تعميق المنهج الوسطي في فهم الشريعة الإسلامية

تعميق المنهج الوسطي في فهم الشريعة الإسلامية

تعميق المنهج الوسطي في فهم الشريعة الإسلامية


أ.د. بسام الصباغ
باحث ومفكر إسلامي وأستاذ جامعي - سورية

 

أهميَّةُ الوسطيَّةِ في الإسلام:
مِنْ أَهمِّ صفاتِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ الوسطيَّةُ ، وهي من خصائصِ الإسلام البارِزة ، وهي العلاجُ الشَّافي لحالاتِ الانحرافِ والالتواءِ والتَّطَرُّفِ ومظاهرِه ، والتَّفْرِيطِ وسماتِه ، الَّتي جَنَتْ على الأمَمِ الغابرةِ والحاضرةِ ، فما دخل التَّطرُّفُ والتَّفرِيطُ في شيءٍ إلا   حادَ به عن الفطرةِ السَّليمةِ ، والعقلِ الرَّشيدِ ، والمنهجِ السَّويِّ ، فالغُلُوُّ والتَّقصيرُ ، والإفراطُ والتَّفريطُ ، والجُمُودُ أو التَّساهُل ، والتَّحَجُّرُ أو التَّسيُّبُ ، أَخْطُرُ الأمراض الَّتي تجتاحُ المجتمعاتِ والعَقَائدَ ، فَتُفْسِدُ الحَيَاةَ ، وتميتُ عَقْلَ الإنسانِ ، وفطرتَهَ السَّليمةَ .
ولهذا وصِفت الدَّعوةُ الإسلاميَّة بالوسطيَّة ، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)  [البقرة:2/143] ، فالإسلام يوازن باعتدال بين متطلَّبات الجسد والرُّوح ، والدُّنيا والآخرة ، قال تعالى: ( وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:2/201] .

تعريفُ الوسطيَّةِ
أولاً: التَّعريف اللُّغويّ: (وَسَطُ الشَّيء: ما بَيْنَ طَرَفَيْهِ ، ومنه الحديث: " خيرُ الأمورِ أوساطها   "([1]) ، ومنه قولهُ تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)  [الحجّ:22/11] ، أَي على شَكٍّ ، فَهُوَ على طَرَفٍ من دينِهِ ، غيرُ متوسِّطٍ فيه ولا متمكِّن)([2]) .
وفي تَهْذيبِ اللُّغةِ: قِيلَ عن النَّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : (أَنَّه كانَ مَنْ أواسطِ قومه: أي من خيارِهم ، والعربُ تَصِفُ الفاضِل النَّسَبِ بأَنَّهُ من أَواسِط قومِه)([3]) .
ثانياً: الوسطيَّةُ اصطلاحاً: (وهذه خصِّيصَةٌ من أَبْرَزِ خَصَائصِ الإسلام ، وهي الوسطيَّةُ ، ويُعَبَّرُ عَنَّها أيضاً بـ " التَّوازُن" ، ونَعْنِي بها التَّوَسُّط أو التَّعَاوُنُ بينَ طَرَفَينِ مُتَقَابِلينِ أو مُتَضادَّينِ ، بحيث لا ينفردُ أَحدُهُما بالتَّأثيرِ ، ويُطردُ الطَّرَفُ المُقَابِلُ ، وبحيثُ لا يأخذُ أَحَدُ الطَّرفينِ أَكثرَ من حقِّه ويَطْغَى على مقابلِه وَيَحِيْفُ عليه)([4]) .
فالوسطيَّةُ هي الخَطُّ الفاصِلُ بين الإفراطِ والتَّفريطِ ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ أَمَّة محمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بهذه الصِّفَةِ ،( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:2/143] . وفي "البيان" يقول "الطُّوسي"([5]): مفسِّراً الآيةَ السَّابِقَةَ: (أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى أَنَّهُ جَعَلَ أُمَّةَ نَبِيِّهِ محمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَسَطَاً: أَيْ سمَّاها بذلك وحكَم لَهَا به ، والوَسَطُ: العدلُ ، وقيلَ: الخِيَارُ ، ومعناهما واحد ، وقيلَ:إنَّهُ مأخوذٌ من المكانِ الَّذي تتساوى المَسَافَةُ منْهُ إلى أطرافه ، وقِيْلَ: بل أُخِذَ الوَسَطُ من التَّوَسُّطِ بين المُقَصِّرِ والمُغَالِي ، فأُلْحِقَ معهُ ، ورُويَ عن النَّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّه قَالَ: أُمَّةً وَسَطَاً: عَدْلاً)([6]) .
وفي الكشَّافِ: " أُمَّةً وَسَطَاً" خياراً وهي صِفَةٌ بالاسمِ الَّذِي هو وَسَطُ الشَّيءِ ولذلك استوى فيه المذَّكَرُ والمؤَنَّثُ والجمعُ والواحدُ . . . وقيلَ للخيارِ وَسَطٌ لأَنَّ الأطرافَ يتسارعُ إليْها المَلَلُ والأَوْسَاطُ مَحْمِيَّةٌ محوطَةٌ ، ومنه قولُ الطَّائي:
 
كانت هي الوَسَطَ المحميَّ فاكتَنَفَتْ  بها الحوادِثُ حتَّى أصبحتْ طَرَفَاً 
وجاء في التَّفسير المنير ، (جَعَلْنَا المسلمينَ خِيَاراً عُدُولاً ، فهم خيارُ الأُمَمِ ، والوَسَطُ في الأمورِ كُلِّها بلا إفراطٍ ولا تَفْرِيطٍ ، في شَأنِ الدِّينِ وَالدُّنيا ، وبلا غُلُوٍّ لَديهِم في دِينهم ، ولا تَقْصِيرٍ منهم في واجباتِهم ، فهم ليسوا بالمادِّييِّنَ كاليهودِ والمشركينَ ، ولا بالرُّوحَانييِّنَ كالنَّصارى وإنَّما جَمَعُوا بين الحَقَّين: حَقِّ الجَسَدِ ، وحَقِّ الرُّوحِ ، ولم يُهْمِلوا أيَّ جانبٍ بينهما ، تمشِّياً مع الفِطْرةِ الإنسانيَّةِ القائمةِ على أنَّ الإنسان جَسدٌ ورُوحٌ)([7]) .
(إنَّها الأُمَّةُ الوَسَطُ الَّتي تَشْهَدُ على النَّاسِ جميعاً ، فتقيمُ بينهم العَدْلَ والقسْطَ ، وتَضَعُ لهم الموازينَ القِيَمَ . . . وهي شَهيدةٌ على النَّاسِ ، وفي مقامِ الحُكْمِ العَدْلِ بينهم . . . وإنَّها لَلأُمَّةُ الوَسَطُ بِكُلِّ معاني الوسَطِ، من الوسَاطةِ بمعنى الحُسنِ والفَضْلِ ، أَو مِنَ الوَسَطِ بمعنى الاعتدالِ والقَصْدِ ، أو من الوَسَط بمعناه المادِّيِّ الحسِّيِّ ..." أمةً وسطاً" في التَّصَوُّرِ والاعْتِقَاد ، لا تَغْلُو في التَّجَرُّد الرُّوحيِّ ولا في الارْتِكَاسِ المَادِّيِّ ، إِنَّمَا تَتَّبِعُ الفِطْرَةَ المُمَثَّلةَ في رُوحٍ مُتَلَبِّسٍ بِجَسَدٍ ، أَوْ جَسَدٍ تتلَبَّسُ به رُوحٌ ، وتُعْطي لهذا الكِيَانِ المزدوجِ الطَّاقاتِ حَقَّهُ المتَكَامِلَ من كُلِّ زَادٍ ، وتعملُ لترقية الحياةِ ورَفْعِها ، في الوقتِ الَّذي تعملُ فيهِ على حفظِ الحياةِ وامتدادِها ، وتُطْلِقُ كَلَّ نشاطٍ في عَالَم الأَشْواقِ وَعَالَمِ النَّوازِع بلا   تفريطٍ ولا إفراطٍ ، في قَصْدٍ وتَنَاسُقٍ واعْتِدَالٍ ، "أمَّةً وسطاً" في التَّفْكِيْرِ والشُّعورِ ... في التَّنْظِيمِ والتَّنْسيقِ ، لا تَدَعُ الحَيَاةَ كُلَّها للمشاعر والضَّمائِر ، ولا تَدَعُها كذلك للتَّشريعِ والتَّأْدِيبِ ... فلا تَكلُ النَّاسَ إلى سَوْطِ السُّلطَانِ ، ولا تكـلُهم كذلك إلى وَحْيِ الوُجْدانِ ... "أمَّةً وسطاً"، في الارتباطاتِ والعُلاقَاتِ ، لا تلغي شَخْصيَّةَ الفَرْدِ ومقوِّماتِه ، ولا تتلاشى شَخْصِيَّته في شخصيَّةِ الجماعةِ أو الدَّولةِ ، ولا تُطْلقُهُ كذلك فرداً أَثِراً جَشِعَاً لا همَّ له إلا ذاتُهُ ... وتقرِّرُ من التَّكاليفِ والواجبات ما يجعلُ الفَرْدَ خادِماً للجماعةِ ، والجماعةَ كافلةً للفَرْدِ في تنَاسُقٍ واتِّسَاقٍ ، "أمَّةً وسطاً" في المكانِ. . . وما تزال هذه الأُمَّةُ الَّتي غَمَرَ أَرْضَها الإسلامُ إلى هذه اللَّحظَةِ هي الأُمَّةُ الَّتي تَتَوَسَّطُ أَقطارَ الأرْضِ . . . " أمَّةً وسطاً" في الزَّمانِ ، تُنْهيْ عَهْدَ طفولَةِ البَشَرِيَّةِ من قبلها ، وتَحْرُسُ عَهْدَ الرُّشْدِ العقليِّ من بعدِها ، وتقفُ في الوَسَطِ تَنْفُضُ عن البَشَرِيَّةِ ما عَلِقَ بها من أَوهامٍ وخُرافاتٍ من عهد طفولتِها ، وتَصُدُّهَا عن الفِتْنَةِ بالعَقْلِ والهوى)([8]) .
ويرى "البيضاويّ" في تفسيرهِ معنى الوسطيَّة ، هي: (أي خياراً وعُدُولاً مُزَكَّيْنَ بالعلمِ والعملِ ، وهو في الأصلِ اسمٌ للمكانِ الَّذي تستوي إليه المساحةُ من الجوانبِ ثمَّ اسْتُعِيرَ للخِصَالِ المَحمودَةِ لوقوعِها بين طرفي إفراطٍ وتفريطٍ كالجودِ بين الإسرافِ والبخلِ والشَّجاعةِ بين التَّهوُّرِ والجبنِ)([9]) .
وقول الله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[البقرة:2/143]، فما معنى هذه الشَّهادة ، (ومن غاياتِ هذه الوسطيَّةِ وثمرتِها: أَنْ يكونَ المسلمونَ شُهَداءَ على الأُمَمِ السَّابِقَةِ يومَ القيامَةِ ...)([10]) .

