعف من أن يكون  كفاء ما يقوم به المجمع الإسلامي للتقريب بين المذاهب الإسلامية,من جهود موصولة وعناية بما يواجه العالم الإسلامي من مشاكل,هذا المجمع الذي يجمع بين العمق والشمول والحركية العاقلة. فما ينجز أعمال مؤتمر حتى يعد مخططه للقاء جديد يواصل به التعمق في قضايا العالم الإسلامي0إن هذه الحركية الرصينة المخلصة تدعونا إلى التنويه بها وتقديم آيات الشكر للقائمين عليها لما أنجزوه ومازالوا ينجزونه لخير العالم الإسلامي, والشكر موصول للدعوة الكريمة التي تفضلوا بتوجيهها إلينا, واصل الله عليهم زكي تأييده,وأسعدهم بمدد من عونه وتسديده0
 استوقفني الموضوع الأول الذي قدمته الهيئة المشرفة على إعداد المؤتمر, ولفت نظري, وبعث في محركات الاهتمام بدراسته0وهو  (تعميق المنهج الوسطي في فهم الشريعة)
الوسطية من القواعد التي يعتمدها رجل الدولة والسياسة في ضبط العلاقات الاجتماعية وتقنين القوانين العادلة والواجبات الموزعة بين المواطنين,ويستند إليها الفقيه في الاستنباط  فتقوم هادية لنظره في فهم النص وتطبيقه,و يستند إليها المسلم في سلوكه لتضيء له مساره وتؤمنه عثاره.
وإذا كانت الوسطية مستندة إلى الآية الكريمة: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)فإن تميزها وبروزها في عصرنا هذا على غيرها من القواعد والمفاهيم الأصلية في الإسلام,وعقد اللقاءات المتوالية في أطراف العالم الإسلامي لبحث الوسطية,مما يدعو إلى محاولة الكشف عن الأسباب الخفية التي رفعتها إلى الصدارة وأولتها تبعا لذلك كل هذا الاهتمام0 فقد دعيت في لقاءات الفكر الإسلامي  في الستينات في الجزائر لبحث موضوع الوسطية,وكذلك من مجمع الفقه الإسلامي بالهند,ومن مجمعكم الموقر, ومن القائمين  على ندوات في مصر وفي الكويت, وفي غيرها0 وأعتقد أن الندوات واللقاءات التي تمت في أنحاء العالم الإسلامي أضعاف المناسبات التي أسهمت فيها0 كما سير مؤسسة  الوسطية في الكويت العالم والأديب اللامع الشيخ عصام البشير0 ونحن في لقائنا اليوم نستجيب لما اقترحته هيئة إعداد المؤتمر ( تعميق المنهج الوسطي في فهم الشريعة)كل ذلكم دعاني لمحاولة الكشف عن المؤثرات التي رفعت الوسطية إلى السطح  حتى غدت ظاهرة تقتضي العناية  متكررة إلى هذا الحد0 وكلما قُتِلت درسا رفعت رأسها من جديد داعية للعودة إليها0
قلبت أوجه النظر فاهتديت إلى أن الأمم الإسلامية قد تهاونت بما يفرضه عليها دينها من مقومات الريادة والعزة,في القرون الأخيرة حتى هيأت نفسها لقبول المستعمرين الذين سلبونا كل شيء, نهشوا اللحم وكسروا العظم, وشككوا في ذاتيتنا ، ووهنوا من أمر ديننا0 ورحم الله الشيخ الخضر حسين  في قوله وهو يناجي سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المواجهة الشريفة:
 ونمناعلى الأذقان نومةجاهل *** بما يصنع المستعمرون لنصرعا وهتف في بواطننا داعي الله وتحرك نبض الإيمان واستفاق النُوٌم فجاهدوا في الله حق جهاده, وعجز المستعمر أن يكسر شوكة العزيمة التي انطلقت أقوى من الصلب وأرهف شباتها حسن التوكل على الرب, فأخرجنا الاستعمار من الباب الذي منه دخل, وتم الإجهاز عليه رغم قوة مكره وصلابة عناده.بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
ثم بعد ذلك عمل على التدخل في شؤوننا من باب آخر,وغرس في قلب العالم الإسلامي غرسا من شجرة الزقوم هو أسوأ من الاستعمار وأنكى ما دبره الكفرة الفجار, وأشد فسادا,وأقوى وقاحة وعنادا0عملوا على أن تكون قبلة السلام ( القدس الشريف)  منطلقا للتجسس والتخطيط لبعث الفوضى والاضطراب,وسوم المؤمنين الخسف والعذاب0ولكن القلوب التي عمرها الإيمان فتوقد نورها, وهانت على أصحابها الحياة قاومت تلكم المخططات التي أعان عليها قوم آخرون ويا للعار هم من أبناء جلدتنا, من الذين يمكر بهم الغرب كما يمكر بنا.واستبد بالسلطة في كثير من بلاد العالم الإسلامي من سُلب التأييد من شعبه, وأقام حكمه على الموالين لبطشه من زبانيته وحزبه0  واتفق المغتصب الفاجر والحاكم الخائن الماكر ،على أن من يقاوم سلطانهم  ويقف دون تنفيذ مخططاتهم,هم قوم همج متمردون إرهابيون. وكلما قتلوا جنديا من الجنود المغتصبين في العراق أو في أفغانستان أو في أي مكان من العالم اقتحموه بالغصب, أو صهيونيا استولى على بيت الفلسطيني وشرده مع أطفاله وزوجه وأبيه وأمه ورماهم في العراء, وصفوه بأنه إرهابي.
