توحيد مناهج الاستدلال

توحيد مناهج الاستدلال

 

 

توحيد مناهج الاستدلال

  

 

سماحة الشيخ محمّد علي التسخيري

عضو المجلس الأعلى للمجمع

العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على سيّد البشرية محمّد، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.

السلام عليكم أيّها السادة المؤتمرون ورحمة الله وبركاته.

قبل كلّ شيء، أُبارك لكم جميعاً هذه الذكريات العطرة: ذكرى ولادة سيّد الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحفيده ناشر علوم الإسلام الإمام الصادق عليه السلام، وحلول أسبوع الوحدة الإسلاميّة؛ إنّها ذكريات عطرة تحيا فيها القلوب وتتآلف وتتجمّع كما يقول الشاعر:

رَوّا القلوب من الهدى و تعانقوا فلقد تعانق أحمد والصادق حديثي الذي كلّفت بشرحه هو التقريب بين مناهج الاستدلال أو توحيد مناهج الاستدلال وأثره في التقريب بين الآراء والمذاهب، هذا الحديث وربّما كان حديثاً أكاديمياً أكثر منه حديثاً في مؤتمر عام ولكنّي سأبذل جهدي لتبسيط موضوعه كي تكون الاستفادة منه بشكل أوسع رغم حضور العلماء الأجلاّء وتناسب الموضوع مع هؤلاء الكرام.

 

ـ(54)ـ

 

قبل كلّ شيء، أنا أعتقد أنّ هناك نمطين من الثقافة يختلفان عن بعضهما في اللغة وفي المساحة وفي الأهداف؛ هناك ما أُسميّه بثقافة الوحدة الإسلاميّة، هذه الثقافة ثقافة جماهيرية تطرح على مستوى جماهير الأُمّة الإسلاميّة وتستهدف تحقيق وحدة كاملة في الموقف العملي والاجتماعي والسياسي، بل والأخلاقي، وحدة كاملة في هذه المواقف، وتناغم تام في المشاعر المتبادلة. الهدف إذن من منطق الوحدة هو:تحقيق وحدة في الموقف العملي بين الجماهير جميعاً.

لغة هذه الثقافة بسيطة، وموضوعاتها التي تطرحها هي النقاط المتّفق عليها بين أبناء الأُمّة الإسلاميّة؛ العقيدة الواحدة والمفاهيم الواحدة والتصوّرات المتّحدة والتشريعات التي تتّفق عليها كلّ المذاهب فتشكّل ضرورات فقهية لدى الجميع. في هذه اللغة يتمّ توعية الجماهير بأنّ كلّ جزء منها جزء في الجسد الواحد، ويتمّ توعيتها بحقيقة النظام الأخلاقي وبأهداف نظام العبادات، لا بل حتّى بالأحكام الجزئية في المجالات الاقتصادية فيقال للأُمّة بأنّ كلّ مسلم على هذه الأرض شريك في الملكية، في ملكية الأراضي المفتوحة عنوة مثلاً، وشريك في الاستفادة من أنفال وثروات هذه الأُمّة.

هناك بحث مفصّل في مسألة تحديد أو تحقيق روح الوحدة أو ثقافة الوحدة بين الجماهير.

وهناك نمط آخر أُسميّه «ثقافة التقريب»؛ وأريد منه تلك العملية التي تسعى لتقريب الآراء الاجتهادية إلى بعضها تقريب آراء المذاهب إلى بعضها، آراء العلماء إلى بعضها وهذه ثقافة - كما قلت - نمط آخر؛ هدفها المباشر هو أنّ تتقارب الآراء الفقهية، ولذلك فهي تتّبع أسلوب تفهّم كلّ مذهب لآراء المذهب الآخر وأدلة المذهب الآخر بشكل دقيق جدّاً، وتتّبع أسلوب توحيد المناهج الاستدلالية، تتّبع أسلوب ملاحظة

 

ـ(55)ـ

 

عناصر التزاحم بين حقيقة الوحدة الإسلاميّة الكبرى وبين ما ينتهي إليه رأي أو عالم في مذهب معيّن، فإذا تمّ التزاحم بين الأمرين غُلّبت المصلحة العامّة للوحدة على هذا الرأي أو ذاك.