مزايا الوسطيَّة الإسْلاميَّة 
للوسطيَّةِ سَبْعَ مَزَايا أَسَاسية ([11]) نختصرُها:
1- الوسطيَّةُ أَلْيَقُ بالرِّسَالَة الخَالِدَةِ: إنَّ الرَّسَائِلَ المَرْحَليَّةَ عُرْضَةٌ للتَّغَيُّرِ والتّبدُّلِ ، فَقَدْ يَطْغَى جانبٌ أو نَزْعَةٌ ، فيأتي   عليها بطغيان جانبٍ أو نزعةٍ أخرى ، ثمَّ يكونُ الموقفُ بالالتجاءِ إلى الحدِّ الوَسَطِ تَفَادِياً للغُلُوِّ في الجانبِ الأوَّلِ والثَّاني ، أمَّا رِسالةُ الإسلامِ فقد أخذتْ على عاتِقها أنْ تكونَ كَفَّتَا الميزانِ في اعتدالٍ دائمٍ لأنَّها خاتِمَةُ الرِّسَالاتِ ، ولأنَّها الخالدَةُ حتَّى يومِ الدِّينِ .
2- الوسطيَّةُ تعني العَدْلَ ، فالعَدْلُ تَوَسُّطٌ بينَ الأطرافِ المتنازعةِ ، دونَ انحيازٍ لأحدِ الأطرافِ . . . وبلا جنوحٍ إلى الغُلوِّ ولا إلى التَّقْصِير .
3- الوسطيَّةُ تعني الاستقَامَةَ ، فلا انحرافَ إلى يمينٍ أو شِمَالٍ بل إلى سُلوكِ الصِّراط المُسْتَقيم: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[الأنعام:6/153] .
4-الوسطيَّةُ دليلُ الخَيرِيَّةِ: (خَيْرُ الأمورِ الوسَطُ) ، والأمَّةُ الوَسَطُ: الخيِّرةُ والجيِّدةُ ، وكانَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَسَطاً في قومِه أي أَشْرَفَهم نسباً ، والصَّلاةُ الوسْطى ، هي أَفضَلُ الصَّلواتِ ، والشَّبابُ هو العمرُ الوَسَطُ بين الطُّفولةِ والشَّيخوخةِ ، والرَّبيعُ هو الفصلُ الوسطُ بين الصَّيفِ والشِّتاءِ ، والرَّشَاقةُ هي الجمالُ الوسطُ بين البدانةِ والنَّحافةِ . . .
5- الوسطيَّةُ تمثِّلُ الأَمانَ لأَنَّ الأَطرافَ عادةً هي الَّتي تَتَعَرَّضُ للخَطَرِ والفَسَادِ([12]) .
6- الوسطيَّةُ دليلُ القُوَّةِ ، فالشَّمسُ في رابعةِ النَّهارِ أَقْوى منها في أوَّلِه وآخِرِه .
كما أَنَّ الشَّبابَ هو القوَّةُ بين ضَعفينِ ، والحَجرُ هو قوَّةُ الوقودِ بين اشْتِعَالِ النَّارِ وبينَ الرَّمادِ . . . وما إلى ذلك . . .
7- الوسطيَّةُ مَرْكَزُ الوَحْدَةِ: فحين تَتَعَدَّدُ الأطَرافُ يبقى الوَسَطُ واحداً ، يمكن لِكُلِّ الأطرافِ أنْ تلتقيَ عندَه ، والأمْرُ سواءٌ في الجانبينِ الحِسِّيِّ والمعنويِّ ، ففي الدَّائرةِ يمكنُ لكُلِّ الخطوطِ الآتيةِ من المحيطِ أنْ تلتقي عِنْدَه ، والفكرةُ الوسطى يمكنُ أنْ تلتقي بها الأفكارُ المتطرِّفَةُ في نقطةٍ ما وهي نقطةُ الاعتدال .
مظاهر الوسطيَّة:
تتجلَّى الوسطيَّةُ في مظاهرِ الإسلامِ في عقائدِه وشرائِعه وأخلاقِه ، فلا إفراط ولا تفريط بين عدلٍ واعتدالٍ وتوازنٍ فتظهر هذه الوسطيَّة في:
1- الوسطيَّة في الاعتقاد: (الإسلامُ يدعو إلى الإيمانِ بإلهٍ واحدٍ لا شريكَ له ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد)([13]) .
فالعقيدةُ الإسلاميَّةُ وَسَطٌ ليس فيها " إلحادٌ" أو " تَعَدُّدُ الآلهة" وليس فيها رُبُوبيَّةُ الإنسانِ أو ربوبيَّة الأوثانِ ، ولا تقديس الأنبياءِ تقديساً يخرجهم عن بشريتهم ، أو تكذيبهم والإساءة إليهم ، وليس فيها الإيمانُ بالعقلِ وحدَه أو الوحي وَحدَه بلا عقل .
2- الوسطيَّةُ في العِبَادَة: فلا    رَهْبَانيَّةَ في الإسلامِ ولا انقطاعَ عن الدُّنيا ، ولا دينُ الدُّنيا الَّذي يُطَلِّقُ الآخرةَ ، ويعتمدُ على المادَّةِ في كُلِّ موازينهِ ، بل هو دِينُ الدُّنيا والآخرةِ ، يقول الإمام عليٌّ: (للمؤمنِ ثلاثُ ساعاتٍ ، فساعةٌ يناجي فيها رَبَّه ، وساعةٌ يرمُ مَعَاشَه ، وسَاعَةٌ يخلِّي بينه وبين نفسِه وبين لذَّاتِها فيما يَحِلُّ ويَجْمُلُ)([14]) .
ولقد وردت آياتٌ كثيرةٌ في هذا الاعتدالِ مثل قول اللَّهِ عزَّ وجلَّ: ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:28/77] ، وقول اللَّه تعالى: ( وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )[البقرة:2/201] .
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لَيْسَ بِخَيْرِكُمْ مَنْ تَرَكَ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ ، ولا آخِرَتَهُ لِدُنْيَاهُ ، حتَّى يُصِيْبَ مِنْهُمَا جَمِيعَاً ، فإنَّ الدُّنيا بلاغٌ إلى الآخرةِ ، ولا تكونوا كلاً على النَّاس   "([15]) .
وقد قَرَن اللَّه عزَّ وجلَّ بين العبادَة والعملِ ، ففي الآيات الآمرة بصلاة الجُمُعَةِ قَرَنَهَا بعد الصَّلاةِ بالسَّعيِ في الأرض ، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:62/9-10]، وكذلكَ في الحجِّ وهو ركنٌ أَساسيٌّ من أرْكانِ العباداتِ في الإسلامِ قال عنه: ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحجّ:22/28] ، فقد قرن المَنَافِعَ المادِّيـَّةَ بالمَنَافِعِ الرُّوحيَّةِ العبادِيَّةِ . . .
3- الوسطيَّة في الأخلاقِ: إنَّ علماءَ الأخلاقِ يَرَونَ أَنَّ عِلَّةَ الإفراطِ والتَّفريط في كُلِّ أَمْرٍ أخلاقيٍّ يكونُ مردُّها إلى الوَسَط ، فالشَّجاعةُ وسَطٌ بين التَّهوُّرِ والجبنِ ، والكَرَمُ وَسَطٌ بين البُخْلِ والتَّبذِير .
4- الوسطيَّة في التَّشريع: كُلُّ القوانينِ والشَّرائع والدَّساتيرِ تستمدُّ أنظمتها من الواقعِ فتتغيَّرُ مع تَغيُّرِ الواقعِ ، والملاحَظُ أَنَّ كُلَّ التَّشريعاتِ والقوانينِ الوضعيَّةِ تَتَطَرَّفُ ، وتَتَغيرُ ، فنرى الفرق بين (اليهوديَّة الَّتي أسرفت في التَّحريمِ وكَثُرتْ فيها المحرّماتُ . . . وبين المَسِيحيَّةِ الَّتي أَسرفت في الإباحةِ حتَّى أحلَّت الأشياءَ المنصوصَ   على تحريمها في التَّوراةِ . . . أمَّا الإسلام فقد أحلَّ وحرَّمَ ، ولكنَّه لم يجعلِ التَّحليلَ وَالتَّحريمَ من حقِّ البشَرِ ، بل من حَقِّ اللَّهِ وحده ، ولم يحرِّم إلا الخبيثَ الضَّارَّ ، كما لم يُحِلَّ إلا الطَّيـِّبَ النَّافِعَ)([16]) .
والوسطيَّةُ لا تقفُ في الإسلامِ عند الحَلالِ والحرامِ فحسبْ ، بل تمتدُّ لتشمَلَ تشريعاتٍ اجتماعيَّةً كما في شؤون الأسْرَةِ من زواجٍ وطلاقٍ ، وتعدُّدٍ ، فالتَّشْرِيعُ الإسلاميُّ وَسَطٌ (بَيْنَ الَّذين شرَّعوا تَعدُّدَ الزَّوجاتِ بغير عددٍ ولا قيدٍ ، وبينَ الَّذين رَفَضوه وأنكروه ولو اقتضته المَصْلَحةُ وفرضتهُ الضَّرورةُ والحاجةُ)([17]) .
وكذلك الطَّلاقُ هو تَوسُّطٌ (بينَ الَّذين حرَّموا الطَّلاقَ ، لأيِّ سببٍ كان ، ولو استحالت الحياةُ الزَّوجيةُ إلى جحيمٍ لا يُطاقُ ، كالكاثوليك ، وقريبٌ منهم الَّذين حَرَّموه إلا لعلّةِ الزِّنى والخيانةِ الزَّوجيةِ كالأرثوذوكس . وبين الَّذين أَرخَوا العنَانَ في أَمْرِ الطَّلاقِ ، فلم يقيِّدوه بقيدٍ أو شرطٍ)([18]) ، والأَمْثِلةُ في التَّشْريع الإسلاميِّ كثيرةٌ .
5- الوسطيَّةُ في الاقتصاد: وَقَفَ الإسلامُ موقفاً وَسَطاً بين الإسرافِ والتَّقتيرِ ، وذَمَّت آياتٌ عديدةٌ في كتاب الله الإسراف والتَّقتير منها قوله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) [الفرقان:25/67]، وقوله: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء:17/29]. 
كما تحدَّث القرآن عن قضيةٍ اقتصادِيَّةٍ وهي التَّطفيفُ ، قال تعالى:(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ ) [المطفِّفين:83/ 1-5] .
وتحدَّث القرآنُ عن إقامةِ الوزنِ بالقِسْطِ قال اللَّه تعالى: ( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرَّحمن:55/9] ، وقال: ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأعراف:7/85] .
ووضع قواعدَ في المعاملاتِ وحدوداً لكسبِ المال وإنفاقهِ .