ومع وصفه بالإرهاب, يلصقون دوما به صفة الإسلام يقصدون أن الذي هرى القيم الإنسانية في هؤلاء المقاومين الشرفاء هو الإسلام0رغم أن عصابات خطيرة جدا بثت الخوف والرعب وهددت الأمن وقتلت القضاة والسياسيين في دول أوروبية كثيرة, وما وصف أي إرهابي حقيقي منهم بأنه مسيحي.
وعلى الرغم من ذلك,انبرى جماعة يدافعون عن الإسلام,بأنه دين السلام وعدم التطرف والوسطية ، وأن الإسلام لا يبيح قتل النفس وأن الإسلام بريء منهم  ومن تطرفهم. وكلما نفذ مجاهد هدفا يزعزع الغاصبين نشروا حسب خداعهم, إرهابي مسلم ؛ويعاود أصحاب النيات الطيبة الدفاع عن الإسلام والتبرؤ من الموصوفين بالمتطرفين, الذين ابتعدوا عن المنهج الوسط الذي هو وحده الإسلام.
و تبعا لذلك وجدت في الإلحاح على قيمة الوسطية في الإسلام ما اتخذ ذريعة لما لا يعود على الإسلام بالخير.واستقر في ذهني بعد تتبعي للقرآن الكريم أن هناك مفهوما واحدا عبر عنه القرآن بصيغ ثلاث: الوسطية, والبر, والاستقامة.
الوسطية : هذه المادة ذكرت في القرآن خمس مرات ؛ واحدة منها فقط للدلالة على الصورة التي صاغ عليها الباري سبحانه هذه الأمة  بفضل ما أنزله من الكتاب والحكمة,وهي الآية 143من سورة البقرة. في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا0
وَصْفُ الأمة المحمدية بالوسطية كان حسب النسيج القرآني يمتد إلى تحقيق غاية هي مرتبة قبول شهادتهم المحروسة بشهادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا تميز جعلي لا ذاتي ؛فالآية تهدف, فيما تهدف إليه, إلى نقض ما تشبث به اليهود من أنهم خيار لكونهم ذرية يعقوب, فأثبت القرآن بهذه الآية أن أمة محمد هم خيار تبعا لما أوتوه من فيوض النبوة والحكمة, وتحقق ما نسجته يد الأقدار أن يكون كتاب الإسلام ، القرآن الكتاب الوحيد الذي ضمن الله سلامته من التغيير, فكان المعيار الذي يمر عليه تصور الناس للكون ولأحكام تعاملهم ولعلاقتهم ببعضهم وبالكون, ليثبت لهم تبعا لذلك الضلال أو الصلاح.وهو معيار ثابت لا يتغير0
وبهذا تكون هذه الأمة مؤهلة تبعا للمعيار الثابت أن يكون أتباعها شهداء على الناس, هل استقاموا في تصورهم وتمسكوا بالقيم التي يرضى الله عنها أو انحرفوا؟وحتى يضمن القرآن الثبات  لهذا الوضع المتميز للأمة الإسلامية جعل الرسول شهيدا عليهم, يقوم مسارهم حسب ذلك المعيار, هم صالحون للشهادة إن ثبتوا,وتنزع منهم الميزة إن لم يوفوا بما التزموه0 
والوسَط بالفتح يكون في المنزلة بين الأطراف المتلاحمة, بينما الوسْط بالتسكين يكون بين المجموعة المكونة من وحدات, ويقوم مقام الوسْط كلمة بين.ولذلك وصل الحذاق من الناظرين في كتاب الله إلى أن معنى: (أمة وسطا= أمة خيارا)0فكان التعبير تعبيرا مجازيا, علاقته أن الوسط بعيد عن الأطراف التي يسهل الوصول إليه بالرعي والانتقاص, أما الوسط فيبقى عزيزا لحماية الأطراف له, وبعده عن التناول.
