جوانب من الأبعاد العالمية في الشريعة الإسلامية

جوانب من الأبعاد العالمية في الشريعة الإسلامية

 

 

جوانب من الأبعاد العالمية في الشريعة الإسلامية

 

عبد الكريم آل نجف                

 قم ـ ايران                       

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تأخذ الشرائع والنظم أهميتها في حياة الإنسان مما يتمتع به من خصيصة مدنية تجعل الحاجة إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية أمراً مصيرياً تتقوم به تلك الحياة.

وقد عرف الإنسان في تأريخه نوعين من وسائل التنظيم الاجتماعي هما:

1 ـ الشرائع السماوية.

2 ـ النظم الوضعية، وتلحق بها الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي وضعت من قبل الإنسان وتعارف الناس عليها بعد ذلك.

وتحضى الشرائع السماوية بثلاثة امتيازات أساسية على النظم الوضعية هي:

1 ـ ان صدور الشرائع السماوية عن مصدر عُلوي هو مصدر الوجود والكون وله حق ذاتي في التشريع والتوجيه يجعلها متوفرة على عنصر الإلزام الذي يُعد عنصراً ضرورياً في عملية التنظيم الاجتماعي بينما تفتقد النظم الوضعية إلى هذا العنصر ويمكن تصوير الفرق بينهما من هذه الجهة من خلال المقارنة بين أسرة يقودها الأب ويذعن لكلمته كافة الأفراد نتيجة لتسليمهم المسبق بحقه الذاتي في التوجيه وما لـه من

ـ(156)ـ

المقام المعنوي لديهم، وأسرة أخرى فقدت ذلك الأب وأصبح موقعه المركزي فيها شاغراً، والأبناء نظراء متكافؤون يأنف الواحد منهم أن تكون لغيره مزيّة عليه. وبهذا يكون الجو مهيئاً للنزاع حول القضايا المشتركة بينهم ولأجل حلّ الأزمة يلجأون إلى عقد اتفاق بينهم يقوم مقام الدور المركزي الغائب للأب.

وهكذا يتضح أن النظم الوضعية طريق ثانوي يُلجأ إليه عند فقد الشرائع السماوية وأن الشرائع السماوية طريق لاكتشاف الحق وإلزام المجتمع البشري به، بينما النظم الوضعية محاولة لحل الأزمة الناشئة عن تغييب الشرائع السماوية فالعقد الاجتماعي الذي نادى به جان جاك روسو عاجز عن اكتشاف الحق وعن إلزام المجتمع به، وبالتالي فهو ليس بديلاً عن الشرائع السماوية، إنّما هو خيار يفرض نفسه ويُلجأ إليه اضطراراً عند فقد الطريق الطبيعي والصحيح للتنظيم الاجتماعي، ومع وجود هذا الطريق تصبح النظم الوضعية غير مشروعة.

2 ـ والى جانب عنصر الإلزام يتمتع الأب بتأثير روحي على أبناءه مما يساعده على إنعاش الروح الأخلاقية في الأسرة، وهكذا الأمر في الشرائع السماوية فان انبثاقها عن مصدر علوي يجعلها تحضى بتأثير روحي فعّال في الأسرة الإنسانية بنحو يتيح لها أن تكون شرائع أخلاقية، وهو امتياز تعجز النظم الوضعية عن بلوغه.

3 ـ ومن الطبيعي أن تحمل الشرائع السماوية خصائص الكمال التي يحضى بها مشّرعها الخالق الحكيم، بينما تنعكس على النظم الوضعية خصائص الضعف التي تكتنف الإنسان الذي وضعها.

وإذا جمعنا هذه الامتيازات إلى بعضها ودققنا النظر فيها أمكننا الخروج بفكرة مفادها أن الشريعة السماوية لا يمكنها إلاّ أن تكون عالمية، وان النظم الوضعية لا يمكنها إلاّ أن تكون قومية. طبعاً باستثناء حالات الانحراف في الشرائع السماوية كما

ـ(157)ـ

 في التوراة الحالية، وحالات الشعار الفارغ في النظم الوضعية كما في الأممية الاشتراكية.

فان صدور الشريعة من جهة سماوية عليا ذات كمال مطلق يجعلها شريعة عالمية بطبعها تنظر للبشرية بعين المساواة على انهم أفراد أسرتها الواحدة، كما ان توفر عنصري الإلزام والتأثير الروحي فيها يجعلانها قادرة بكفاءة على كبح جماح الأنانية التي قد تؤدي ببعض الأفراد والجماعات إلى التعالي على الآخرين والاستئثار على حسابهم. كما أن الطبيعة المحلّية المتأصلة في الإنسان، ونزوعه العميق نحو الدائرة الأنانية الضيقة، يجعل النظم الوضعية الصادرة عنه نظماً قومية بطبعها، ومن هنا ظهرت القومية في الحياة الدولية المعاصرة كحتمية لا مناص منها في بناء الدولة والمجتمع الدولي الحديث. وهي حتمية صادقة من جهة وكاذبة من جهة ثانية، فهي صادقة لأن الإنسان الحديث قطع ارتباطه بالسماء وتحضّ بالولاء لنسبه الأرضي، ومن الطبيعي أن يوالي كل إنسان البقعة والدائرة القومية التي ينتمي إليها بطريقة أنانية، وهو اختيار يفرض نفسه كحتمية على الإنسان الذي فقد توازنه بين الأرض والسماء ونظر إلى الأرض على إنها الانتماء الأول والأخير لـه. وهي كاذبة بالنسبة للإنسان المتوازن الذي لا يتنكر لأبوّة السماء لـه عندما يتمتع بدفئ الأمومة الأرضية مهما كانت لذيذة.

وهكذا يتضح لنا أن عالمية الشريعة الإسلامية تتعالى على الإثبات والبرهنة وإنها اتجاه طبيعي ومتأصل فيها، وهو متجذر في عمق عقيدة التوحيد ومستوعب لكل جوانب التشريع الإسلامي، وأبرز مظاهر ذلك أن الإسلام ميّز بين الخصائص المحلية والخصائص الجوهرية في الإنسان، وقد جعل موضوعه الدائم والجهة التي يخاطبها في الإنسان هي الخصائص الجوهرية كالعقل والعلم والفكر والروح والأخلاق

ـ(158)ـ

والقيم.

ولم ينظر إلى الخصائص المحلية كاللون والوطن واللغة والقومية كأساس في أي من مجالات الحياة، وقد نلمس في بعض المؤشرات العقائدية والتشريعية ما يشير إلى نوع من الاعتبار لهذه الخصائص ولكننا إذا ما دققنا النظر فيها وجدنا ان الشارع حتى في مثل هذه الحالات لم يخرج عن نهجه في إعطاء الأصالة دائماً للخصائص الجوهرية. وما أعطاه للخصائص المحلية لا يخرج عن دور التبعية المحكومة بضوابط الخصائص الجوهرية.

وهذا هو قانون التوازن الذي تسير عليه الشريعة وتزداد به واقعية ومتانة حيث تعطي لكل شيء حقه وتضعه في موضعه المناسب لـه دون إفراط أو تفريط.

وإذا أمعنا النظر في الجوانب المختلفة للشريعة الإسلامية وجدنا كل واحد منها يشتمل على عدة أبعاد عالمية، فهناك أبعاد عالمية في النظام العبادي، وأخرى في النهج الأخلاقي، وثالثة في النظام الاجتماعي ورابعة في النظام السياسي وخامسة في الجانب الحقوقي، وسادسة في الجانب الثقافي.