هذا المنطق منطق يختلف عن منطق الجماهير ويطرح في محافل العلماء فقط؛ لا أستطيع أنّ أقول للجماهير: تعالوا نقرّب بين رأي هذا المذهب وذلك المذهب، ولا أستطيع أنّ أوحّد مناهج الاستدلال بين الجماهير هذا الكلام يطرح في محفل العلماء ويعمل على تقريب آرائهم وحديثي ينطرح ضمن الدائرة الثانية.

هذه مقدّمة بسيطة كانت ضرورية حتّى نعرف مسار الحديث.

في مقالي شيء من البحث المصطلح، لا أريد أنّ أدخل فيه كثيراً وأتركه للعلماء لمطالعتهم، وإنما أمرّ بشكل مفهرس عليه لأنتقل إلى نقاط ثلاث أختم بها بحثي لتكون حصيلة ما تحدّثت به.

قلت: إنّ البحث يأتي في إطار ثقافة التقريب، وإنّ العلماء عندما يسعون إلى التقريب فإنّ أوّل خطوة يقومون بها يبحثون عن أسباب الخلاف بين العلماء فيطرحون فكرة ما هي أسباب الخلاف ؟ وهذا سؤال مطروح منذ القدم، وفي كتاب «بداية المجتهد» هناك حديث مفصل عن هذا الموضوع، لكنّهم عادة يركّزون على المصاديق؛ فمثلاً يقولون: هل للوصف مفهوم؟ هل المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ ؟ أو يأتون إلى البحوث اللغوية، يقولون: الاختلاف في البحث اللغوي هو سبب الاختلاف في الآراء، فما مفهوم الصعيد؟ ما هو مفهوم القُرء؟ يتمّ عادة التركيز على الصغريات: صغريات حجّية الظهور، لكن أحد أساتذتنا الكبار وهو العلاّمة السيد محمّد تقي الحكيم عندما تطرّق إلى هذا البحث أكّد أنّ هناك سبباً آخر أهمّ من الاختلاف في المصاديق، وهو الاختلاف في أُصول الاستنباط، فلأنّ هذا المذهب يقبل القياس وذاك المذهب يرفض القياس،

 

ـ(56)ـ

 

الاستنتاجات تختلف والآراء تختلف؛ بالنتيجة هذا يقبل الاستحسان وذاك يرفضه، وكذلك مسألة المصالح المرسلة وما إلى ذلك...

إذن هناك سبب آخر وهو مسألة الاختلاف في أصول الاستنباط. أنا بفكري المتواضع رأيت أنّ هناك سبباً ثالثاً لم يتعرّض لـه العلماء وله أثره الكبير في التغاير بين المذاهب، وهو: الاختلاف في منهج الاستدلال.

لقد حضرتُ مجمع الفقه الإسلامي في جدّة ثماني دورات، وفي الأردن وفي بروناي وفي الكويت وأماكن أُخرى، ورأيت أنّ هذه النقطة تشكل داءً في الاستدلالات؛ لم تكن مناهج الاستدلال واضحة، ولم تكن مناهج الاستدلال واحدة رغم أنّهم يتفقون جميعاً في المنابع، وحتّى على الاستفادة من الصغريات، لكن المنهج يختلف، فهذا عالم إذا أراد أنّ يذكر مسألة ما راح يجمع آراء العلماء فقط ليصل إلى نتيجة، وهذا راح يستند إلى أصول عقلية، والآخر يستند إلى أصول عملية يقدّمها حتّى على الأصول الاجتهادية، فهناك تقديم وتأخير فاحش في الاستدلال وفي الأدلة ممّا ينتج اغتراباً عن بعضهم بالنتيجة. لذلك قلت: إنّ علينا وعلى العلماء أنّ يعقدوا ندوات حتّى يصلوا إلى منهج واحد، ولا مانع من أنّ تتّفق المذاهب كلّها على منهج واحد في الاستدلال.