 وليس الوسط بين الطرفين هو الكمال دائما ولا هو المعرف بالإسلام : فالله يقول آمرا نبيه :يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم- سورة التوبة آية 73-يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين  واغلظ عليهم - سورة التحريم آية 9-قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة – سورة التوبة آية 123- والأدب في الأكل مع الناس أن يكون من الأطراف لا من الوسط, قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : كل مما يليك.و السير في الطريق يكون مع جانبي الطريق لا في وسطه والتفرد بوسطه خيلاء وكبر.وليست كل الأخلاق وسطا, إنه إن استبانت الوسطية في الاقتصاد بين السرف والشح مثلا, فإن  العفة منزلة واحدة ليس فوقها درجة تعتبر تطرفا, وكذلك الصدق. وكثير مما مثلوا به, وما زعموه من أن الفضيلة تتمثل في الوسطية,لا يخلو تعميمه من نظر0 فقد اطمأننت إلى أن التنويه بالأمة الإسلامية في هذه الآية لا يقصد منه قطعا التبرؤ من المجاهدين للغاصبين أينما كانوا0ولايرفع الوسطية لتكون معيارا للتشريع دائما شأن المعايير التي تتصف بالثبات فلا تتخلف0 وبناء على هذا فالاختلاف في النظر بين الحل والحرمة لا تكون الوسطية مرجحا للقول بالندب مثلا؛ والوسطية  لا تعدو  أن تكون متكأ للاستئناس بها0
ومما يزيد ما قصدته توضيحا ما كتبته على هذه الآية في التفسير الذي أتابع الجهد سائلا المولى العلي الكريم أن يعينني على إكماله.قلت:
يقرن القرآن هداية المسلمين للتوجه إلى الكعبة بإبراز عناية أخرى خص بها أمة الإسلام فجعلها أمة وسطا,عزيزة, خيارا,كواسطة العقد أنفس جوهرة فيه, في أخلاقها وموقفها من الكون والحياة ومن الموافق والمخالف, هي بعيدة عن التطرف  والتفريط, فلا المسلمون موغلون في التشديد على أنفسهم, ولا التشريع الذي كلفوا بتطبيقه  عسير تطبيقه, وما جعل عليكم في الدين من حرج0  كما أنها ليست منحلة متراخية العزيمة تتشرب كل المؤثرات, تفقد ذاتيتها وخصائصها مع تقلبات الظروف والأحوال. جعل منها أمة لا تترك الدنيا وتعتبرها رجسا, الكمال في عدم الالتفات إليها, ولا تقبل عليها إقبالا يوهن الطاقات الروحية, وبالتالي تستولي عليها المادة ومباهج الحياة الدنيا ؛ بل ينعدم في الإسلام التعارض بين المادة والروح الذي حير كثيرا من الناس, فتم به بينهما التكامل, وكانت به أمة وسطا.إنهم بهذه المنزلة السامية تهيأوا ليكونوا شهداء على الناس, بتبليغ الإسلام وتوضيح أحكامه, ثم الشهادة تبعا لذلك بأنهم مؤمنون أو كفار, وكذلك الأمر يوم القيامة هم يشهدون للرسل بالتبليغ يوم ينكر أقوامهم.