ونحن في هذه الدراسة لا نستطيع تسليط الأضواء على كافة هذه الأبعاد والجوانب. ولذا سنقتصر على دراسة الأبعاد العالمية العبادية والأخلاقية والاجتماعية.

الأبعاد العالمية في العبادات الإسلامية

يمكن تقسيم الأبعاد العالمية في العبادات الإسلامية إلى قسمين:

1 ـ الأبعاد العامة التي تدخل في أكثر من فريضة عبادية.

2 ـ الأبعاد الخاصة بفريضة دون أخرى.

أولاً ـ الأبعاد العامة

وهي أربعة أبعاد:

1 ـ تكريس الاعتقاد التوحيدي والتذكير بالخصائص الإنسانية الأصيلة المشتركة.

ـ(159)ـ

فإنّ جوهر العبادة يتمثل بتحويل التوحيد من اعتقاد نظري إلى ممارسة روحية عميقة ذات تأثير جذري في سلوك الإنسان بنحو يكرّس في ذاته روحية الانتماء للمحور الكوني المطلق ويعمق حالة التبعية لـه ويصادر تمحور الإنسان حول ذاته، وحينما تقوم العبادة بهذا الدور فإنها تجفف منبعاً مهماً من منابع العصبية، ذلك ان العصبية تقوم على أساس شعور متضخم بالذات إلى حدّ تصبح معه النفس هي المحور الذي يدور الإنسان حوله، وهي الحالة التي يعتبرها القرآن حالة عبوديّة الإنسان لذاته، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾(1).

وحينما تقوم العبادات الإسلامية بتذويب هذه المحورية وتعبئة الإنسان في المحور الكوني المطلق فانها تقوم بمعالجة أهم أسباب العصبية، وبزرع أهم بذور الروح العالمية الإيجابية المتفتحة لـدى الإنسان.

ان التكبيرات المتكررة في الصلاة هي تذكيرات مؤكدة بالمحور الكوني المطلق وان سجود الإنسان لله سبحانه وتعالى يدلل على فناء محورية النفس واندحارها أمام الخالق العظيم.

كما ان سجود الإنسان على التراب وأمثاله أشعار دقيق بالمنشأ الإنساني الواحد بوصف ان التراب هو المادة الخام التي خلق منها الإنسان، والمنشأ الواحد الذي يتآخى البشر عنده وهكذا تتصاغر النفس وتفقد محوريتها وتذعن بانحطاط منشأها المادي وتشعر بالمساواة التامة مع باقي أفراد العائلة الإنسانية وهذه المعطيات العالمية التي تقدمها الصلاة، يقدمها الحج أيضاً، ويقدمها الدعاء كذلك. بكيفيات وأنحاء أخرى.

_____________________________________

1 ـ سورة الفرقان: 43.

 

ـ(160)ـ

2 ـ التقليد:

تتفق المذاهب الإسلامية كافة على ان عبادات المكلف ومعاملاته لا تتم على الوجه الشرعي الصحيح ما لم يُقلد مجتهداً جامعاً لشرائط الفتوى والاجتهاد، سوى ان المذاهب الأربعة حصرت الاجتهاد بأربعة فقهاء لأسباب تاريخية معينة، بينما آمن مذهب أهل البيت بانفتاح باب الاجتهاد وان حصر الاجتهاد بزمن دون آخر أمر لا مبرر لـه.

والذي يهمنا من ذلك ان مبدأ التقليد الذي يقوم عليه السلوك الشرعي للأفراد والمجتمع قد صهر المجتمع الإسلامي في بوتقة واحدة وساعد على إذابة العصبيات وإقرار الروح العالمية، ذلك ان تبعية المسلم العربي لمرجعية فقيه فارسي أو تركي، أو تبعية المسلم الفارسي لمرجعية فقيه عربي أو تركي موقف لا تخفى آثاره الإيجابية في مكافحة التعصب الوطني والقومي واللغات المختلفة، فالأحناف من الفرس والترك والعرب يقلّدون فقيهاً فارسياً هو النعمان بن ثابت، والمالكية من العرب والبربر وباقي القوميات يقلدون مالك بن أنس وهو عربي من المدينة المنورة أصله من احراء حمير القحطانيين ويكثر اتباع محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القريشي بين العرب والكرد.

وهكذا الأمر في الفقهاء الآخرين من القوميات والمذاهب الإسلامية الأخرى مما أوجد تشابكاً رائعاً بيـن المسلمين ما كان بالإمكان تحقيقه لولا مبدأ التقليد الذي يقوم عليه السلوك الشرعي للمكلفين.

3 ـ اللغة العربية

اللغة العربية هي لغة العبادات والأدعية والمناجاة، وبالتالي فهي أحد الأبعاد العالمية التي ينطوى عليها نظام العبادات الإسلامية، ولو قدّر لأحد الأشراف على كافة

ـ(161)ـ

المصلين في العالم عندما يؤدون الصلاة بلغة واحدة هي اللغة العربية، أو يستمع إلى تلبيات الحجاج وهم يؤدون مناسك الحج ويرددون ألفاظه بلغة واحدة هي اللغة العربية سيدرك سرّاً من أسرار قدرة الإسلام على إنجاز المجتمع العالمي الذي عجزت الأيديولوجيات الأخرى عن تحقيقه، ونكتفي بهذا القدر من الإشارة إلى اللغة العربية.

4 ـ القبلة:

وهي بعد عالمي مشترك بين الصلاة والحج، فهي القبلة التي يتجه إليها المسلمون في الصلاة، يوميا خمس مرات، والمحور الذي يطوف حوله الحجيج عند أدائهم للحج، كما إنها بعد مستقل بنفسه حيث يستحب الجلوس باتجاه القبلة.

وفي الصلاة تلعب الكعبة دورين شعوريين عالميين، يتمثل الأول بترسيخ الشعور الوحدوي بين المسلمين، فالمسلمون في كل بيت وقرية ومدينة وبلد يتجهون في صلواتهم الخمسة إلى جهة واحدة، ولو قدر لنا الأشراف عليهم من أعلى والنظر إليهم عند أداء الصلاة لوجدنا العالم الإسلامي برمته عند شروع الصلاة يتحلق بدوائر متتالية تستوعب الأرض حول محور الكعبة في حلقات متداخلة ذات مركز واحد تتجه كافة النقاط نحوه، وهي صورة وحدوية رائعة تتكرر خمس مرّات في اليوم الواحد ويتمثل الثاني بانتزاع الشعور الوطني العنصري لدى المسلم وترويضه باتجاه العالمية، لأن المسلم حينما يقدس بقعة ليس من أرضه ويمنحها الولاء والأولوية على مسقط رأسه، إنّما يتلقى تربية مركّزة على المواطنة العالمية وتقليل الاتجاه نحو الوطنية الضيقة، وإذا لاحظنا إلى جنب ذلك ان محورية الكعبة ليست محورية أرض وإنّما هي محورية التوحيد التي تشيع الأمن والسلام على بقعة هي الحرم المكي، وزمان هو الأشهر الحرم الأربعة التي يحرم القتال فيها، وبالتالي فهي محورية القيم الروحية والأخلاقية التي جعلها المسلم قبلته في الصلاة وآمن بها كأقدس بقعة بما يصادر لديه

ـ(162)ـ

روحية التعصب الوطني، إذا لاحظنا ذلك أدركنا ما سيتركه من أثر توجيهي وثقافي كلّي من شأنه ترسيخ محورية القيم الأخلاقية والمعنوية في حياة الإنسان ومكافحة القيم الأرضية والغريزية.