6- الوسطيَّةُ في إطار الشَّخصيَّةِ الإسلاميَّةِ: أَهَمُّ مقوِّماتِ الشَّخصِيَّةِ الإسلاميَّةِ الإيمانُ والعملُ وهما متلازمان ، ولا يصِحُّ أَحدُهما بدونِ الآخر ، فمن تحرَّكَ ميدانيَّاً وَدَخَلَ سَاحةَ العملِ بدون الرَّصيد الإيمانيِّ المطلوبِ فإنَّهُ لا يكونُ عاملاً للإسلامِ ، لأنَّ أَعمالَه ستكونُ صادِرَةً عن رغباتٍ ذَاتيَّةٍ يُريدُ من ورائها أنْ يُلَبـِّيَ حَاجةَ النَّفْسِ وأهواءَها ، وإنْ كانَ مَظْهَرُهَا إسْلامياً .
فالإنسانُ يعملُ في الإسلامِ من أَجْلِ الإسلامِ ومصلحة الإسلام لا مِنْ أَجْلِ ذات الإنسان ومصلحتهِ ، وهو جزءٌ من المجتمعِ فعليه أنْ يَخْدمَ المجتمعَ لا أن يُسَخِّرَ المجتَمعَ لخدمَتِهِ ، إنَّها وسطيَّةٌ في ثقافةِ المُسلم فلا يطغى جانبٌ على جانبٍ ، جاء في حديث رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم): " العلم ثلاثةٌ: وما سِوَى ذلكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيـَةٌ مُحْكَمَةٌ ، أو سُنـَّةٌ قائمَةٌ ، أو فَرِيضَةٌ عَادِلةٌ   "([19]) ، ووقفَ الإسلامُ موقفاً شديداً مع أولئك الَّذين يقولون ما لا يفعلون ، قال اللَّه سبحانه وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصَّفّ:61/2-3] .
7- وسطيَّة بين الفرديَّةِ والجماعيَّةِ: المذهبُ الرَّأسماليُّ جَعَلَ الإنسانَ وفرديَّته ومَصَالِحهُ محورَ الحياةِ ، والمَذْهَبُ الشُّيوعيُّ جعل المجتمعَ هو المحورَ ، وهذه نظرياتٌ قديمةٌ قد ظهرتْ عَبْرَ التَّاريخِ بِصُورٍ   متنوِّعةٍ ، ولكنَّ الإسلامَ جمع بينَ الفرديَّةِ والجماعيَّةِ ، ووضعَ قانوناً عادلاً فلا يطغى جانبٌ على آخرَ ، بشكلٍ متوازنٍ ودقيقٍ ، ووازَنَ بين حُرِّيـَّةِ الفَرْدِ ومَصْلَحةِ الجماعة ، (وفي النِّظام الإسلاميِّ تلتقي الفَرْدِيَّةُ والجماعيَّةُ في صورةٍ مُتَّزِنَةٍ رائعةٍ ، تتوازن فيها حُرِّيـَّةُ الفَرْدِ ومصلحةُ الجماعةِ ، تتكافأ فيها الحقوقُ والواجباتُ ، وتَتَوزَّعُ فيها المغانم والتَّبِعاتُ ، بالقسطاس المستقيم)([20]) .
والإسلامُ واقعيٌّ في تعاملِه مع الجانبِ الفرديِّ في الإنسانِ ومع الجانبِ الاجتماعي لَدَيهِ ، فلقد قرَّر الإسلامُ (حُرْمَةَ الدَّمِ فحفظ للفردِ حقَّ الحياةِ ... وقرَّرَ حُرْمَةَ العِرْضِ فَصَانَ للفردِ حَقَّ الكرَامَةِ ... وقرَّر حُرْمَةَ المالِ فصان له حقَّ التَّملُّكِ ... وقرّر حرمة البيتِ فصان للفردِ حقَّ الاستقلالِ الشَّخصيِّ ...)([21]) .
وبالمقابل نجد أنَّ الإسلامَ أَولى الجماعَةَ أهمِّيـَّةً كُبْرى لِمَا لذلك مِنْ أَثَرٍ كبيرٍ في بناءِ الكيانِ السِّياسيِّ والاجتماعيِّ للدَّولةِ الإسلاميَّة من الدَّاخلِ والخارجِ ، فكُلُّ إنسانٍ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتهِ ، وكلُّهم مسؤولونَ عن إقامةِ شَرْعِ اللَّهِ والحُدُودِ . . .
8- الوسطيَّةُ في العلاقاتِ: لقد جَعَلَ الإسلامُ الاعتدالَ في العلاقاتِ فلا قطيعةَ باترةً ولا وصالَ أَعمى ، وجعلَ أساس الرَّوابطِ بين النَّاسِ الحُبَّ في اللَّه ، وجعل الحُبَّ في اللَّهِ من أعلى شُعَبِ الإيمانِ ، فلا تطغى النَّوازعُ البَشَريَّةُ الحيوانيَّةُ على العلاقاتِ الاجتماعيَّةِ .
ثانياً: وأما الشريعة الوسطى فتقف على بعض النقاط منها:
التَّشريع: (إنَّما هو إقامة الأحكام الَّتي يُتَوخَّى منها تنظيم حياة المجتمع والفرد ، وبديهيٌّ أن يكون للتَّطوُّر الزَّمنيِّ ولاختلاف الأمم والأقوام أثرٌ في تطوُّر شرائعهم ، إذ إنَّ فكرة التَّشريع من أساسها قائمةٌ على ما تقتضيهِ مصالحُ العبَادِ في دنياهم وآخرتهم ، وهذه المصالح كثيراً ما تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فقد بُعث موسى عليه السَّلام مثلاً إلى بني إسرائيل ، وكان الشَّأن يقضي -بالنِّسبة لحال بني إسرائيل إذ ذاك- أن تكون شريعتهم شديدةً قائمةً في مجموعها على أساس العزائمِ لا الرُّخَصِ ، ولما مرَّت أزمنةٌ وبُعِثَ فيهم سيِّدُنا عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ، جاءهم بشريعةٍ أسهلَ وأيسرَ . . .)([22]) .
(والشَّريعة هي الطَّريقةُ الموضوعةُ ، للسَّيرِ عليها ، والمراد بها التَّكاليفُ الظَّاهرة الَّتي تؤدَّى بالجوارح . . . والتَّكاليفُ أنواعٌ متعدِّدةٌ وأعظمُها العباداتُ الَّتي رَسَمَ اللَّهُ حدودَها وبيَّنَ دقائِقَها كالصَّلاةِ والصَّومِ والزَّكاةِ والحجِّ ، وتلك فروضٌ عينيَّةٌ واجبةُ الأداء على كلِّ فردٍ يأثمُ بتركها ويثابُ على فِعلها .
وهناك فروضُ كفايةٍ كالجهاد والعلم وأعمالِ الصَّدقة والزَّكاة وغيرها وهي واجبة على المجموع إن أدَّاها البعض سقطت عن الباقين ، وإن تركها الجميع أَثِموا جميعاً)([23]) .
النُّقطة الثَّانية: مكانة الشَّريعة من الدَّين .
والشَّريعةُ جزءٌ من الدِّين ولا تنفكُّ الشَّريعةُ عن العقيدةِ ، فمن أنكرَ العقيدةَ كَفَرَ ، ومن أهملَ الشَّريعةَ عصى وقصَّرَ وسَلَك طُرُقَ الهالكين .
النُّقطة الثَّالثة: ثُبوت الشَّريعة.
(وإنَّ العقيدةَ ثابتةٌ بالأدلَّة القطعيَّةِ ، وكذلك ما حُدِّدَ من عبادات الشَّريعة وما ثبت بدليلٍ قطعيٍّ لا تغيير فيه ، أمَّا ما عدا العقيدة والعبادات فإنَّ الشَّريعة قد وضعت له الأصولَ الثَّابتة والكلِّيَّاتِ العامَّةِ وتركت فروعَ التَّطبيقِ للنَّاس ، لأنَّ هذه الفروع تختلف باختلافِ الزَّمانِ والمكانِ وترسمها المدارسُ الفقهيَّةُ المختلفةُ)([24]) .
النُّقطة الرابعة: هدفُ الأحكامِ الشَّرعيةِ .
علماءُ الإسلامِ حدَّدوا هَدَفَ الأَحْكامِ الشَّرعيَّة في كُتُبِهم سواءٌ في الكتبِ العَّامةِ " ككتبِ أصولِ الفقهِ" ، أو في كُتبٍ خاصَّةٍ حملت اسمَ " مقاصدُ الشَّريعة " ، وقالوا بالإجماع: إنَّ مقاصدَ الشَّريعةِ محصورةٌ في تحقيقِ مَصَالحِ النَّاسِ ، وهي جَلْبُ النَّفْعِ لهم ، ودَفْعُ الضَّرَرِ عنهم ، واستخلصوا من الأحكامِ الشَّرعيَّةِ قواعدَ كثيرةً ترتبطُ بهذه المقاصد ، الَّتي تعودُ على الإنسان بالخيرِ والمنفعةِ في العاجل والآجلِ ، في الدُّنيا والآخرةِ ، وبنفس الوقت تمنع كلَّ ما يعودُ على الإنسانِ بالضَّررِ والشَّرِّ والمفسدةِ ، في الحاضر والمستقبل ، في الدُّنيا والآخرة .
ويتحدَّثُ القرآنُ الكريمُ عن دعوة الأنبياءِ والرُّسلِ بأنَّ دعوتهم ترتبطُ بما يعودُ على النَّاسِ بالخيرِ والمصلحةِ ، قال الله تعالى على لسان نبيِّه شُعيب: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:11/88] ، وهذه دعوةُ العُلماءِ المُخْلِصِين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ .
لقد جاءت الأحكامُ الشَّرعيَّةُ تدعو إلى الخيرِ وترعاهُ وتُنَمِّيهِ ، سواءٌ أكانَ هذا الخيرُ كبيراً أم صغيراً ، مادِّيَّاً أم معنويَّاً ، فرديَّاً أم جماعيَّاً ، داخليَّاً أم دوليَّاً ، وما من ضَررٍ على الفردِ أو المجتمع أو الأمَّةِ ، حاضراً أو مستقبَلاً ، إلا جاءت الأَحكامُ الشَّرعيَّة تحذِّرُ منه ، وتُبْعِدُ النّاسَ عنه ، وكلُّ ما ثبت ضَرُرُه ومفسدتُه وفي أيِّ زمنٍ فالإسلام بَراءٌ منه وهو حرامٌ يجب الابتعادُ عنه ، وملخَّص القول: إنَّ الإطارَ العامَّ الَّذي يحيط الإسلامُ به الأحكامَ الشَّرعيَّةَ إنَّما هو جَلْبُ المنافعِ ، ودَفْعُ المفاسدِ .
وكلُّ مستجدٍّ وأمر من أمور النّاسِ لم يكن في زمنِ رسولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم يَرِدْ فيه نصٌّ من قرآنٍ وسنَّةٍ ، يُحِلُّه أو يُحرِّمُهُ علماءُ الإسلام بالقياس لهذه القاعدة .