 حبذا لو وجهت الجهود لرفع اللبس عن الإرهاب, واتخاذه مبررا لاحتلال الأوطان والقتل العشوائي, والانتقام من الذين لا يخضعون لسيطرة المستبدين0فالإرهاب, الذي دفع كثيرا من ذوي النوايا الطيبة لتحميل مفهوم الوسطية مفهومات تراكمية,هو الحقيق بأن تبذل الجهود وتعقد الندوات  لتحديده, ويجب أن يكرر إذاعة مدلوله الحق, وتستخدم كل وسائل الإعلام لغرس مفهومه في العقول والضمائر, حتى يكون مفهومه الصادق حاضرا في الأذهان, كلما جرى به القلم أو ذكره اللسان.وهذه مهمة الحكومات والجمعيات والمجامع حتى نصل إلى اتخاذ قرار أممي فيه رفع للخلط  السائد اليوم.يجب أن تخلص الوسطية من استغلالها هذا الاستغلال المنحرف الشائع الذي خرج بها عن حقيقتها.وأن نقيم حدا فاصلا بين الوسطية والإرهاب, وبين الإرهاب والدفاع الشرعي عن الكرامة والحقوق0
الإرهاب في نظري : تسلط بالقهر قصد إخضاع المتسلَط عليه لإرادة المتسلِط ليسلبه ماله أو كرامته أو عرضه.و هو الحرابة التي شدد القرآن في عقوبتها. يقول أبو بكر ابن العربي: المسألة الرابعة في تحقيق المحاربة0 وهي إشهار السلاح قصد السلب000وقد شرح ذلك مالك شرحا بالغا فيما رواه ابن وهب عنه: قال مالك المحارب الذي يقطع السبيل وينفر الناس من كل مكان, ويظهر الفساد في الأرض وإن لم يقتل أحدا.000 قال مالك :والمستتر في ذلك والمعلن سواء-
ثم ذكر ابن العربي قال: لقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي قوم خرجوا إلى رفقة, فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها فاحتملوها, ثم جد فيهم الطلب فأخذوا وجيء بهم, فسألت من كان ابتلاني به الله من المفتين, فقالوا : ليسوا محاربين ؛لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج0 فقلت لهم :إنا لله وإنا إليه راجعون ! ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال, وأن الناس كلهم يرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم ولا يحرب المرء في زوجته وبنته؛ ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج0 أحكام القرآن ج 2 ص593/594
إنه بناء على ذلك يكون المقصود بالوسطية الوصف الذي تميزت به هذه الأمة هو حماية المجتمع من الإخلال بالقيم الصالحة التي تقوي آساس المجتمعات؛ كما بينته بوضوح آية سورة آل عمران : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله آية 110
نعم قد تكون الوسطية معيارا إذا قرنا بينها وبين البر. هذا المفهوم الذي تولى القرآن تعريفه وبيان مضامينه في قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب, ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين  وءاتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا  والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس.أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) سورة البقرة آية177- والذي تكررت العناية به في سبع آيات أخرى توبيخا لليهود في أمرهم بالبر وعدم التزامهم به قال تعالى : (أتأمرون الناس  بالبر وتنسون أنفسكم  أفلا تعقلون) سورة البقرة آية 44- وإنكارا  على من حمله على غير محمله. قال تعالى : (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى) سورة البقرة آية 189- فنعى عليهم تصور البر بمظاهر لا نفاذ فيها للقلوب ولا شرح  للأرواح.-وربطا له بسماحة النفس وتحمل مساعدة المحاويج فقال تعالى: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم)سورة آل عمران آية 92- وقَرْنا له بالتقوى مكونا منهما منهج الحياة في العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة وبين أعضاء الأمة  في مختلف أوجه النشاط. قال تعالى : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) سورة المائدة آية 2- ومعيارا لما يجري في السر بين المؤمنين قال تعالى :  (وتناجوا بالبر والتقوى) سورة المجادلة آية 9-
إنه بالتأمل فيما تولى القرآن بنفسه التدقيق فيه من مفهوم البر نجد ما يرفع هذا المفهوم ليكون معيارا للفقيه والعالم الاجتماعي ورجل السياسة وصاحب أي نشاط فكري وسلوكي.
و يزداد معنى الوسطية وضوحا وتحديدا إذا قرناه بالأصل العظيم الآخر الذي عني به القرآن عناية بالغة, أعني الاستقامة, الصراط المستقيم؛ الذي هو الشارة المميزة للإسلام والمسلمين.
أولا =ندرك نفاسة الاستقامة بأجلى وأصرح ما يكون,إذا لاحظنا أنها الباب الذي علم الله كل مؤمن أن يفتتح به التوجه في كل ركعة من ركعات صلاته داعيا مبتهلا إلى ذاته العلية أن يهديه الصراط المستقيم.