وتتواصل هذه العملية الشعورية طيلة أداء المسلم للصلاة، حتى إذا وجب عليه الحج انتقلت هذه العملية إلى مرحلة أرقى وأكثر عطاءاً، فبعد أن كانت الكعبة قبلة في الصلاة أصبح محور الطواف في الحج، بما يجسّد أن تقديس المسلم لها قد بلغ الذروة وان استعداده للتخلي عن تعصباته المحلية قد وصلا أوجه.

ان الطواف حول مركز التوحيد في الأرض من شأنه أن يجعل الخصائص الطارئة على شخصية الإنسان تتطاير من حوله بفعل القوة الطاردة المركزية للكعبة. والتعصبات المحلية من جملة تلك الخصائص، ومن شأنه أيضاً تعميق الخصائص الأصيلة بفعل القوة الجاذبة المركزية للكعبة، والعالمية تأتي في مقدمة تلك الخصائص.

ثانياً ـ الأبعاد الخاصة:

وهي بعدان: -

1 ـ صلاة الجماعة

تساهم الصلاة بدور كبير في إيجاد المجتمع العالمي الذي ينشده الإسلام فإضافة إلى المضمون العبادي والأخلاقي الذي ترفد به هذا المجتمع بما يحتاج إليه من مقومات روحية ومعنوية تشكل الأساس الذي يقوم عليه المجتمع العالمي الحقيقي، نجد هذه الفريضة تساهم مساهمة مباشرة من خلال انطلاقتها البنّاءة من الساحة الفردية إلى الساحة الاجتماعية واهتمامها المؤكد بالحضور الفاعل في الحياة الاجتماعية، وذلك عبر شعائر صلاة الجماعة والجمعة التي جاءت لتبين ان

ـ(163)ـ

العبادة ممارسة تبدأ   فردية وتنتهي اجتماعية لتحقيق الهدف المركزي للأديان المتمثل بالترقية النوعية للفرد و المجتمع.

ان الصلاة كتلة عبادة تمثل بمجموعها صورة رمزية للإنسان الكامل والمجتمع المثالي في الإسلام. وبفضل عنصر التكرار تترسخ هذه الصورة في ذهنية الفرد المسلم وتعمل على ترقيته بالاتجاه المطلوب، ونجاحها في هذه المهمة يعتمد على درجة وعي الفرد ومدى قدرته التحليلية على فهم واستيعاب عناصر ومداليل تلك الصورة الرمزية. وما تنطوي عليه من قيمة بناءّة وإيجابية.

والعنصر الجماعي في الصلاة هو من جملة تلك الرموز التي تكمن فيها أنساق الحضارة الإسلامية وهو عنصر يكشف عن التوازن بين الفرد والمجتمع، وامتزاج النشاط العبادي بالممارسة الاجتماعية اليومية واشتمال الإسلام على الدين والسياسة معاً. وقيام الحضارة الإسلامية على أساس فكرة الجماعة والمحبة بين الأفراد، خلافاً للحضارة الغربية التي استولت عليها فكرة الصراع فلسفياً واجتماعياً كما سيأتي بيان ذلك في دراستنا للأبعاد الاجتماعية.

ان العنصر الجماعي في العبادة يلعب دوراً مهماً في محاربة العزلة ويغرس في الفرد شعوراً جماعياً ويذيبه في حسّ عام، ويجفف من خلال ذلك روح التكبر والتفوق والاستعلاء التي تنبت في العزلة والانغلاق على الذات والطبقة والفئة، وتموت في الجو الاجتماعي المنفتح الذي يلمسه المسلم في الصلاة الجماعية عندما يقف فيها والى جانبه أو أمامه أفراد يمثلون طبقات اقتصادية أو قبلية أو قومية مختلفة. فيشعر بوحدة عارمة تهيمن على الجميع وتربطهم برباط الاخوة العقائدية وتزيل عنهم مشاعر الطبقية والعصبية والفئوية وتصهرهم في بوتقة مقدمة هي بوتقة العبودية لله سبحانه وتعالى وكأن صلاة الجماعة محاولة تربوية يراد بها تطهير عالم الشعور لدى

ـ(164)ـ

 المصلي من ادران العصبية واجلاء حالته الإنسانية الأصيلة، ويجري التأكيد على هذه المحاولة وتكرارها في اليوم الواحد خمس مرات وعلى مدى العمر للمحافظة على الفطرة الإنسانية نقية طاهرة حتى إذا استوفيت عند الممات يكون المؤمن قد أدى الأمانة سالمة إلى صاحبه الأصلي وهو الله سبحانه وتعالى، تماما كحالتها عند استلامه لها في اليوم الأول لولادته.

وكما يسترفد الشعور العالمي لدى المسلم القوة من الجماعة المؤمنة التي ينظم إليها، كذلك يسترفد هذا الشعور بالقوة من وقوفه خلف إمام يختلف عنه في أكثر الأحيان من حيث الطبقة والانتماء القومي والمحلي وقد يُعد الإمام في القياسات المتعصبة أدنى درجة من المأموم ومع ذلك يأتي المأموم ويصلي خلفه معبراً بذلك عن تخليه عن تلك القياسات الباطلة والتزامه بالمقياس الإسلامي التليد القائل: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(1).

الذي يعبر عنه بالفقه الإسلامي بشرط العدالة في إمامة الجماعة.

وقد لعبت صلاة الجماعة دورها الفاعل هذا في عملية التغيير الاجتماعي حيث أدّت بمن كان ُيعد من ذؤابة القوم إلى التراجع، ودفعت إلى الطليعة أفراداً كانوا يعدّون في المرقاة المتأخرة من السلّم الاجتماعي فالمجتمع الذي كان يأنف من لقاء أفراد كبلال الحبشي صار عليه أن يتقبل وبكل امتنان وصول بلال إلى مستوى الصحابي الجليل، أي الطليعة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الإسلامي، وهو مؤذن الرسول الذي رقى الكعبة عند فتح مكة، ليؤدي الأذان من على هذا المكان الذي كان يعد عرشاً للسلطة القبلية في مكة. وصار على هذا المجتمع أيضاً أن يتقبل إمامة صهيب

_____________________________________

1 ـ سورة الحجرات : 13.

ـ(165)ـ

 الرومي لصلاة كان يحضرها أولي الزعامة القبلية، ولما احتضر عمر بن الخطاب وطلب منه أن يستخلف كان سالم مولى أبي حذيفة قد مات فقال عمر:

(لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا لما شككت فيه).

وفي مثل هذه الأحداث قال الشاعر العربي مستنهضا شعوراً قبلياً خاسراً:

هذا صهيب أمّ كل مهاجر ___ وعلى جميع قبائل الأنصار

لم يرض منهم واحداً لصلاتنا ___ وهم الهداة وقادة الأخيار هذا ولو كان المثرّم سالم ___ حيا لنال خلافة الأمصار ما زال هذه العجم تحيا دوننا ___ ان الغريب لفي عمى وخسار(1).

ان المعايشة الروحية وحدها التي تستطيع ان تعرّف الإنسان حجم الدور التغييري الذي تلعبه الصلاة في فكر ونفس الفرد عندما يقف أثناءها خلف فرد قد تخذله كل المقاييس المتعصبة ولا ينصره إلاّ المقياس الإيماني فيسحق المأمومون تلك المقاييس التي قد تغذّي مصالحهم الاجتماعية الخاصة ويقبلون على الصلاة خلف ذلك الفرد.