مقاصد الشَّريعة العامَّة:
من أجلِ سعادةِ الإنسانِ جاءت الدَّعوة لتحقِّقَ له ضروراتِ الجسدِ والرُّوحِ معاً ، ولتقيم بينهما توازناً عادلاً ، دقيقاً ، لتقيم توازناً بين العقلِ والقلبِ ، وبين الدُّنيا والآخرة ، وبين البشريَّة والملائكيَّة في الإنسان ، وكما قال اللَّه تعالى: ( وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:2/201] ، وقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:28/77] .
 (فمقاصدُ الشَّرائع: هي الغايةُ منها ، والأسرارُ الَّتي وَضعها المُشرِّع عند كلِّ حُكمٍ من أحكامها ، أو المصالحُ الَّتي يَقصِدُ إليها الشَّارع في تشريعه ، وهي في الإسلام بحسَب الاستقراءِ العقليِّ والواقعيِّ ثلاثةُ أنواعٍ: وهي الضَّروريَّات والحاجيَّات والتَّحسينات ، والحاجيَّات كإباحة الفِطر في رمضانَ للمريض والمسافر والحاملِ والمرضع ، وقصرِ الصَّلاة الرُّباعيَّة في السَّفر ، والتَّحسينات هي الأمورُ الَّتي تقتضيها المُروءَةُ ومكارمُ الأخلاقِ أو الأخْذُ بمحاسنِ العاداتِ)([25]) .
أوَّلاً: الضَّروريَّات.