المدرسة الإماميّة الشيعية مرّت بحِقب خلط في مراحل الاستدلال، لكن في المرحلة الأخيرة استقرت على منهج منطقي دقيق وراح الفقهاء يتبعون هذا المنهج بشكل واضح وعام طبعاً بنوا هذا المنهج على تصوّرات لهم قالوا: إنّ الفقيه همّه أنّ يكتشف واقع التشريع؛ ما هو التشريع الذي أنزله الله على رسوله الكريم؟

هذا الواقع هو بغيتنا وأمنيتنا وحينئذٍ فالأدلة تنقسم بالنسبة إلى الواقع إلى أقسام: هناك دليل يقول لي هذا هو الواقع ينظر إلى الواقع التشريعي مباشرة ويقول لي هذا الواقع فخذه، كالكتاب، السنّة، الإجماع، العقل القياس (لو قلنا به)، الاستحسان؛ إمّا

 

ـ(57)ـ

 

أنّ يكون دليلاً قطعياً أو ظنّياً قام على اعتباره دليلٌ قطعيُّ يسمى «الأمارة» هنا. هذه مرحلة.

ومرحلة أخرى يغيب فيها الواقع؛ هناك دليل يقول أنا لا أقول لك هذا هو الواقع، وإنّما أقول: اعتبرني بمنزلة الواقع، العلماء يسمون هذا بالأصل الاحرازي يعني أصل ينظر إلى الواقع لكنّة يبقى أصلاً عملياً.

ومرحلة ثالثة: هناك دليل يقول: أنا لا أنظر إلى واقع غائم غائب، أنا أريد أنّ أحلّ مشكلتك العملية، أنا مكلفّ وضاع مني الدليل فلا أعلم ماذا أفعل ! هنا الدليل يقول لي: أنا أعطيك وظيفة عملية لكن على ضوء الأدلّة الشرعية فنسمّيه دليل الأصل العملي الشرعيّ، وأحياناً نفتقد حتّى هذا الدليل.

هناك مرحلة رابعة: نسمّيها مرحلة الأصل العملي يؤكّده العقل، كما في دليل البراءة العقلية. الحوزات العلمية اليوم والفقهاء يسيرون وفق هذا المنهج، يبدؤن أوّلاً بالدليل الناظر إلى الواقع، ويسمّونه الدليل الاجتهادي، ثمّ الدليل المنزِّل لمؤدّاه منزلة الواقع، ثمّ بدليل الأصل العملي الشرعي، ثمّ بدليل الأصل العملي العقلي، ولذلك فهم يستوعبون مجمل الحياة ومجمل الفقه.

لهم أصول لا أدخل فيها: لماذا قُدّم الدليل الاجتهادي على دليل الأصل الاحرازي ؟ قواعد الحكومة، قواعد الورود، التخصيص والتخصّص؛ لهم قواعد على ضوئها يدخلون في هذا الترتيب المنطقي.

أعتقد لو توضّحت هذه الطريقة بدقّة، قد يكون هذا المعنى واضحاً لعلمائنا في الحوزات العلمية، لكن نحتاج لتوضيحه أكثر حتّى نتّفق على منهج الاستدلال؛ وقد ذكرت في مقالي مناقشة لثلاثة موارد: مورد أخذته من الفقه الشيعي، وموردان أخذتهما من الفقه عند اخوتنا من أهل السنّة في تاريخهم، وناقشت هذه الموارد.

 

ـ(58)ـ

وذكرت من الفقه الشيعي بعض ما استدلّ به الفقهاء على قضيّة اعتبار شرط الأعلمية في المقلَّد؛ فنجد الفقهاء عادة يعبرون الأدلّة الاجتهادية مباشرة إلى الدليل العقلي في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير: تعيين الأعلم، أو التخيير بينه وبين العالم، في حين أنّ هناك مدّعيات لأدلّة اجتهادية يجب أنّ يناقشوها كما يقال: إنّ هناك سيرة عقلائية من زمان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحتّى عصور متأخّرة على عدم اعتبار هذا الشرط، يجب أنّ يناقشها الفقيه أوّلاً، ثمّ يعبر للدليل العقلي والعقلائي على تعبير آخر.