وقد يُلاحظ في صلاة الجماعة أحكاماً تبدو في الوهلة الأولى متناقضة مع هذه الرؤية، كالحكم الذي تذكره مصادر الفقه الإسلامي حول مرجّحات تقديم امام على آخر بعد احراز شرط العدالة.

لنقرأ النص التالي الوارد في كتاب «شرائع الإسلام»: قال المحقق الحلي:

«من قدمه المأمون فهو أولى، فان اختلفوا قُدّم الاقرأ فالأفقه فالأقدم هجرة فالاسن فالاصبح»(2).

فان التقديم بصباحة الوجه لا ينسجم مع الرؤية التي تم بيانها عن صلاة الجماعة

_____________________________________

1 ـ الالوسي، محمود شكري، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ج 1 ص 168.

2 ـ المحقق الحلي، جعفر بن سعيد، شرائع الإسلام، ج 1 ص 125، مطبعة الآداب، النجف.

 

 

ـ(166)ـ

 لكن التأمل الدقيق يقودنا إلى نتيجة تنسجم مع هذه الرؤية، فبعد إحراز شرط العدالة تبحث الشريعة عن عناصر من شأنها تأكيد الجماعة والإكثار من فرادها فتقدم الإمام الذي يتوفر على هذه العناصر على من سواه، فالترجيح باختيار المأمومين يساعد على هذا الغرض ويبين احترام الشيعة لشخصية المكلفين، والترجيح بالاقرأية من شأنه أن يرسخ عنصراً من عناصر عالمية المجتمع الإسلامي وهو اللغة العربية.

كما انه عنصر يتعاطف معه المجتمع الإسلامي ويتلقاه بالقبول بما يؤدي إلى تأكيد الجماعة وترسيخها، والترجيح بالافقهية يتجانس مع الوظيفة الاجتماعية لإمام الجماعة، فان أمام الجماعة هو المرجع الذي يعود إليه أهل المحلة أو المدينة لحل مشاكلهم، ولا شك ان الاعلمية في الفقه تمنحه أهلية أكثر على الحلول وقدرة أكبر على استقطاب المجتمع وبالتالي تجعله أقدر من غيره على لمّ الشمل وتوحيد الصف، والترجيح بالأسنية ترجيح بعامل اجتماعي لـه دوره المعروف في الحياة الاجتماعية، والترجيح بالأقدمية في الهجرة يتجانس تماماً مع مقياس التفاضل بالتقوى، فان الأقدمية بالهجرة تعني الأسبقية إلى التقوى والاستعداد الأكبر للخدمة والدرجة الأعلى من الولاء للدولة الإسلامية والمرجح الأخير الذي تدور حوله الشبهة يأتي في هذا السياق، فكأن الشارع يريد أن يجند كل ما بوسعه من العناصر الاجتماعية التي من شأنها تحشيد وتعبئة وتحفيز الحس الاجتماعي العام على الحضور والمشاركة في صلاة الجماعة، ولا يشك أحد في ان جمال الهيئة عنصر مؤثر في الجذب ولذا يحاول الشارع تجنيده لصالح الجماعة، وقد جعله المرجح الأخير لان المرجحات السابقة ترجع بنحو ما إلى اعتبار شرعي، أما الاصبحية في الوجه فإنها اعتبار اجتماعي من حيث الأساس.

ولأجل ما تقدمه صلاة الجماعة من عطاء روحي واجتماعي لصالح وحدة

ـ(167)ـ

الجماعة المؤمنة وعالميتها فقد ورد الحث الشديد على حضورها والدعوة إليها ببيان فضلها تارة وعقوبة التارك لها تارة أخرى.

فمن فضلها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

«ان صفوف أمتي كصفوف الملائكة والركعة في الجماعة أربع وعشرون ركعة كل ركعة أحب إلى الله عز وجل من عبادة أربعين سنة»(1).

وفي العقوبة على تركها ما ورد مكرراً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

«انه همّ بإحراق منازل تاركي الجماعة»(2).

ولأجل ذلك أيضاً أخذت صلاة الجماعة طابعاً تسامحياً في كثير من أحكامها كسقوط وجوب القراءة على المأموم وصحة الالتحاق بالجماعة وان لم يكن مواكباً لها في القراءة وكفاية حسن الظاهر في إثبات عدالة الإمام.

2 ـ الحج:

ان فريضة الحج مزيج متجانس رائع من العقيدة والعبادة والسياسة والاجتماع يمارسها المجتمع المسلم بشكل سنوي لترقى به في سلّم الكمال روحياً وحضارياً ولا يهمنا هنا الحديث عن الأبعاد المتكاملة للحج، إنّما الذي يهمنا دوره في بناء المجتمع العالمي في الإسلام، وموقعه ضمن تشكيلة الأبعاد العالمية في الشريعة الإسلامية، ولأجل ذلك لابد لنا من أن نخضع هذه الفريضة لنظرة تحليلة فاحصة، ليتبين لنا ان القاعدة الأساسية للحج تتمثل بعقيدة التوحيد، وان هذه الفريضة يسيطر عليها الطابع التوحيدي وبتركيز شديد، يتضح ذلك من النظر إلى أحكام الحج الدقيقة جداً وشعائره وعباداته، ومن المعلوم ان التوحيد ليس فكرة تجريدية نظرية، بل هو شعور

_____________________________________

1 ـ الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، 8 / 288.

2 ـ المصدر نفسه، ص 291 - 293.

ـ(168)ـ

حيوي يشع على الحياة الإنسانية بمفاهيم اجتماعية متحركة وفاعلة يأتي في مقدمتها مفهوم العالمية الذي يتجلى أثره في الحج منذ اليوم الأول لممارسة المسلم هذه الفريضة.

فان المسلم يؤدي كل عباداته في محل سكناه سوى الحج فانه يحتاج إلى سفر باتجاه أرض أخرى، وهذا يعني الانخلاع عن الروابط المحلية والاتجاه نحو روابط أخرى ـ أرض، لغة، مجتمع، هي بنظر المسلم الروابط المثالية التي تستحق الدرجة العليا من الولاء والانتماء. فيبدأ الحاج بترك المدينة والأهل والأقارب والعادات والرسوم متجها روحيا وفكريا نحو بقعة ومجتمع ومناسك وعلاقات أخرى. وهي بداية توحي بالانسلاخ عن الخواص المحلية والاستعداد للتحلي بالخواص العالمية، حيث سيكون كل شيء هناك عالمياً الأرض واللغة والمجتمع والمناسك واللباس. ويتصاعد هذا الشعور حتى يبلغ مستوى مؤثراً عند الميقات حينما يخلع الحاج ثيابه التي هي آخر ما تبقى لديه من خواصه المحلية ليرتدي بدلاً عنها ثياب الإحرام التي تنتسب لأرض التوحيد فقط ولا تنتسب لأي قومية أو وطنية معينة.

ان نقطة الميقات هي نقطة الفصل بين الشخصية القومية المتلاشية التي فقدت أرضها ومجتمعها وثيابها وأعرافها وتقاليدها، والشخصية العالمية المتولدة في أرض جديدة هي أرض التوحيد والمنتسبة لمجتمع جديد هو مجتمع الموحدين من كافة أقطار وأجناس الأرض والمتكلمة بلسان عالمي هو اللغة العربية لغة الشعائر والعبادات والثقافة الإسلامية وعملية الاستبدال هذه بمفردها كافية لأن تشعر الحاج بأن الشخصية المحلية التي ألفها في حياته ليست مما ينبغي التمسك به، وهذا بحد ذاته شعور معطاء، لأن عنصر الألفة من شأنه أن يضفي على الشخصية المحلية لوناً من الثبات الحتمي المتعصب المنغلق في دائرة الانا المحلية الضيقة. وكأنها كل شيء وما

ـ(169)ـ

عداها لا شيء. بل ان الحج لا يكتفي بهذا القدر بل هو يقول للحاج: ان الشخصية العالمية التي سترتديها في البقاع المقدسة هي النموذج الأخير لتكامل الشخصية الإنسانية وان الشخصية المحلية لم تحصل على التهذيب المطلوب ولذا وجب الانخلاع عنها والاتجاه نحو الشخصية العالمية التي تستحق الولاء والانتماء، فلا ولاء أعلى من الولاء لمكة ولا انتماء أعلى من الانتماء لمجتمع الحجيج.