ثانيا= بالتأكيد المتكرر في القرآن بالاستقامة. قال تعالى فاستقم كما أمرت ومن تاب معك( سورة هود آية 112)فلذلك فادع واستقم كما أمرت ( الشورى 15) إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه  واستغفروه (سورة فصلت آية6)
ثالثا= بالتنصيص على أن الدين الإسلامي  مرتبط أشد الارتباط بالاستقامة قال تعالى : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (سورة الأنعام آية161)وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم(سورة المؤمنون آية73) والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( النور 46) إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم ( يس آية5) ادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (الحج 67) فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (سورة الزخرف آية 43) إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (سورة آل عمران آية 51)
تبدو الاستقامة وقد توفر فيها المقومات المعيارية المتمثلة في:
أولا= الاطمئنان إلى أنها مصطبغة بالحق استفادت هذه القوة من تكرر الأمر الإلهي بها. فاستقيموا إليه واستغفروه- فاستقم كما أمرت  ومن تاب معك-
ثانيا= المرجع الذي يضبط مدلول الاستقامة, فليست الاستقامة مفهوما ذاتيا بل هي مفهوم موضوعي. بمعنى أنه لا يختلف فيها الناس تبعا لتقديرهم الخاص, ولكنها مرتبطة بمرجع يفرض على كل الناس التسليم بما يستبين منه. قال تعالى فاستقم كما أمرت – فالاستقامة مرجعها إلى مجموع الأوامر الإلهية التي ثبتت بالكتاب والسنة- وقوله إن هذا لذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم- فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم0فتكون الاستقامة هي الميزان الأمين الذي يضبط السلوك والقيم.
ويؤكد هذا ما رواه نسلم  بسنده إلى سفيان بن محمد الثقفي, قال قلت يا رسول الله قل في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك: قال : قل : آمنت بالله ثم استقم.
يعلق الإمام الأبي على هذا الحديث بقوله: لما كانت أحكام الإسلام من الأفعال والتروك وشرائط ذلك ؛ لا تنحصر سأل بحسن نظره بيان جميع ذلك بقول جامع يستغني بجمعه ووضوحه عن سؤال غيره.
ثالثا= الوضوح والشمول كما يفهم من كلام الأبي تلكم الخاصية المعيارية في الاستقامة,. فالاستقامة التي هدى إليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لفظ واضح لا غموض فيه, ومن ناحية أخرى شامل لا يخرج عنه أي مفهوم من مفاهيم الإسلام.وبذلك استقر في عقل الصحابي السائل ميزانا يعرف  به ما هو من الإسلام فيلتزمه وما هو مناف له فيبتعد عنه0 أوضح ذلك القاضي عياض بما أضافه إذ يقول :جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم) مطابق لقول الله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا... وهو من جوامعه لأنه جمع فيه ما فصله طيلة المدة التي قضاها (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد البعثة إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى. ( إكمال الإكمال ج1 ص134)
رابعا = الاستمرارية0 مما يؤكد اتخاذ الاستقامة معيارا ما جاء فيما أجاب به تعالى موسى وهارون لما دعواه بالتشديد على فرعون وملئه كما سجله القرآن: (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما) (سورة يونس آية 89) فأثبتت الآية أمرين : أن الله استجاب دعاءهما, وأنهما مأموران بالدوام على الاستقامة ليدوم إنزال المقت والشدة على فرعون وملئه0 وهو تعليم للأمة وإظهار لقيمة الاستقامة, وإلا فإنه من المسلم أن الرسولين اللذين أكرمهما الله بالرسالة لا يتصور منهما إلا المداومة على الاستقامة0
ونستطيع بناء على ما أوضحناه أن نقدم المعيار المرجع مركبا من:  الوسطية والبروالاستقامة0( التوازن الخير الصالح) نشير بالتوازن للوسطية وبالخير للبر وبالصالح للاستقامة.