ثمّ ذكرت نصاً لحجة الإسلام الغزالي يوضّح فيه منهج الاستدلال، وناقشته بما وصل إليه فكري الضعيف بمناقشات ثمان، يمكن لأساتذتنا أنّ يراجعوها ولا أدخل فيها لأنّي لا أراها مناسبة لمثل هذا المحفل الكريم الواسع.

ذكرت أيضاً نصّاً لإمام الحرمين الجويني أودّ أنّ أقرأه حتّى يعرف السادة أنّه لم يكن منهج الاستدلال واضحاً في عصره؛ يقول إمام الحرمين الجويني عن أصول الفقه: «إنّه نظّم ما جاء من سير الصحابة الأكرمين، وضمّ ما بلغَنا من عِبَرِهم ويضيف أنّ أصول الفقه ليس علما منطقياً قائماً بذاته نسير فيه وفق منهج معيّن، وإنّما هو ترتيب سلكه الصحابة فسلكوه، ولو عكسوا الترتيب لعكسنا، ولو كانوا عكسوا الترتيب لاتّبعناهم ويضيف: نعم ما كان يعتني الكثير منهم بجمع ما بلغ الكافّة من أخبار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بل كانت الواقعة تقع فيبحث عن كتاب الله، وكان معظم الصحابة لا يستقلّ بحفظ القرآن، ثمّ كانوا يبحثون عن الأخبار، فإنّ لم يجدوها اعتبروا ونظروا وقاسوا». هذا نصّ إمام الحرمين، وقد ناقشت هذا المعنى قلت:

أوّلاً: أنا أعتقد أنّ أصول الفقه هي علم قائم على أسس موضوعيّة، وليس تدويناً لأسلوب معيّن من الاستنباط الذي قام به المجتهدون الأوائل، ومن الغريب أنّ إمام الحرمين الجويني نفسه كان يرجّح مذهب الإمام الشافعي على رأي ومنهج بعض

 

ـ(59)ـ

 

الصحابة لأنّه يرى أنّ هذا المنهج أدقّ، فليس المعيار هو منهج الصحابة في البين وإنّما قرب المنهج من الترتيب المنطقي المطلوب.

ثانياً: لم يثبت أنّ الصحابة ما كانوا يتحرّون الآيات كلّها، والأخبار كلّها قدر الإمكان.

ثالثاً: نستطيع أنّ نقرر أنّ الاجتهاد آنذاك لم يكن بالمستوى من التعقيد كما نراه اليوم نتيجة لقرب العهد ووضوح القرآن وكثرة الشهود ووضوح المقصود وحضور القرائن ونقاء النصوص النبويّة وسلامتها من التحريف أو الوضع، الأمر الذي كان يسهّل الاستنباط، وهذا لا يعني أنّ نعتمد نحن نفس الأسلوب على ما فيه من سهولة بعد تغيّر الأحوال وهذا ما لا يحتاج إلى استدلال.

رابعاً: الاعتبار والنظر والتأمّل والدقّة في الاستنباط من القرآن والسنّة شيء، والقياس المُشار إليه في آخر العبارة شيء آخر إذا لاحظنا أنّه مصطلح متأخّر لـه شروطه وقوانينه ولذا لا يمكننا أنّ نسند لهم بكل وضوح قيامهم بالعملية القياسية.

خامساً: لاريب في أنّهم - رضي الله عنهم - كانوا يعملون بالاستصحاب والبراءة والاحتياط كلّ في موارده.

على أيّة حال، أنا أعتقد أنّنا بحاجة إلى توحيد منهج الاستدلال.