وواضح ان عطاءات الشعورية هذه لا تنحصر بمجتمع الحجيج بل هي تعم كافة المسلمين الذين يشاطرون الحـجيج بذلك ويشاركونهم روحيا وعاطـفيا وفكريا في كل ما يقومون به من أعمال ومناسك.

ثم يمضي الحاج قدماً حتى يصل الكعبة المعظمة ليطوف حولها فيكون قد بلغ الذروة في الانقطاع عن الشخصية المحلية والذوبان في الشخصية العالمية التوحيدية وقد استطاع الحج من خلال أدواره التربوية والروحية هذه من لعب دور مؤثر في تكوين الوحدة الاجتماعية بين المسلمين والتعالي على الفوارق القومية التي بينهم.

يقول د. فيليب حتى: (... فالحج أتاح للزنوج والبربر والصينيين والفرس والسوريين والترك والعرب، الفقير منهم والغني، والرفيع والوضيع، أن يجتمعوا ويتآخوا على أساس الإيمان المشترك...  ولا شك في أن الاجتماع في موسم الحج لـه الفضل الأكبر في تحقيق هذه الغاية)(1).

يقصد القضاء على الفوارق القومية بين المسلمين.

وضمن حديثه عن روافد الشعور بالوحدة في العصور الإسلامية أشار الدكتور

_____________________________________

1 ـ حتى ، فيليب ، العرب تاريخ موجز : ص 58.

ـ(170)ـ

حسين مؤنس إلى فريضة الحج بقوله: (... أما الحجاج فقد كانت قوافلهم تشق أرجاء العالم الإسلامي في مسيرة دائمة لا تتوقف ولا تبالي بالعقبات الطبيعية من جبال وصحاري وبحار، ولا تتراخى بسبب أخطار الحروب والقلاقل والفتن، فقد كان حجاج بيت الله الحرام من الأندلس والمغرب والسودان والصين والملايو يخرجون في رحلة الحج قبل موعده بعام أو أكثر أو أقل، ومعنى هذا انه في كل وقت تقريباً كانت هناك قوافل حجاج تقصد بيت الله الحرام، أو تعود منه الوف بعد الوف من الناس يخرجون من أطراف الأرض الأربعة ووجتهم بيت الله... فكأنما قواف الحج كانت أسلحة محاريث قوية تشق الأرض الإسلامية وتقلب تربتها وتأذن لشمس العقيدة في أن تتخللها في عمق وتبعث فيها الحياة، وهذا ولا شك كان في تقدير الخالق سبحانه حينما فرض على أمة الإسلام الحج إلى بيته الحرام)(1).

لقد جاء الإسلام والعرب يمارسون الحج لكنه كان حجاً تتخلله الجاهلية وتشوبه مفاهيمها، فكانوا يتخذونه موسماً للتفاخر بالآباء والأنساب، وهذا يعني ان الشخصية المحلية كانت مسيطرة على أجواء الحج. فجاء القرآن ليدعو إلى ذكر الله بدلاً عن ذكر الآباء. قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾(2).

وقد كرّس النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الدور العالمي للحج في حجة الوداع عندما خطب في المسلمين خطبته الأخيرة التي كان منها قوله:

«أيها الناس إنّ ربكم واحد وأباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب ان أكرمكم

_____________________________________

1 ـ مؤنس، د. حسين، عالم الإسلام، ص 291 - 292.

2 ـ سورة البقرة - الآية: 200.

 

ـ(171)ـ

عند الله أتقاكم ليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى»(1).

الأبعاد العالمية في الأخلاق الإسلامية

تحضى المسألة الأخلاقية باهتمام واسع النطاق في الإسلام، بل الإسلام في جوهره مسألة أخلاقية بالمفهوم الحيوي لا الانعزالي للأخلاق، يظهر ذلك من التأمل في برامج الإسلام السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والقضائية التي تنبع من روح أخلاقية. فإذا كانت الأخلاق تعني رعاية حقوق الآخرين بل ايثار «الآخر» على «الأنا» فان هذا المعنى لا يمكن أن يتحقق إلاّ في ظل الدين الذي يجعل عالم الغيب محور الوجود وعالم الشهادة تابعاً لـه فان «الآخر» هو المدلول الاجتماعي والأخلاقي لعالم الغيب، و«الأنا» يمثل المدلول الاجتماعي والأخلاقي لعالم الشهادة، وبالتالي فان محورية الغيب لعالم الشهادة تنعكس على الساحة الاجتماعية بصورة مثل أخلاقية تعطي الأولوية لحقوق «الآخر» ومصالحه على مصالح وحقوق «الأنا».

ومن هـنا كان الإسلام قيمة أخلاقية وكانت الأخلاق حقيقة دينية قبل أي شيء آخر، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فان الأخلاق عالمية بطبيعها فان الشجاعة فضيلة في كل بلد ومن كل فرد، والجبن رذيلة سواء ظهر في هذه القبيلة أو تلك القومية، ولا معنى لتحديد الفضيلة بحدود جغرافية أو قومية بحيث إذا تعدتها أصبحت رذيلة، وهذه خصيصة جوهرية في الأخلاق بمعنى ان وضع الحدود الجغرافية والقومية على فضيلة معينة من شأنه أن يصادرها ويحولها إلى رذيلة وهذا ما يكشف عن الماهية السلبية للقومية.

_____________________________________

الحسيني، هاشم معروف، سيرة المصطفى ص 691 ط 1.

ـ(172)ـ

ان الأخلاق تنبعث من الروح، والروح جوهر ثابت لا يختلف من إنسان لآخر: فالروح هي الأخرى عالمية بطبعها، وإذا كان معنى الأخلاق هو قيام «الأنا» برعاية حقوق ومصالح «الآخر» بل وإيثاره عليها، فهذا جوهر العالمية التي تعني وحدة الإنسانية وتعاليها على الانتماءات المحلية الهادفة إلى تمايز القوميات وغلبة بعضها البعض الآخر.

وعندما نثبت عالمية إلا خلاق، فإنما نثبت في الوقت نفسه أخلاقية العالمية بمعنى ان العالمية فضيلة كباقي الفضائل الأخلاقية التي لا يمكن للمجتمع الإنساني أن يحيا بدونها.

فهي تعني ان تقوم «الأنا» القومية برعاية مصالح وحقوق «الآخر» القومي والحيلولة دون تحول الانتماء المحلي لأي تعصب تتمدد فيه «الأنا» القومية على حساب «الآخر» القومي، بل هي أكثر من ذلك تطارد التعصب وتعالج المفردات التي يتكون منها.