ولما كان الحديث عن الوسطية والنشاط البنكي مما ينبغي أن يعقد له لقاء خاص, فقد اقتصرت في هذا الباب على ما ذكرته في الملخص0
والله أعلم وأحكم, وهو حسبي ونعم الوكيل, نعم المولى ونعم النصير, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم0
كتبه فقير ربه راجي عفوه وفضله عبده اللائذ به0

ملخص البحث
أقدم إليكم أصحاب السماحة والفضيلة وحضرات الأساتذة المحترمين تقديري وشكري لاهتمامكم بالاستماع إلى ما وصلت إليه في بحث العنوان الأول المعروض على المساهمين في هذه الندوة0 تساءلت في نفسي عن السبب الذي رفع مفهوم الوسطية إلى السطح وجعله مقدما في الاهتمام به منذ نصف قرن تقريبا, وجدت في أوراقي دعوة في الستينات من الوزير المشرف على اللقاءات الإسلامية التي كانت تعقد في الجزائر بعد استقلالها, والموضوع الذي عرض علي بحثه هو الوسطية, كما دعيت من قبل بعض المجامع ومن هيئات في مصر وفي المملكة العربية السعودية وفي المملكة المغربية وفي عدد غير قليل من الندوات والملتقيات للإسهام في هذا الموضوع0
والكويت أسندت مهمة الإشراف على مؤسسة الوسطية للعالم الأديب الدكتور عصام البشير الذي عقد حول تفاصيل الموضوع وملحقاته ندوات, قدمت فيها بحوث قيمة.وتساءلت لماذا كل هذا الاهتمام بالوسطية؟وتراءت أمام ناظري أسباب كثيرة بعضها يرجع إلى قيمة الوسطية, وبعضها مستندة إلى عوامل خارجية عن ذات الموضوع0
أنا لا أشك أن الوسطية مرجع يستند إليه,والاستدلال على ذلك يعتبر في نظري قولا مكرورا وتأكيدا لما اقتنع به الناس حتى قارب الضرورة.
ولكن الذي أريد أن أوجه إليه اهتمامي هو لماذا تكثفت العناية بالوسطية إلى هذا الحد؟
الذي ظهر لي أنهما عاملان : أحدهما سياسي, والآخر تطوري0
أما العامل السياسي, فإن الغرب بعد أن دُحِر من أرض الإسلام عمل على العودة بطرق ماكرة وأشدها نكارة وخبثا : الاستعمار الإسرائيلي التوطيني في أرض فلسطين,ألهى به الأمة عن حل كثير من مشاكلها, وفرق كلمتها حتى في الأرض المنكوبة المغصوبة0 وتعددت أنواع المقاومة, وأضاف المكر الاستعماري الغربي والإسرائيلي إلى مكافحة المقاومة بلصق وصف الإرهاب بكل من يقوم بالدفاع عن الأرض السليبة بالقوة في أرض فلسطين أو خارجها. ولم يقتصر الاعتداء على أرض الإسلام في حدود فلسطين بل مد يده الآثمة إلى العراق وإلى أفغانستان, وما تزال جيوشه تدنس القطرين.ودائما كل مقاوم للاغتصاب  يوصف بأنه إرهابي مسلم0 بل إن كل جندي من الجنود أو غاصب صهيوني مرفوض وجوده يقتل, يوجه الاتهام,قبل التحقيق, إلى الإرهابي المسلم. وقامت في بعض الدول الإسلامية أنظمة لا تقل نكايتها بالمسلمين عن الأعداء, وكل حركة مقاومة توصف بالإرهاب0 وحاول بعض أصحاب النوايا الطيبة أن يدافعوا عن الإسلام فأعلنوا أن الإسلام دين الوسطية,واتخذ هذا ذريعة لتثبيط المقاومين الشرفاء.والاحتجاج هو بقوله تعالى :وكذلك جعلناكم أمة وسطا. وفي نظري لا تقوم هذه الآية دليلا لما وظفت له. إذ الآية تعتبر أن هذا الجعل الإلهي له عاقبة منصوص عليها هي الشهادة على الناس, وأن المسلمين ارتفعوا لهذه المرتبة ( الشهادة) إذا تحقق فيهم موجب هذا السمو بشهادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باستقامتهم على الطريق , وأن هذه الآية تهدف فيما تهدف إليه إبطال دعوى يهود أنهم خير أمة أخرجت للناس. فيثبت القرآن أن خير أمة هي امة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتزامها بقيم عقدية وسلوكية, يتحقق بها المستوى الإنساني الرفيع الذي تبلغه هذه الأمة بالتزامها به0
ولذلك فقد اقتنعت بأن الوسطية لا تكون وحدها معيارا, بل لابد أن يرتبط بها مقومان آخران : هما البر والاستقامة أو إن شئت فقل بصفة جامعة: (التوازن الخير الصالح)
أما الخير فهو معنى البر الذي ضبطه القرآن في قوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين والسائلين وفي الرقاب  وأقام  الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في السراء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المهتدون) وقد فصلت في البحث مسلك البر وقيام النص القرآني بتفصيله وبيان المقصود منه على اعتباره معيارا. وأما العنصر الثالث وهو الاستقامة فأقوى دليل على اعتباره معيارا تعليم الله لهذه الأمة أن يكون دعاءها به في كل ركعة من ركعات الصلاة,وأما تفصيل ارتباطاته بروح الإسلام في آيات كثيرة,فقد قمت بتفصيل بعض من ذلك في البحث.