في ختام بحثي أُشير إلى أمور ثلاثة - طبعاً أنا فهرست البحث فقط ولم أدخل فيه بعمقه - أرجو أنّ نلاحظها تماماً:

الأمر الأول: إنّنا - أيّها السادة - كلما ابتعدنا عن عصر النصوص كانت العملية الاجتهادية تحتاج إلى جهد أكبر، وإلى ثقافة أوسع، وإنّ اختلاف المفاهيم، وتغيّر مفاهيم الألفاظ وضياع كثير من الأحاديث، وضياع كثير من القرائن، هذه أُمور كلها تعقدّ العملية الاجتهادية كما يقول المرحوم الشهيد الإمام الصدر قدس سره فإذا ضممنا إليها

 

ـ(60)ـ

 

ما حصل لدينا من تعقيد في العلاقات الاجتماعية ومن تطور في العمليّات، وخصوصاً في العمليّات المعاملية فإنّ من الطبيعي جداً أنّ نركن أو تركن الأُمّة بدلاً من عمليات الاجتهاد الفرديّة إلى الاجتهاد المجمعي، الاجتهاد المجمعي ضروري جداً اليوم. ففي مجمع الفقه الإسلامي بجدّة تجري هناك مناقشات مفصّلة؛ فمثلاً كيف يتحقّق مفهوم الموت؟ يحضر هذه المناقشات الأطباء ليشرحوا رأي الطبّ في الموت: هل هو بفناء جذع الدماغ أو بتوقّف القلب؟

وهناك بحوث في النصوص، وهناك طرح لمسائل الأقيسة، بحوث مفصّلة تطرح حتّى يمكن أنّ تتنقّح الموضوعات جيداً، ويمكن أنّ تكون العملية الاستنباطية علمية سليمة بمنهج سليم.

لذلك أنا أعتقد أنّ أدلَّتنا نحن الإمامية في مسائل التقليد - وهذا رأي شخصي ربّما لا قيمة لـه - تنسجم تماماً مع الفتاوى المجمعيّة في بعض المسائل على الأقل وخصوصاً المسائل المستحدثة. وقد رأينا أنّ مجمع الفقه الإسلامي بجدّة يضمّ اليوم المذاهب كلّها، وفقهاء 51 دولة يشتركون هناك في هذا المجمع، ويناقشون بكلّ حرّية الآراء المطروحة حول المسائل المستحدثة، وهي مهمّة جداً؛ كمسائل البورصة فهي مسائل فخمة ومعقّدة يحتاج فهم الموضوع الخاص بها إلى أيام؛ ماذا يعني بيع السلعيات ؟ ماذا يعني بيع المستقبليات ؟ هل هو بيع إيجابي فقط ؟ بحوث مفصّلة جداً في هذا المعنى. هناك التهاتر في الإيجابيات.

إنّ تشكيل هذا المجمع هو خطوة جيدة، وتشكيل مجمع فقه أهل البيت عليهم السلام الذي أمر به قائد الأُمّة الإسلاميّة آية الله السيد الخامنئي حفظه الله وأدام ظّله على رؤوس المسلمين هو خطوة مجمعية أيضاً لدراسة المسائل المستحدثة، فهو خطوة محبّبة ومفيدة جداً في سبيل تطوير الدراسات. هذا هو الأمر الأول.

 

ـ(61)ـ

 

الأمر الثاني: مسألة دخل الزمان في الأحكام عنصر الزمان هل يدخل كجزء من موضوع الحكم أم لا ؟ هناك رأي متطرّف يقول بأنّ الزمان لا دخل لـه في موضوعات الأحكام مطلقاً، بل هو متوقّف في هذه الجهة ! فنحن نأخذها كما هي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دون تغيير؛ وهناك رأي متطرّف آخر يقول: إنّ الزمان يدخل جزءاً في الموضوع فإذا تغيّر الزمان والمكان تغيّر الموضوع فالحكم يتغيّر، وهذا أيضاً منحى خطير جداً لو قبلنا به لتغيّرت الشريعة رأساً على عقب.