فلو إننا ألقينا نظرة فاحصة على التعصب بكل دوائره الفردية والقبلية والقومية والوطنية وجدناه يتمحور حول «الأنا» فالذي يرى نفسه ومصالحه ولا يرى غيره أناني، والذي يدافع عن نفسه بالباطل متعصب والذي يباهي بنفسه مغرور، والذي يتبجح بنفسه فخور، والذي يرى نفسه فوق الآخرين متكبر. وقد تكفلت الأخلاق الإسلامية بمكافحة كل هذه العناوين والحالات لتصل إلى مجتمع فاضل خال من العصبية بكل مظاهرها ودرجاتها وأبعادها وجذورها فان الأنانية والتكبر والغرور والعجب والفخر كلها رذائل تمثل بعضها جذوراً للعصبية كالأنانية فيما يمثل الباقي منها مظاهر لها، وقد اهتمت الأخلاق الإسلامية بمكافحة العصبية وجذورها ومظاهرها في آن واحد بما يمكن بيانه في النقاط التالية:

ـ(173)ـ

1 ـ ذم الفخر:

يعد الفخر مظهراً من مظاهر الحياة القبلية المعروفة باستنادها إلى العصبية وقد جاء الإسلام والمجتمع الجاهلي كان يمارس الفخر إلى أقصى حد، فعمل على مكافحة هذا المظهر، وكان من أهمّ ما قاله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة كلمته المعروفة:

«أيّها الناس ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآباءها، ألا إنكم من آدم وآدم من طين، ألا إنّ خير عباد الله عبداً اتقاه»(1).

وروي عن الرسول قوله أيضاً: «آفة الحب الافتخار والعجب».

وأن رجلاً أتاه قائلاً: يا رسول الله أنا فلان بن فلان حتى عدّ تسعة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «اما انك عاشرهم في النار»(2).

وعن الإمام السجاد عليه السلام انه قال: «عجباً للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غداً جيفة»(3).

وكان الفخر يجري في صور متعددة منها: المعاقرة وهي التنافس في عقر الإبل والإطعام للمباهاة، وقد حصلت حالة منها في عهد أمير المؤمنين عليه السلام بين غالب واله، الفرزدق الشاعر المعروف وبين سحيم بين وثيل الرياحي حيث نحر غالب ناقة وأعطى منها لقوم من تميم وأهدى إلى سحيم جفنه فأنف سحيم من ذلك فنحر في اليوم الثاني ناقة، فلما علم غالب بذلك نحر في اليوم الثالث ناقتين، وأخذا يتزايدان

_____________________________________

1 ـ النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات 1 : 363.

2 ـ المصدر نفسه ص 364.

3 ـ المصدر نفسه، ص 363.

ـ(174)ـ

 حتى نحر غالب مائة ناقة فعجز سحيم عن ذلك وكان زمن مجاعة فجاء إليه قومه يقولون لـه جريت علينا عار الدهر هلاّ نحرت مثلما نحر غالب فاعتذر أن ابله كانت غائبة ونحر نحو 300 ناقة، فجاء الناس يسألون الإمام عليه السلام عن حكم هذه اللحوم التي ملأت الأزقة فقال: «انها مما أهل لغير الله» فأكلتها الحيوانات(1).

وقرأ أمير المؤمنين عليه السلام يوم ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ _ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾(2) ثم قال: «يا لـه مراماً ما أبعده وزوراً ما أغفله وخطراً ما أفضعه... أفبمصارع آباءهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون... ولأن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا مفتخراً ولا يهبطوا بهم جناب ذلة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزة...»(3).

ومن هنا عُرّف الفخر في المصادر الأخلاقية بأنه: «المباهاة باللسان بما توهمه كمالاً(4). فالفخر لا    يقوم على حقيقة وإنّما على وهم، فان كان الإنسان يفخر بأحساب وأنساب فهو افتخار بوهم لان الإنسان يقاس بعمله والنسب أمر قهري تكويني لا اختيار للإنسان فيه، وان كان الفخر بفضائل وقيم معنوية فالافتخار لا ينسجم معها بل يبطلها ويتناقض معها، فقد مرّ بنا ان الفضيلة هي رعاية حقوق ومصالح «الآخر» وايثارها على «الأنا» والفخر يعني تأكيد «الأنا» وتقويتها وإغفال «الآخر» أو الإقلال من شأنه، وان كان الفخر بمنجزات مادية فهي من عطاء الله سبحانه ومنحه وليست نتائج خالصة لأعمال الإنسان وتدابيره.

_____________________________________

1 ـ الآلوسي، محمود شكري، مصدر سابق، ج 3، ص 30.

2 ـ  سورة التكاثر: 1 - 2.

3 ـ نهج البلاغة ص 338. تنظيم: صبحي الصالح.

4 ـ النراقي، محمد مهدي، مصدر سابق، 1 : 363.

ـ(175)ـ

2 ـ ذم التكبر ومقدماته من العجب والغرور

عرّف الغرور بأنه «سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان».

وعرّف العجب بأنه: «استعظام النفس لأجل ما يرى لها من صفة كمال سواء كانت واقعاً أم لا».

وعرّف التكبر بأنه: «الركون إلى رؤية النفس فوق الغير»(1).

وإذا ما نظرنا في هذه التعاريف وقارنا بينها وجدنا الغرور بمثابة المقدمة للعجب، والعجب بمثابة المقدمة للتكبر، وان التكبر مرحلة أخيرة ناشئة عن العجب والغرور. لأن رؤية النفس فوق الغير تبتني على استعظام النفس، واستعظام النفس يتطلب موافقة الهوى على رؤية اللاشيء شيئاً، والشيء الصغير كبيراً.

وقد شنت النصوص الإسلامية حملة شديدة ضد التكبر وأوده القرآن بصيغ مختلفة في أكثر من 57 مورداً، في 48 مورداً منها استعمله بصيغة «استكبار» وفي ثمانية موارد بصيغة «تكبر» وفي مورد واحد بصيغة «كبر»، والصيغتان الأوليتان استعملهما القرآن الكريم في موارد التعبير عن التكبر على الله وأنبياءه ورسالاته السماوية، والصيغة الثالثة ذات المورد الواحد استعملها للتعبير عن تكبر الإنسان على أخيه الإنسان وذلك قوله تعالى: ﴿إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ﴾(2).

والمقصود ان أعداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ينطلقون في عدائهم لـه من التكبر عليه.

ان التكبر يكشف عن ميل مفرط لتأكيد الذات ولو تشبثنا بالمغالطة والخيالات النفسية المحضة التي لا واقع من ورائها، وبالتالي فهو أنانية متضخمة وقد رأينا قبل

_____________________________________

1 ـ النراقي، محمد مهدي، مصدر سابق، ج 1 ص 321، 344، و ج 3 ص 3.

2 ـ سورة غافر : 56.

ـ(176)ـ

 قليل ان الأنانية من جملة العناصر المكونة للعصبية، ولذا فان التكبر من خصائص المجتمع المتعصب، والتواضع من خصائص المجتمع العالمي وعندما يشتد التكبر بالمتكبر يرى نفسه فوق الأنبياء عليه السلام وهم نخبة البشر ثم يشتد في المكابرة أكثر فيكابر في خالق الوجود ومدبّر الكون، ومن هنا جاء التعبير القرآني عن هذه الحالة بـ «الاستكبار» وهي صيغة استفعال دالة على تكلّف زائد في تحصيل المطلوب، وحيث ان المطلوب مما يخالف الفطرة لذا فان التكلف الزائد ناشيء عن انحراف زائد عن الفطرة.