وأما العامل التطوري,فإن التطورات البشرية وخاصة بعد ظهور الآلة والطاقة  اللتين بهما أضيف للإنتاج العالمي وللثروات  مضاعفات كبيرة جدا,  لم يواكبها الفقه الإسلامي, وقامت الآليات الربوية وحدها تساند هذه القوة الاقتصادية العظمى0 وتلكم الآليات منطلقة من :
1) حرية الإنسان باعتباره مالك المال والثروة, فيجب أن يفسح له المجال الاقتصادي ولا ينظم إلا في حدود ضيقة جدا لا تعطل انطلاقه0 هذا المبدأ الذي يناقض الأصل الإسلامي :أن المال  لله والإنسان مستخلف فيه مسؤول عن تصرفه فيه, إن كان جاريا حسبما يرضى عنه المالك رب العالمين.
2) الربط بين المال والزمن, على معنى أن للزمن حصة في نمو المال وهو الربا الذي حرمه القرآن تحريما باتا.
بذل فقهاء العصر جهودا جبارة متعاونين مع علماء الاقتصاد وظفروا بإبداع آليات مكنت للاقتصاد أن يواكب التطور الذي تحدثنا عنه0 وكانت الحلول التي تم الاهتداء إليها والتي بعثت الاقتصاد من الجمود مراعية للثوابت التي تميز النظرة الإسلامية والتي تنطلق من الثلاثي الذي حددته (التوازن الخير الصالح)
ولكن طغى تأويل الوسطية على اعتبار أن الوسطية في التحايل على الشريعة وإظهار أوراق  أشبه ما تكون بالأوراق التي تقدم للمراقبين الماليين لتبرئ صاحب النشاط المالي من الضرائب ؛ ولكن هي بعيدة عن روح الإسلام0 ورموا كل من يدعو إلى مراقبة الله والتمسك بالثوابت بأنه معسر ودين الله يسر والإسلام دين الوسطية0 فأباحوا التورق  المنظم. الذي يفترق عن المعاملة الربوية بفارق واحد : هو أن يكتب الموظف  في مكتب أنه باع سلعة بثمن مؤجل, ويكتب موظف ثان من نفس المؤسسة أنه اشترى تلك السلعة بثمن حال, مع اختلاف مكانيهما.ولا يفصل بين العمليتين إلا ثوان  معدودات وتكون المعاملة أن المتورق وقف في المكتب الأول ووقع عقد شراء بالأجل لسلعة يدفع ثمنها مؤجلا0 وأنه وقع في المكتب الثاني عقد بيع لنفس المؤسسة  بثمن حال قبضه, والفرق بين ثمن المعاملة الأولى والمعاملة الثانية مساو لسعر الليبور, سعر الفائدة في سوق لندن مع زيادة ؛ وسموا هذا: التورق المبارك0 كمباركة السبت0
وأما بيع المرابحة, فإنهم سوغوا للبنك أن لا يظهر في الشراء الذي يتم باسم الوكيل, ولا يكون البنك تبعا لذلك متحملا أي ضمان, ويكفي وجود وثيقة في الملف لا أثر لها في الواقع تقول :إن البنك هو الذي اشترى ثم باع للوكيل.وكانت الوسطية تبعا لذلك متكأ للصورية التي لا يختلف بها جوهر المعاملة عن المعاملة الربوية0
إن ما أؤكد عليه وأختم به كلمتي أن الوسطية لا تصلح أن تكون بمفردها معيارا يستند إليه بل لا بد أن ينضم إليها +البر = الخير + الاستقامة الصلاح في جميع الجوانب.
والله أعلم وأحكم وهو حسبي ونعم الوكيل, نعم المولى ونعم النصير, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد,كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد0
كتبه فقير ربه راجي عفوه وفضله عبده اللائذ به