هذه الضَّرورات عُرِفت بالضَّروراتِ الخمسِ:
وهي: المالُ والنَّفسُ والنَّسلُ والعقلُ والدِّينُ ، (وهذه الضَّرورات إن فُقِدتْ لم تَجْرِ مصالحُ الدُّنيا على استقامةٍ بل على فسادٍ وتهارجٍ وفَوتٍ في الحياة الدُّنيا ، وفي الآخرة  فَوتُ النَّجاة والنَّعيم والرُّجوعُ بالخسران المبين ، وكلُّ الرِّسالاتِ السَّماويَّةِ تُراعي في أحكامها هذه الأصولَ الخمسةَ الَّتي عليها قوام كلِّ مجتمعٍ إنسانيٍّ ، وهي مسلَّماتٌ عند كلِّ أتباع الرِّسالات)([26]) .
قال الغزاليّ: (إنَّ مقصودَ الشَّرع من الخَلقِ خمسةٌ وهو أن يَحفظ عليهم دينَهم ونفسَهم وعقلَهم ونسلَهم ومالَهم ، فكلُّ ما يتضمَّنُ حِفظَ هذه الأصولِ الخمسةِ فهو مصلحةٌ: وكلُّ ما يفوِّتُ هذه الأصولَ فهو مَفسَدةٌ ، ودفعُها مصلحةٌ . . . وتحريمُ تفويت هذه الأصولِ الخمسةِ والزَّجرُ عنها يستحيلُ ألا تَشتملَ عليه ملَّةٌ من المللِ وشريعةٌ من الشَّرائعِ الَّتي أُريدَ بها إصلاحُ الخَلق)([27]) .
1- حفظُ الدِّين
الدِّينُ لغةً الجزاءُ والمكافأةُ ، واصطلاحاً: (هو مجموعةُ العقائدِ والعباداتِ والأحكامِ والقوانين الَّتي شَرَعها اللَّهُ سبحانه لتنظيم علاقةِ النَّاسِ بربِّهم ، وعلاقاتهم بعضِهم ببعضٍ)([28]) .
و(الدِّين فطرةٌ ساميةٌ وغريزةٌ عامَّةٌ تجعل الإنسانَ يشعرُ دائماً بقوَّةٍ غيبيَّةٍ حولَه . . . ومن هنا كانت مهمَّةُ الرُّسلِ أن يوجِّهوا الإنسانيَّةَ إلى الصِّراطِ المستقيمِ الَّذي يُعْرَفُ بالإله الحقِّ ويبيِّنوا وجوبَ عبادتهِ وتقديسِه وتعظيمهِ ، وبذلك صانوا صلوات اللَّه عليهم أصالةَ الفطرةِ وأبعدوا عنها مظاهرَ الانحراف والضَّلال ، وكانت خاتمةُ المطاف على يدِ سيِّدنا محمَّدٍ(صلى الله عليه وآله وسلم) )([29]) ، ومن أجل حفظ الدِّين .
أولاً: فُرضت التَّكاليفُ([30]) اليسيرة على الإنسان بما يتوافق مع فطرته ، حيث شُرطَ لإقامتها: الاستطاعةُ ورفعُ الحرجِ والمشقَّةِ عن صاحبها ، وهي مُفيدةٌ للإنسانِ في ترقِيَتِه وتهذيبهِ وأخلاقهِ ، مفيدةٌ له في دنياه وآخرته ، وهذه التَّكاليفُ معتدلةٌ فيها توازنٌ بين الرُّوحِ ومطالبِ الجسدِ ، والدُّنيا والآخرةِ ، فهي شاملةٌ في ظواهرها الفرديَّةِ والاجتماعيةِ ، الَّتي توحي للإنسان بالكمال .
ثانياً: وفرض الله على المتديِّن الدَّعوةَ إلى الدِّين بعد ما يكون قد تَخلَّقَ به وعرفه .
ثالثاً: أَذِن الله للدِّفاع عن النَّفس والدِّين بالجهادِ .
فكلُّ المعاركِ في عصر النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تعدو هذه الحقيقة ، فلم يقاتلِ النَّبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) العربَ إلا لأنَّهم أخرجوه من مكَّة وآذَوه واستولَوا على أموال المسلمين وقصدوا فتنتهم في دينهم ، ولم يحارب اليهودَ إلا لأنَّهم بدؤوا الغدر بالمسلمين ، ولم يكن جهادُه للإبادةِ وإنَّما كان كلُّهُ رحمةً رفيقةً حيث لا حربَ إلا في ميدان القتال ، ومع المقاتلين وحدهم ، وكان دائماً حمايةً للدَّعوة من معارضيها المعاندين ، لأنَّ التَّقصير في هذه النَّاحيةِ يُعرِّض الدِّينَ للزَّوال فلا بدَّ من حمايته .
رابعاً: وأوجب حماية الدَّعوة من اللَّغو والانحراف ، لأن الدَّعوة معتدلةٌ أي أنَّها تمزِجُ مزجاً حسناً بين مطالبِ الرُّوحِ ومطالبِ الجسدِ وتُشرِّعُ للدُّنيا والآخرة ، وتُحافظ على حقِّ اللَّه وحقِّ الحياةِ ، فيحاربُ الدِّينُ الغُلوَّ والانحرافَ كتأليهِ البشر أو حلولِ جُزءٍ من الألوهيَّة فيهم، أو جعل العصمة لغير الأنبياء والرسل من البشر.
2- حفظ النَّفس
من أجل حفظ النَّفسِ اعتنى الإسلامُ بالجسدِ فأمر بالاعتناء به ، وإعطائه حقَّه وأَمَرَ المسلمَ بالنَّظافةِ والطَّهارةِ ، وحرَّمَ عليهَ ما يسبِّب المرض ، كالخمر والزِّنا وأكل لحم المَيْتة والدَّم والخنزير ومعاشرة النِّساء في المحيض ، والتَّبوُّلِ في الماء الرَّاكد ، ووَضَعَ قواعد عند وجودِ الأوبئةِ كالحَجْرِ الصِّحِّيِّ .
وأمرَ الإسلامُ بالعلاجِ ، " ما أنزل اللَّه داءً إلا أنزل له شفاءً  "([31]) ، إلى أمور كثيرةٍ في الطَّعام والشَّراب .
وحمى الإسلامُ النَّفس من الاعتداءِ ، وأوجب الحدودَ والقِصاصَ ، ونهى عن التَّهلُكَة ، قال تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [البقرة:2/195] ، وحَرَّمَ قتلَ النَّفسَ ، والقاتلُ يـُقتلُ قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[البقرة:2/179] ، وأعطى للإنسانِ الحقَّ بالدِّفاع عن نفسهِ وماله وعِرضه؛ وجعل قواعدَ وضوابطَ عند اختلاف طائفتَين من المسلمين .
وحمى الإسلامُ النَّفس من مشقَّةِ التَّكاليفِ ، فلا   يكلِّف اللَّه نفساً إلا وُسْعَها ، كاستعمال التَّيمُّمِ - بشروطٍ - بدلَ الماء للوُضوء أو الغُسل ، وإسقاط استقبال القبلة عند الخوف أو المرض ، وإباحةِ الإفطارِ في رمضان للمريض والمسافر ، وفَرَضَ الحجَّ على المستطيعِ فقط . . . وجعلَ الضَّروراتِ تبيحُ المحظورات .
وحمى الإسلامُ النَّفسَ بالتَّكاليفِ ذاتِها ، فالتَّكاليفُ الإسلاميَّة فيها فائدةٌ للنَّفسِ والجسدِ ، فالصَّلاةُ رياضةٌ للأعضاءِ ، والصَّومُ صِحَّةٌ للجسدِ ، والحجُّ سَفرٌ وحركةٌ ومنافعُ للنَّاس .
3- نظام حفظ النَّسل
من أجل بقاءِ النَّسل الإنْسانيِّ ، حَثَّ الإسلام على الزَّواجِ واختيار الزَّوجةِ لدينها ، والاهتمامِ بالولد وتربيتهِ والنَّفقةِ عليه وعلى أمِّه ، وحضانته ، وأناط بالزَّوج الإنفاقَ على الأُسرةِ ودعا الإسلامُ إلى المحافظةِ على العِرض والعِفَّةِ والطَّهارةِ والشَّرفِ وإحاطتِهِ بسياجٍ أخلاقيٍّ يُحصِّنُ من هتْكِ الأعراضِ ، فحرَّمَ عليه الزِّنا ، قال اللَّه تعالى: ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [الإسراء:17/32] .
وأوجبَ حدوداً للمحافظةِ على النَّسلِ والعِرضِ ، فجعلَ الرَّجمَ للمُحصنِ والجلدَ للبِكْرِ إن زنيا ، كما وضع حدّاً للقذف ، قال تعالى:  ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النُّور:24/4]  ؛ وحرَّم الغِيبةَ والوُلوغَ في الأعراضِ وتوعَّد الأفَّاكين ، قال اللَّهُ تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النُّور:24/19] . . . ووضعَ قواعدَ للاختلاطِ بين الجنسين ، وقواعدَ للنَّظرِ ، وفَرَضَ الِحجابَ ولباسَ الحِشمةِ على المرأة . . . كلُّ ذلك من أجلِ صَونِ الأعراضِ والحفاظِ على النَّسل .
4- حفظ المال
ومن أجلِ حفظ المالِ فقد أباحت الشَّريعةُ الأسبابَ المشروعةَ للتَّملُّك ذَكَراً كان أو أُنثى ، فأوجبتِ العملَ والسَّعيَ ، وجعلت نظاماً لانتقال المال من إنسانٍ إلى إنسانٍ كالهبةِ والوصيَّةِ والميراثِ وهكذا . . .
وقيَّدتِ الشَّريعةُ حقوقَ التَّملُّكِ ، فأوجبتِ الشَّريعةُ حقوقاً على الأغنياءِ يُؤَدُّونها للفقراء كالصَّدقات وأعمال الخيرِ والزَّكوات والكَفَّارات والميراثِ ، وجعلَ الإسلامُ حقَّ التَّصرُّفِ بالمال بشرط أن لا يَضُرَّ حقوقَ الآخرين ، ومن ذلك الحَجْرُ على السَّفيه والصَّبيِّ والمجنون . . .
وجعل طريقاً للكسب المشروعِ وحرَّمَ الغِشَّ والرِّبا واستغلالَ النَّاس والاحتكارَ والمتاجرةَ بالمحرَّمات ، وجعل قواعدَ للمعاملات ، وجعل للإنسان حقَّ حرِّيـَّة امتلاك النَّوع بشرط ألا يؤذيَ الآخَرين ، فقد قيَّده بالمصلحة العامَّةِ ، وقد ربطَ الإسلامُ بين المال ووظائفَ محدَّدةٍ ، تحقِّقُ مصلحةَ الفردِ والجماعةِ ، كالإنفاق على نفسه وأسرته ولكن من غير إقتار ولا إسرافٍ ولا تبذيرٍ ، ومن وظائفِ المالِ الزَّكاةُ ، وإغناءُ الفقير والمسكينِ ، والصَّدقاتُ وما أَشبَهَ ذلك .
5- نظام حفظ العقل
اعتنتِ الشَّريعة بالعقل فقدَّرتْه وخاطبتْهُ وجعلتهُ يفكِّر ، وصان الإسلامُ حرِّيـَّةَ العقلِ ، قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:2/256] ، وكفَلت له حريَّة البحث والعلمِ في كافةِ الميادينِ وأعطته الحرِّيـَّةَ السِّياسيَّةَ والمدنيَّةَ([32]) ، لذلك حرم اللَّه عزَّ وجلَّ الخمر وكل ما من شأنه أن يذهب العقل . . .
ثانياً: الحاجيات: (وهي الَّتي يحتاج النَّاس إليها لرفع الحرج عنهم فقط، بحيث إذا فقدت وقع النَّاس في الضِّيق والحرج دون أن تختلَّ الحياة، وقد شرع لها الشَّرع أنواع المعاملات من بيع وشراء وإيجار، وأنواع الرُّخص من قصر الصَّلاة وجمعها للمسافر...)([33]).
ثالثاً: التَّحسينات: (وهي المصالح الَّتي يقصد بها الأخذ بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق، مثل الطَّهارات للصَّلوات، والتَّزين باللباس والطِّيب، وتحريم خبائث المطعومات، والأمر بالرِّفق والإحسان. . .) ([34]).
النُّقطة التَّاسعة: اختلاف الشَّرائعِ وتطوُّرها .
أصولُ الرِّسالاتِ السَّماويَّةِ واحدةٌ ، ولكنَّها تختلفُ في الشَّرائعِ والأحكامِ الَّتي تتناسبُ مع الإنسانِ وتوافِقُ زمانَهُ ومكانَهُ واستطاعتَهُ ، وكثيرٌ ممَّن كتبَ عن البشريَّةِ وتاريخِها ودينِها كتبوا عن تطوُّرِ الدِّينِ ، فوقعوا في أخطاءَ ومغالطاتٍ ، وصدَّروا مقولاتِهم باسم " مراحلُ التَّطوُّر الدِّينيِّ في حياةِ البشريَّةِ" ، أو " تطوُّرُ الأديانِ" ، وقسَّموا هذه المرحلةَ إلى مرحلةِ الفراغِ الدِّينيِّ عند الإنسانِ ، ثمَّ الوثنيَّة ثمَّ إلى مرحلة الدِّيانةِ القوميَّةِ المحدودةِ ثمَّ إلى مرحلة الدِّياناتِ الكبرى " اليهوديَّةِ والمسيحيَّةِ والإسلامِ" ، وقسَّم آخرون تطوُّر الأديانِ إلى " بدائيَّةٍ وجاهليَّةٍ وعلمانيَّةٍ" ، فقد بدأ وثنيَّاً متولِّداً من مبدأ التَّوتم ثمَّ عبادةِ الأسلافِ والأشخاصِ ، أو عبادةِ قوى الطَّبيعةِ  كالشَّمسِ والقمرِ والسَّحابِ والرِّياحِ . . . وتعدَّدَتِ الآلهةُ وكثرتْ مظاهرُ الوثنيَّةِ مع اضطرابِ الحياةِ وقلقِ بني المجْتمعِ وتصارُعِ الإنسانِ على مواردِ الرِّزقِ ، والظُّلمِ والجورِ ، . . . ثمَّ تطوَّرَ الدِّينُ إلى جاهليَّةٍ ، فعبادةِ الأصنامِ ، أو اتـِّخاذِ الملائكة شركاءَ لله وشفعاءَ . . .
وأيَّاً كانَ ذلك فهو يجافي الحقيقةَ وينافِيها ، فالدِّينُ لم يكنْ بدائيَّاً ثمَّ تطوَّر ، فإذا كان معنى الدِّينِ هو العقيدةُ من إيمانٍ باللهِ الواحدِ الأحدِ وتنزيهِهِ والإيمانِ بملائكتِهِ وكتبهِ ورُسلهِ واليومِ الآخرِ والقضاءِ خيرهِ وشرهِ ، فإنَّ ذلك كانَ مع أبينَا آدمَ مشاهدةً واعتقاداً وعينَ يقينٍ ، فلقد كانَ في الجنَّة ثمَّ هبطَ إلى الأرضِ ، فعرفَ اللهَ ووحَّدَهَ ثمَّ اسْتُخْلِفَ في الأرضِ ، فكان غِرَّاً في معرفتِه بالأرضِ ونواميسِها ، فبدأ يكْتشفُ ويطوِّر معارفَه ، ويذلِّلُ الصِّعابَ الَّتي تعترضُهُ ، فاستعانَ بالأدواتِ ، وطوَّرَ هذه الأدواتِ حتَّى وصلتْ إلى عصرِنَا ، ولا يزالُ الإنسانُ يكتشفُ المجهولَ وتزدادُ معارفُهُ ويستجْلي مكنوناتِ الأرضِ ، وعنْدما نَزَلَ الإنسانُ إلى الأرضِ نَمَتْ لديهِ غريزةُ البقاءِ والتَّملُّكِ ، فتغلَّبت نفسُهُ الأمَّارةُ بالسُّوءِ عليه فجعلتْهُ يبتعدُ عن دينِهِ ، ويتمادى في شهواتِهِ ، وكلَّما انتَكَسَتْ الفطرةُ في نفسِ الإنسانِ أرسلَ اللهُ الرُّسُلَ لتعيدَ لهذهِ الفطرةِ إنسانيَّتَها وهدفَهَا ونقاءَهَا ولتصحِّحَ مسارَها ، فالأصلُ في نفسِ الإنسانِ وخلقِهِ المعرفَةُ والفطرةُ السَّليمةُ والدِّينُ الصَّحيحُ ، والشُّذوذُ طارئٌ عليها لا العكس ، فأحرى أن نسمِّيَ هذهِ المراحلَ مراحلَ الانحطاطِ البشريِّ .