ان المجتمع المتعصب مجتمع متكبر يرى نفسه أفضل في عنصره وخصائصه المحلية من باقي المجتمعات، كما ان هذا المجتمع المتعصب الذي يرى نفسه محوراً لغيره لا يستطيع أن يقبل بمحور آخر يوازيه حتى لو كان هذا المحور هو الله سبحانه وتعالى، ومن هنا كان الشرك من خصائص المجتمع المتعصب المتكبر الذي بلغ الذروة في التعصب للذات، فالمجتمع المتعصب متكبر على باقي المجتمعات ومشرك بالله سبحانه وتعالى، وقد تجسّد هذا الشرك قديما بمحاربة المجتمعات القبلية للأنبياء والرسالات السماوية، وحديثاً بتراوح المجتمعات القومية بين الإلحاد والعلمانية التي هي كفر مبطن قائم على أساس إطلاق محورية الإنسان في الساحة الاجتماعية وحذف محورية الله سبحانه لها وحيث ان التكبر على الله سبحانه هو حالة أسوأ وأشد انحرافاً من التكبر على الإنسان لذا فقد ركّز القرآن الكريم على محاربة الأول أكثر من محاربته للثاني، بينما حفلت سيرة المعصومين باستنكار التكبر على الناس وتحبيذ التواضع لهم، فالقرآن يحارب التكبر على الله المؤدي إلى الشرك وإلغاء المحورية الإلهية في الحياة والوجود، والسنّة تحارب التكبر على الناس، القرآن يحارب الجذور ويهدم الأسس الكبرى، والسنة تحارب الامتدادات

ـ(177)ـ

الاجتماعية الناشئة عنها.

فقد ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام قوله لهشام: «يا هشام ما من عبد إلاّ وملك آخذ بناصيته فلا يتواضع إلاّ رفعه الله ولا يتعاظم إلاّ وضعه الله»(1).

وعن الإمام علي عليه السلام أيضاً:  «واستعيذوا بالله من سوانح الكبر كما تستعيذوه من طوارق الدهر فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبياءه ورسله. ولكنه سبحانه كرّه إليهم التكابر ورضي لهم التواضع فألصقوا بالأرض خدودهم وعفّروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين وكانوا أقواما مستضعفين»(2).

وعن الإمام الصادق عليه السلام: «ان في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال لـه سقر»(3).

ولخطورة الموقف لم يقف الإسلام عند محاربة التكبر بل حارب بداياته وآثاره فحارب العجب والغرور لأنهما من بداياته وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«ثلاث مهلكات: شـحّ مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه».

وحارب السخرية والاستهزاء والتنابز بالألقاب لأنها من آثاره، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(4).

_____________________________________

1 ـ المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 1 ص 137.

2 ـ المصدر نفسه، ج 14 ص 468.

3 ـ المصدر نفسه، ج 8 ص 294.

4 ـ سورة الحجرات: 11.

ـ(178)ـ

3 ـ ذم الأنانية

والأنانية هي جذور العصبية، لأن الفرد المتعصب يحاول الاستئثار بكل شيء لنفسه وتجريد غيره عن كل شيء، فجاءت الأخلاق الإسلامية لتحارب الأنانية وتدعو المؤمن لأن يحب لأخيه المؤمن ما يحبه لنفسه ويكره لـه ما يكره لها وطالبت بالاهتمام بأمور المسلمين والسعي لقضاء حوائجهم، ثم ارتقت درجة أخرى حينما طالب بالإيثار وأن يعطي المؤمن لأخيه المؤمن أكثر وأفضل مما يأخذه لنفسه، قال تعالى في وصف المؤمنين:

﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(1).

4 ـ ذم العصبية

قال الشيخ النراقي: «العصبية هي السعي في حماية نفسه أو ماله إليه نسبة من الدين والأقارب والعشائر وأهل البلد قولاً أو فعلاً فان كان ما يحميه مما يلزم حفظه وحمايته وكان ذلك بالحق من دون خروج عن الإنصاف والوقوع في ما لا يجوز شرعاً فهو الغيرة الممدوحة التي هي من فضائل قوة الغضب. وإلاّ فهو الغضب المذموم، وهو من رداءة قوة الغضب، والى ذلك يشير كلام سيد الساجدين حيث سئل عن العصبية فقال:

«العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليست العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصيبة أن يعين قومه على الظلم».

_____________________________________

1 ـ سورة الحشر : 9.

ـ(179)ـ

وقال الإمام السجاد عليه السلام أيضاً: «لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب وذلك حين أسلم عصباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «من تعصب أو تعصب لـه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان في قلبه حبة خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية».

وقال صلى الله عليه وآله وسلم :«ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية».

الأبعاد العالمية للمجتمع الإسلامي

يطلق عنوان المجتمع ويراد به تارة المعنى العام الشامل للأنشطة السياسية والثقافية. وتارة أخرى يراد به المعنى الخاص بالروابط الاجتماعية والأسس الدولية للمجتمع. وواضح ان عنوان «الإبعاد العالمية للمجتمع الإسلامي يراد به المعنى الخاص للمجتمع، لأن المعنى العام يشمل الأبعاد العبادية والأخلاقية والسياسية والثقافية والقانونية التي أفردنا لكل واحد منها بحثاً خاصاً به.

ان المجتمع الإسلامي بالمعنى العام مجتمع عالمي لأنه يقوم على عقيدة وشريعة عالميتين والمجتمع الإسلامي بالمعنى الخاص مجتمع عالمي لأنه يقوم على خمسة أسس عالمية هي:

_____________________________________

1 ـ النراقي، مصدر سابق، ج 1 ص 366.

ـ(180)ـ

1 ـ مبدأ المساواة

فالمجمتع الإسلامي يقوم على قاعدة المساواة في الأحكام والحقوق والواجبات بين أفراده وقد أعلن هذه القاعدة يوم كان المجتمع الجاهلـي يهزأ بالمساواة ويقول: «الناس سواسية كأسنان الحمار».

فقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: «الناس سواسية كأسنان المشط».

وطيلة العصر الإسلامي الذي يسميه الغرب بالقرون الوسطى أو العصور المظلمة كان الإسلام يحمل شعار المساواة ويدفع الناس باتجاه التطبيق. حتى جاءت الثورة الفرنسية فجعلت المساواة ركنا من أركانها.

وفي عام 1947 أصدرت الأمم المتحدة إعلانها العالمي لحقوق الإنسان وجعلت المساواة من جملة بنوده.

ان الفرق بين مناداة الإسلام بالمساواة ومناداة النظم الوضعية بها فرق جوهري يعود إلى منشأ كل منهما باعتبار ان كل نظام محكوم بخصائص واضعيه.

فالإنسان الذي ينادي بالمساواة من خلال النظم الوضعية التي ينشئها إنّما يقصدها في الدائرة المحلية التي ينتمي إليها كالدائرة القومية أو الوطنية: ولا يجد مبرراً للمناداة بها خارج هذه الدائرة، فالمساواة هي ما يكون بين أفراد الجنس أو القومية أو الوطنية الواحدة، والى هذه اللحظة لا زالت المشاعر العنصرية في أوروبا وأمريكا تجاه الملوّنين أو الأجانب المقيمين هناك متأججة.

ثم ان المساواة في النظم الوضعية مبدأ مدني صرف وليس جزءاً من أيديولوجية متكاملة تمنحه زخما وفاعلية من خلال ما تنطوي عليه من جوانب تربوية وبرامج ثقافية.