لا المنحى الأول وهو منحى الجمود منحى شرعي - كما نرى - ولا المنحى الثاني وهو منحى الميوعة منحى جيد كما نرى، وإنّما هناك منحى المرونة الإسلاميّة، وهو علينا أنّ ننظر إلى لسان الدليل في الأحكام، فإنّ كان اللسان لساناً مطلقاً على مدى العصور قبلنا به كما هو ونحن مسلّمون، أما إذا كان اللسان نفسه يعطي العملية مرونة، فلسان الشورى لسان المرونة لا يؤكّد نظاماً معيّناً، ولسان منطقة الفراغ يوكل هذا المعنى إلى وليّ الأمر ليملأ هذه المنطقة وفق المصلحة؛ فإذا كان الدليل يفسح المجال قلنا لـه: نعمل طبق ما قلت، وإذا كان يغلق أيّ مجال لدخل الزمان، وقفنا وأغلقنا كلّ دخل لتغيّر الأحوال فيه.

إذن نحن أبناء الدليل، علينا أنّ ننظر لمنطق الدليل، لغة الدليل، لسان الدليل، ماذا تقول هذه اللغة ؟ أنا أؤكّد هذا المعنى لأقول: إنّ الإسلام دين خالد، ودين مرن يستوعب مختلف الحالات مع الحفاظ على أصوله الأولى، فهناك فرق بين المرونة والميوعة.

الأمر الثالث: إنّ هناك ما يسمّى بمنطقة الفراغ، هذه المنطقة يجب أنّ تدرس من جديد؛ فليس هناك عناية كافية، وما هي حدود صلاحيّات وليّ الأمر في التدخّل في هذه المنطقة؟ هل صلاحياته في مساحة المباحات بالمعنى الأخصّ فقط ؟ لا بل بعضهم يقول المباحات على قسمين: هناك مباحات سكت الشارع عن حكمها، وهناك مباحات

 

ـ(62)ـ

 

أصرّ الشارع على إباحتها، فيجب أنّ لا يدخل وليّ الأمر في الساحة الثانية؛ كمسألة تعدّد الزوجات؛ وكمسألة الزواج المؤقّت - لو قلنا به (المتعة) - أصرّ الشارع على إباحتها على رأي بعض المذاهب، أو أصرّ على حرمتها على رأي بعض آخر، وحينما يصرّ الشارع على الإباحة يجب أنّ لا يدخل وليّ الأمر.

هذا رأي، وهناك رأي يقول لا، وليّ الأمر يكون لـه أنّ يحكم وفق المصلحة في كلّ المساحة المباحة بالمعنى الأعم بما يشمل المكروهات والمستحبات، لا بل يستطيع أنّ يدخل في مجال الواجبات طبق قاعدة التزاحم، عندما يرى أنّ مصلحة الأُمّة ووجودها متوقّف بينه وبين بعض الواجبات الصغيرة، فيوقف ذلك.

هذه آراء يجب أنّ تبحث؛ لا أريد أنّ أُؤيد رأياً أو أنفي رأياً، بل أريد أنّ أقول: هذا بحث يجب أنّ يدرس على مستوى العالم الإسلامي لنعرف الدور التي تقوم به الدولة الإسلاميّة في هذا المجال.

أنا أعتذر كثيراً من سماحة شيخي الأستاذ واعظ زاده، وهو شيخنا وأستاذنا الجليل باعتباري قد أخذت شيئاً إضافياً من الوقت، وأعود فأكرّر بأنّني لم أطرحه بطرح علمي دقيق وإنّما فهرسته فقط، ولعلّ هناك مجمعاً أو دورة يعقدها مجمع التقريب مع الإسيسكو، نرجو أنّ يتمّ ذلك لطرح هذا الموضوع بشكل أعمق.

أرجو من وراء ذلك أنّ يتحدّد لنا منهجنا في الاستدلال لنصل إلى تقارب في الآراء، وليكون هذا التقارب أساساً من أسس الوحدة الإسلاميّة العامّة.

أعتذر من جديد وأبعث بثواب سورة الفاتحة إلى روح مفجّر الثورة الإسلاميّة وباعث نهضة الأُمّة الإسلاميّة في العصر الحاضر الإمام الخميني الراحل قدّس سرّه وأسكنه الفسيح من جنّته - الذي رسم في قلوبنا شوقاً نحو الغد الإسلامي الأفضل - والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.