الاجتهادُ في زماننا الحاضر 
(الاجتهادُ: هو عمليَّة استنباطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ من أدلَّتها التَّفصيليَّةِ في الشَّريعةِ ، وهو مشروعٌ ومطلوبٌ في كلِّ عصرٍ وزمانٍ ، وقد يكون فرضاً عينيّاً إذا تعيَّن مجتهدٌ للنَّظر في حادثةٍ بأن لم يوجد غيرهُ ، أو فرضاً كفائيّاً إذا تعدَّد المجتهدون ، فإذا قام به أحدُهم ، سقط الإثمُ عن الباقين ، وإن تركَه الجميعُ أثِموا جميعاً)([35]) .
وقد وضَع الأصوليُّون قواعدَ للاجتهادِ ، فلا مكان للاجتهاد في موردِ النَّص ، أي النَّصِّ القطعيِّ الدَّلالةِ . . . ، فلا يكون الاجتهاد في الثَّوابت القطعيَّة ، وإنَّما يكون في المتغيِّراتِ ، مثل النُّصوصِ الظَّنـِّيـَّةِ الثُّبوتِ والدَّلالةِ ، أو ظنِّيـَّةِ أحدِهما ، أو في الوقائعِ الَّتي لم يَرِدْ فيها نصٌّ ولا إجماعٌ .
وقد أجمعَ العلماءُ أنَّهُ لابُدَّ للمجتهدِ من أهليَّةِ الاجتهادِ وضوابطِه ، وشروطِه الَّتي بيَّنَتْها كُتُبُ أصولِ الفقه فالاجتهاد يُناط بالمتخصِّصين .
وبابُ الاجتهاد مفتوحٌ ، والأمَّةٌ الإسلاميَّة مطالبةٌ أمامَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بالاجتهادِ في الأحكام المعاصرةِ والمستجِدَّةِ الَّتي فيها مجالٌ للاجتهادِ من متخصِّصيها .
لقد دَعَتِ الحاجةُ إلى الاجتهاد لإعادة الحيويَّةِ لفقه الشَّريعة ، (والَّذي هو السَّبيلُ الوحيدُ لمواجهةِ المشكلاتِ الزَّمنيَّةِ الكثيرةِ ، بحلولٍ شرعيَّةٍ حكيمةٍ ، عميقةِ البحثِ ، متينةِ الدَّليلِ ، بعيدةٍ عن الشُّبهاتِ ، والرِّيَبِ والمَطاعنِ ، وتهزم آراء العقولِ الجامدةِ والجاحدةِ على السَّواء ، فالوسيلةُ الوحيدةُ هي: اللُّجوءُ لاجتهاد الجماعة ، بديلاً عن الاجتهاد الفرديِّ)([36]) . . . وانطلاقاً من ذلك أُنشئت المجامعُ الفقهيَّةُ والموسوعاتُ الفقهيَّةُ ، مثلُ " المجمَع الفقهيِّ في مكَّةَ المكرَّمة " التَّابعِ لرابطة العالم الإسلاميِّ ، والَّذي انبثق عنها سنة 1964م ، و"المجمَّعِ الفقهيِّ للعالم الإسلاميِّ" في جَدَّة وهو مُنبثقٌ عن "منظَّمةِ المؤتمر الإسلاميِّ" ، الَّذي أقام تسعَ دوراتٍ حتَّى عام 1995م وقد طُبعت الدَّوراتُ الثَّمانيةُ فجاءت في /23/ مجلَّداً من الحجم الكبير، و"موسوعة الفقهِ الإسلاميِّ" ، الَّتي بدأت من سوريَّة عام 1955م وانتهت في مصر ، ولا تزال لجنتها تعمل حتَّى الآن بصبرٍ وجدٍّ ونشاطٍ ، وأصدرت أكثر من 33 مجلَّداً مع الكتب المساعدة ، ومرَّت أحداثٌ عرقَلتْ مسيرتها ، ثمَّ تَبنـَّتْها مصر منذ 1964م . . . ، كذلك أنشأ "الأزهر" مجمَعَ البحوث الإسلاميَّة في القاهرة منذ 1964م؛ وأَنشَأَت جمعيَّةُ الدِّراساتِ الإسلاميَّة بالقاهرة والَّتي يرأسها الإمامُ "محمَّد أبو زهرة" رحمه اللَّه ، مشروعاً لموسوعةٍ فقهيَّةٍ ، ولكن لم يُكتب لها الاستمرارُ لعَجزها الماليِّ ، ووفَّقَ اللَّهُ الكويتَ لأن تَتَبنَّى الموسوعةَ الفقهيَّةَ ، وبدأت منذ 1967م وصدرت بداية الطَّبعة التَّمهيديَّة منها 1969م ، عن وزارة الأوقافِ والشُّؤونِ الإسلاميَّة ، ووصلت أجزاؤها سنة 1995م ، إلى اثنين وثلاثين جزءاً ومن المتوقَّع أن تتجاوز الأربعين جزءاً ، كذلك مجمع آل البيت في الأردن ، ومجمع الفقه الإسلاميّ الَّذي ظهر حديثاً في الهند .
وقامت جهودٌ فرديةٌ هامَّةٌ تركت بصماتٍ واضحةً ، وأثراً فعَّالاً في موضوع الدِّراسةِ التَّخصُّصيَّةِ والاجتهاد المطلوب.
وكُتبت كُتبٌ عِدَّةٌ ، وأبحاثٌ كثيرةٌ ، في أمورٍ تخصُّصيَّة ، وفي قواعدِ الفقه ، والنَّظريَّاتِ الفقهيَّة ، وساعدَ على ذلك الجامعاتُ الإسلاميَّة ، وتطوُّرُ الحياةِ المعاصرة ، من علميَّةِ الكتابةِ ، وتوثيقِ النَّقل ، والتَّبسيطِ والتَّيسيرِ في الكتابةِ ، وتطوُّرِ أساليبِ الطِّباعةِ ، وتوفُّرِ المراجع القديمةِ ، وبَدءِ تدوين الكتب على الحاسب " الكومبيوتر" ، وتطوُّر نظام الاتِّصالات كالإنترنيت . . .
وقامت عدَّةُ مراكزَ ثقافيَّةٍ ، ومراكزَ للبحوثِ والدِّراساتِ الإسلاميَّة ، وعُقِدت ندَواتٌ خاصَّةٌ ، كلُّ ذلك سيساهم في نهضةٍ جديدةٍ ، وإنَّ العصر القادمَ سيشهدُ تطوُّراً في التَّجديدِ والاجتهادِ يسايرُ متطلَّباتِ العصرِ بإذن اللَّه .
ومع ذلك نجد من الضَّروري الإكثارَ من فتح المعاهد الشَّرعيَّةِ والمدارسِ الدِّينيَّةِ المشتركة، والجامعاتِ الإسلاميَّة  المشتركة، الَّتي تنهَجُ منهجَ معرفةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ ، والَّتي تُشجِّعُ على المعاصرةِ والاجتهادِ ومواكبةِ العصر ، والَّتي تستطيعُ أن تُخَرِّجَ العلماءَ والدُّعاةَ الَّذين يَملِكون أهليَّةَ العلم ومَلَكة الاجتهادِ ، ونبذَ التَّقليدَ ، والتقريب والتوحيد بين طوائف المسلمين.
إن الاجتهاد المطلوب في زماننا يجب أن يعتمد على احترام الرأي الآخر، وأن يكون اجتهاداً جماعياً مجمعياً، يشترك فيه كل المذاهب، معتمدين على معرفة ما عند الآخر على أسس قرآنية، معتمدين على تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة، والإسلام على المذهبية والطائفية، وأن نوجد مؤسسات تحمل أعباء التجديد والتوحيد والتقريب، على مختلف المستويات، وكذلك أن يكون لنا دورٌ في الإعلام التوحيدي والتقريبي والتجديدي، وأن نقف في وجه الإعلام المغرض الذي يفرّق بين وحدة المسلمين ويثير الخلافات والنزاعات، وأن نراجع مناهج تدريسنا لطلابنا وتلاميذنا، وننقيه من الشوائب والآراء الفردية المغرضة، التي تفرق المسلمين وتنشر بينهم العداوة والبغضاء.
وأنتم أيها المؤتمرون جميعاً، تجددون لهذه الأمة أمر دينها، فقد جاء في حديثِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنَّ اللهَ يبعثُ لهذهِ الأمَّةِ على رَأْسِ كلِّ مئةِ سنةٍ من يجدِّدُ لها دينَها   "([37]) .
فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يتركِ الإنسانَ يَضِلُّ أو يُضِلُّ ، فإنَّه يرسلُ له على رأسِ كلِّ قَرْنٍ من القرونِ من يجدِّدُ له أمرَ دينِهِ ، ويضيءُ معالمهَ ، وينْفِي عنه تحرِيفَ الغَالينَ وانتحالَ المبطِلِينَ وتأويلَ الجاهِلِينَ ، قال الحافظُ "ابن كثيرٍ" رحِمَهُ اللهُ تعالى: (قد ذَكَرَ كلُّ طائفةٍ من العلماءِ في رأسِ كلِّ مئةِ سنةٍ عالماً من علمائِهِم يُنزِلونَ هذا الحدِيثَ علَيهِ ، وقال طائفةٌ منَ العلماءِ: الصَّحيحُ أنَّ الحديثَ يشملُ كلَّ فردٍ من آحادِ العُلماءِ من هذهِ الأمْصارِ ممَّنْ يقومُ بفرضِ الكفايةِ في أداءِ العِلمِ عمَّنْ أدركَ منَ السَّلفِ من يُدرِكهُ منَ الخلفِ ، كما جاءَ في الحديثِ من طرقٍ مرسلةٍ وغيرِ مرسلةٍ "يحملُ هذا العلمَ منْ كلِّ خلفٍ عدولهُ ينفونَ عنْه تحريفَ الغَالينَ وانتحالَ المبْطلينَ" ، ويقول ابن كثير في البداية والنهاية: ( وهذا موجودٌ وللهِ الحمْدُ والمنَّةُ إلى زمانِنَا هذا ونحنُ في القرنِ الثَّامنِ ، واللهُ المسؤولُ أنْ يخْتِمَ لنا بخيرٍ وأن يجعلنَا منْ عبادِهِ الصَّالحيَن ومنْ ورثَةِ جنَّةِ النَّعيمِ آمينَ آمينَ يا ربَّ العالمينَ)([38]) .
وقال الحافظُ "ابن حجرٍ" رحمَهُ اللهُ تعالى: (لا يَلزَمُ أنْ يكونَ في رأسِ كلِّ مئةِ سنَةٍ واحدٌ فقط فإنَّ اجتماعَ الصِّفاتِ المحتاجِ إلى تحدِيدِها لا ينحصِرُ في نوعٍ من أنواعِ الخيرِ ولا يلزمُ أن تُجْمَعَ خصالُ الخيرِ كلُّها في شخصٍ واحدٍ . . . فعلى هذا كلُّ منْ كانَ متَّصِفَاً بشيءٍ من ذلكَ عنْدَ رأسِ المئةِ هوَ المرادُ سواءٌ تعدَّدَ أم لا)([39]) .
وقد جاء في حديثِ رسولِ اللهِ عنْ استِمرَارِيَّة الدَّعوةِ والدُّعاةِ قوله: " لا تَزَالُ طائفةٌ من أمَّتيْ ظاهِرِينَ حتَّى يأتِيَهُمْ أمرُ اللهِ وهُمْ ظاهِرُونَ   "([40]) ، وفي روايةِ مسلمٍ: " لا تَزَالُ طائفةٌ من أمَّتيْ ظاهرينَ على الحقِّ لا يضُرُّهُمْ منْ خَالَفَهُم   "([41]) ، قال "النَّوويُّ" رحِمَهُ اللهُ تعالى: (يُحتَمَلُ أنَّ هذه الطَّائفةَ مفرَّقَةٌ بينَ أنواعِ المؤمِنِينَ منهُم شجعانٌ مقاتِلونَ ، ومنهُم فُقَهَاء ، ومنهم زُهَّاد ، وآمرونَ بالمعروفِ وناهونَ عن المنْكَرِ ، ومنهم أهلُ أنواعٍ أخرى من الخيرِ ، ولا يَلزَمُ أنْ يكونُوا مُجْتمعينَ بلْ قد يكونُوا متفرِّقِينَ في أقطارِ الأرضِ ، وفي هذا الحديثِ معجزةٌ ظاهرةٌ فإنَّ هذا الوصفَ مازالَ بحمْدِ اللهِ تعالى من زمنِ النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الآن ولا يَزَالُ حتَّى يأتِيَ أمرُ اللهِ المذْكورِ في الحديثِ)([42]) .
وأخيراً يجب أن نذكر:
1- أنَّ اليمينَ والشِّمالِ مَضَلَّةٌ -كما يقول الإمام عليٌّ كرم الله وجهه- وإنَّ الجادَّةَ هي الوسطى .
2- إنَّ الوسطيَّةَ سواءً في الاعتقادِ أو العبادةِ أو الأخلاقِ أو التَّشريعِ أو العلاقاتِ أو غير ذلك حلٌّ لكثيرٍ من العُقَدِ والمشاكِلِ الَّتي تعاني منها الأمَّةُ الإسلاميَّةُ .
3- وإنَّ الخيرَ والعدلَ والأمانَ والقوَّةَ والوحدةَ فضائلُ عديدةٌ اجتمعت كُلُّها في الفضيلة الكبرى " الوسطيَّة" .
4- إنَّ التَّطَرُّفَ بكُلِّ أشكاله مذمومٌ عقلاً وشَرعاً وعُرْفاً سواءٌ في العقيدةِ أو الجهاد أو الإدارةِ أو الحكمِ أو أي حقلٍ من حقولِ الحياة ، وهذه الشُّيوعيَّة قد انهارت لتطرُّفها ، وستتبعها الرَّأسمالية المتسلِّطةُ . . .
5- إنَّ تحديدَ الوسطيَّةَ ليس سهلاً ، وليس بإمكان كُلِّ مسلمٍ أنْ يشيرَ إلى أنَّ هذا هو الوسط أو ذاك ، إذ لا بُدَّ لعلماء الأمَّةِ وفقهائها والقائمين عليها الآخذين بشريعة  محمَّدٍ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحدِّدوا للأمَّة خطَّها الوسطَ وإلا ضاعَ هذا الخطُّ بين الأهواء والاجتهادات والتَّصوُّراتِ .
6- الوسطية تجاه الآخر، فلا يجوز تكفير أحداً من المسلمين يشهد الشهادتين ويصلي للكعبة ويصوم رمضان ويزكي، فإن من أكبر المشاكل التي فرقت وحدة المسلمين رمي الآخرين بالفسق والتبديع والتكفير، بمجرد الظن أو حوادث تاريخية غير محققة، وأحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً غير محققة، فهي مكذوبة أو موضوعة.
7- الوسطية تجاه التاريخ، فالتاريخ يكتب بأيدي بشرية، وقد تُأول هذه الحوادث وتوجه التوجيه الذي يريده كاتبه، فإذا ذكرَ القرآنُ قصصاً من تاريخ الأنبياء والمرسلين ، فعلينا أن لا نستزيد من الإسرائيليات التي لم ينزل بها قرآناً ولا سنة صحيحة، وتخالف العقل والمنطق، وكذلك التاريخ، وقد تكون سبباً في تفريق المسلمين.
8- الوسطية تجاه الصحابة، وأمهات المؤمنين، وسطية لا تجعلهم معصومين كالأنبياء، ولا تجعلهم فاسقين أو خارجين كالكفار والمشركين، فعلينا أن نبجل وأن نحترم كل أمهات المؤمنين، وخاصة عائشة رضي الله عنها، وباقي الصحابة، والذين مدحهم القرآن ولم يذكرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  بسوء.
9- وسطية تجعل المسلم لا ينقل الخبر والرواية حتى يتأكد من صحتها بالطرق السليمة، فبين الحق والباطل أربعة أصابع، الحق أن ترى والباطل أن تسمع دون تحقيق وتدقيق.
أيها الإخوة: إن اجتماعكم في مثل هذه المؤتمرات والملتقيات، وبين طوائف الأمة ومذاهبها، وفي هذا الزمن الصعب، الذي يريد الشيطان المتمثل بالقطب الواحد أن يتحكّم بالعالم، ويقضي على الإسلام والمسلمين، فإن لم نهبّ جميعاً ونوحد كلمتنا، ونزيل عوامل البغضاء والخلاف والعداوة بيننا، ونسعى جادين لنقل فكرة الوحدة والتقريب بين الطوائف الإسلامية، إلى أبنائنا وطلابنا ورواد مساجدنا وحوزاتنا، متجاوزين هذه الملتقيات التي تجمع النخبة فقط، فإن النار ستأكلنا جميعاً.
فعدونا يستجمع كل طاقاته لإفنائنا، وفي كل يوم يشعل ناراً هنا وهناك في الأمة الإسلامية، ويريد أن يلصق بها صفة الإرهاب الذي يحدثه هو، ويسببه هو بالمسلمين، مستعيناً بآلته الحربية، وتقدمه العلمي، وإعلامه المغرض، وثرواتنا المنهوبة وعملائه وجواسيسه، ومن باعوا ضمائرهم له.
أيها الإخوة: سنظل نعمل معاً بإذن الله، والله أعلم بنوايانا، وأخيراً لابد من توجيه الشكر لإيران المسلمة، دولة وحكومة وشعباً، وللقائمين على هذا المؤتمر، وخاصة الأمين العام لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، الشيخ محمد علي التسخيري، ولكل المخلصين الذين يحاولون جمع شمل الأمة.
ونرجو من الله التوفيق والنجاح في تحقيق أهداف الوحدة والتقريب، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، ونعم المولى، ونعم النصير.
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

 

--------------------------------------

([1]) الجامع الصغير، السيوطي، برقم، 1628، وقد رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن الحارث، وعلى تصحيح السُّيوطي فهو حديث ضعيف.

([2]) لسان العرب، ابن منظور، 7/426، وانظر الكشَّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، محمود بن عمر الزمخشري، 1/198 وما بعدها، ضبطه وصححه عبد السلام هارون، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995م.

([3]) تهذيب اللُّغة، أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري، ص26،تحقيق رشيد عبد الرحمن العبيدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975م.

([4]) الخصائص العامَّة للإسلام، يوسف القرضاوي، ص117، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1989م.

([5]) هو محمَّد بن الحسن الطُّوسي (385-360هـ) ولد في طوس، مشهور بعلمه، من آثاره (التهذيب) و(الاستبصار) وله أكثر من (45) مؤلفاً.

([6]) البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن الطَّوسي، ص6، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1281هـ.

([7]) التَّفسير المنير، د.وهبة الزُّحيليّ، 2/8-9، نشر دار الفكر، دمشق، ط1، 1991م.

([8]) في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/180 وما بعدها.

([9]) أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدِّين البيضاوي، ص46، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، القاهرة، د.ت.

([10]) التفسير المنير، د.وهبة الزحيلي، ص9.

([11]) الخصائص العامَّة للإسلام، يوسف القرضاوي، ص123-126.

([12]) جاء في الكشَّاف: (قيل للخيار: وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوساط محميَّة محوطة...)، الكشاف، 1/198.

([13]) الخصائص العامَّة للإسلام، يوسف القرضاوي، ص127.

([14]) نهج البلاغة، الإمام عليّ، تحقيق صبحي الصَّالح، ص620، دار الهجرة، إيران، ط5، 1412هـ.

([15]) الجامع الصغير، للسيوطي، برقم 7594، وهو ضعيف، رواه ابن عساكر عن أنس.

([16]) الخصائص العامَّة للإسلام، يوسف القرضاوي، ص137-138.

([17]) المرجع السابق نفسه، ص138.

([18]) المرجع نفسه، ص138-139.

([19]) رواه أبو داود برقم 2885.

([20]) الخصائص العامَّة للإسلام، يوسف القرضاويّ، ص139.

([21]) المرجع نفسه، ص142-143.

([22]) كبرى اليقينيَّات، محمَّد سعيد رمضان البوطي، ص72-73.

([23]) الدَّعوة الإسلاميّة، أحمد أحمد غلّوش، ص25.

([24]) المرجع نفسه، ص26.

([25]) المستصفى، أبو حامد الغزالي، 1/140، ط التجاريَّة، القاهرة، د.ت.

([26]) الموافقات في أصول الأحكام، أبو إسحاق بن موسى المعروف بالشاطبيّ، 2/8-10،دار المعرفة،بيروت،ط1،د.ت .

([27]) المستصفى، أبو حامد الغزالي، 1/140، ط التجارية، القاهرة، د.ت.

([28]) علم أصول الفقه، عبد الوهَّاب خلاف، ص237.

([29]) الموافقات في أصول الأحكام، الشاطبيّ، 2/8-10.

([30]) راجع كتاب الإحكام في أصول الأحكام ، سيف الدِّين الآمدي، 3/48.

([31]) رواه البخاريّ، عن أبي هريرة، برقم 5354.

([32]) ملخَّص بتصرُّف من كتاب الدَّعوة الإسلاميَّة، أحمد أحمد غلّوش، ص35-37.

([33]) أصول الفقه، د.وهبة الزحيلي، ص88.

([34]) أصول الفقه، د.وهبة الزحيلي، ص88.

([35]) أصول الفقه، د.وهبه الزحيلي، ص217.

([36]) من كتاب تاريخ التَّشريع، منَّاع القطَّان، ص339، مؤسسة الرِّسالة، د.م، ط2، 1981م، نقلاً عن الشَّيخ مصطفى الزَّرقا في مؤتمر رابطة العالم الإسلاميِّ، مكَّة، 1964م.

([37]) حديث صحيح: صححه أبو الفضل العراقي كما في فيض القدير، 2/282، ورواه السُّيوطي في الجامع الصغير، برقم 1845، وقال السيوطي في مرقاة الصعود: اتفق الحفاظ على تصحيحه منهم الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل، وصححه ابن حجر، وأخرجه أبو داود في سننه في كتاب الملاحم، برقم 4291، وفي كنز العمال برقم 24623، والخطيب البغدادي في تاريخه، 2/61، وكلهم عن أبي هريرة.

([38]) البداية والنهاية، إسماعيل ابن كثير، 6/289، مكتبة المعارف، بيروت، 1990م.

([39]) فتح الباري، شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، 13/295.

([40]) أخرجه البخاري برقم 3640، 7311، 7459، ومسلم برقم 1921، وعبد الرحمن الدارمي في سننه برقم 3437، ترقيم خالد العلمي وفواز زمرلي ، داركتاب العربي، بيروت، 1987م..

([41]) أخرجه مسلم برقم 1037، 1923، 1920، 1922، 1924.

([42]) شرح صحيح مسلم، للإمام النَّووي، 13/66-67، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت، د.ت.