بينما المساواة في الإسلام، مساواة مطلقة تتحرك في الدائرة الإنسانية الكبيرة

ـ(181)ـ

ولا تعرف الحدود القومية والإقليمية لأنها مساواة ربّ العالمين الذي خلق الجميع ونسبة الجميع إليه واحدة، ولا تتفاوت عنده الأجناس والقوميات والوطنيات والأفراد، وليست هي مساواة فـرد جعل انتماءه القومي والوطني محوراً لشخصيته فكانت المساواة بالنسبة إليه نسبية خاصّة بالمشاركين لـه في هذا الانتماء.

ثم ان المساواة في الإسلام تستند إلى قاعدة أيديولوجية تدعمها بضمانات روحية وثقافية وتربوية بما يجعلها ذات زخم وفاعلية ومصداقية، فهي انعكاس تشريعي طبيعي لوحدة الخالق ووحدة المنشأ الإنساني في التصور الإسلامي، فأفراد الإنسانية متساوون لا لأن المساواة أمر محبّذ، وإنّما لأنهم ينتسبون لخالق واحد خلقهم من منشأ واحد هو التراب، وقد أمرهم بالمساواة ودعاهم إلى المحبة وسيعودون إليه وسيحاسبهم في ذلك، وكل ذلك يجعل المساواة محاطة بأجواء روحية وثقافية وتربوية تؤكدها وتعمقها وتزيدها زخماً وفاعلية.

2 ـ الاخوة العامة

تنتسب البشرية برمتها في التصور الديني المؤكد عبر الرسالات السماوية المتتالية إلى أب واحد هو آدم عليه السلام وأم واحدة هي حواء، وهذا ما ينشأ عنه أخوّة عامة بين أفراد البشرية كافة، وصيرورة البشرية كلها أسرة واحدة.

والمجتمع الإسلامي يرتكز على نوعين من الاخوة:

أ ـ الاخوة البشرية العامة.

ب ـ الاخوة الإيمانية التي عبّر عنها القرآن الكريم بقول:

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾(1).

_____________________________________

1 ـ سورة الحجرات : 10.

 

 

ـ(182)ـ

الاخوة الأولى ترسي قواعد جيدة لمجتمع عالمي متعاطف فيما بينه، ومع ان الإسلام قد أكّد هذه الاخوة وحفظ للإنسان حرمتها ودعا إلى صلة الرحم ورغب مكانة القرابة في المجتمع، إلاّ أنه مع ذلك وانطلاقاً من نظرة متوازنة دقيقة يرفض أن يجعل النسب والروابط النسبية محوراً في بناء المجتمع، ولذا اختار الاخوة الإيمانية محوراً في بناء المجتمع الإسلامي.

ولكي تكتمل الصورة أكثر أضاف إلى الاخوّة الإيمانية الأبوة الإبراهيمية حيث قال الله تعالى:

﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾(1).

فكما ان الاخوّة النسبية العامة ترجع إلى أب هو آدم عليه السلام كذلك الاخوة الإيمانية ترجع إلى أب هو إبراهيم عليه السلام الذي أطلق تسمية المسلمين على المجتمع الإيماني كما هو شأن الآباء الذين يضعون الأسماء لأبنائهم.

وبعد ذلك تضاف الاخوة العامة إلى المجتمع الإسلامي لتكون قوة إضافية من شأنها دعم البنية العالمية في هذا المجتمع العقائدي من خلال رابطة النسب الآدمي التي جعلت في امتداد المحور الإيماني.

لقد عنى الإسلام عناية خاصة بالنسب حتى جعل قطع صلة الأرحام من الكبائر، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾(2).

لكنه لا يقبل بطغيان النسب بحيث يكون محوراً في بناء المجتمع، لأن محورية النسب تعني أن يكون المجتمع متعصباً قبلياً أو قومياً على غرار ما كان عليه المجتمع

_____________________________________

1 ـ  سورة الحج: 78.

2 ـ سورة النساء: 1.

 

 

ـ(183)ـ

الجاهلي، الذي جاء الإسلام لإزالته وإقامة مجتمع إيماني قائم على أساس المحور العقائدي، فالنسب معتبر ما زال منسجماً مع هذا المحور وساقط عن الاعتبار كلما تعارض معه. فرغم ان الابن من أهل الرجل إلاّ أن القرآن أسقط هذه الأهلية في ابن نوح عليه السلام قال تعالى:

﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾(1).

وقال أيضاً في العلاقات النسبية المعارضة للمحور الإيماني:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(2).

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ _ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ _ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ _ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(3).

﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(4).

وهكذا يأخذ المجتمع الإسلامي من النسب قوّته ويتجنب في الوقت نفسه سلبياته التي تظهر كلما وضع في محلّ أوسع من حجمه وغير مخصص لـه.

________________________________

1 ـ سورة هود: 46.

2 ـ سورة التوبة: 23.

3 ـ سورة الممتحنة: 1 - 4.

4 ـ سورة المجادلة: 22.

ـ(184)ـ

3 ـ المقاييس الإنسانية للتفضيل

وانسجاماً مع المحور العقائدي الذي يقوم عليه المجتمع الإسلامي اتخذ الإسلام عدداً من المثل والقيم الإنسانية كأسس للتفاضل الاجتماعي وكعوامل للتحريك والتحفيز نحو النمو والتطور الكيفي والكمي وهي:

أ ـ الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

ب ـ العمل الصالح.

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ_ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر ٍ_ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(1).

وقال تعالى:

﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾(2).

وقال تعالى:

﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾(3).

ج ـ العلم، قال تعالى:

﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾(4).

د ـ الجهاد، قال تعالى:

________________________________

1 ـ سورة العصر: 1 - 3.

2 ـ سورة ص: 28.

3 ـ سورة الجاثية: 21.

4 ـ سورة الزمر: 9.

ـ(185)ـ

﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(1).

هـ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(2).

و ـ السبق إلى الإيمان والإنفاق والجهاد، قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ _ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾(3).

وقال سبحانه: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(4).

وقال تعالى: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(5).

وعندما نتأمل في هذه المقاييس السّتة نجدها تشكل العناصر الأساسية التي تتكون منها الحضارة الإسلامية، فالإيمان هو القاعدة الأساسية للحضارة الإسلامية، والعمل الصالح وسيلة البناء فيها، والعلم هو عنصر النمو والتقدم والتطور فيها، والجهاد هو الطريق لتوسيع رقعة التوحيد في الأرض.

________________________________

1 ـ  سورة النساء: 95 .

2 ـ آل عمران : 110.

3 ـ سورة الواقعة: 10 ـ11

4 ـ سورة الحديد: 10.

5 ـ سورة المطففين: 26.

ـ(186)ـ

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أداة تحمي المجتمع من الانحراف وتكرس فيه الاستقامة والسبق محفز للتنافس في حيازة تلك العناصر بأسرع وقت وأكبر قدر وأفضل كيفية ممكنة، وهكذا فالمقاييس الإسلامية في التفاضل مقاييس حضارية إنسانية أخلاقية وبالتالي فالإنسان الأفضل في التصورات الإسلامي هو الإنسان الأكثر اشتمالاً على عناصر الحضارة والأسبق إلى حيازتها. وقد اختصر القرآن الكريم كل تلك المقاييس بمقياس جامع هو التقوى، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(1).

فالتقوى خلاصة الحضارة الإسلامية التي ترتكز على إرادة الإنسان وعقله ومحتواه الروحي و الفكري.

4 ـ فكرة الجماعة

تعني فكرة الجماعة أن يمنح الفرد ولاءه للجماعة التي يعيش ضمنها ويؤمن بانضمامه إليها فرداً تهمه مصالح الجماعة كما تهمه مصالح نفسه، وهذا المعنى لا تكاد تجد أحداً ينكره وقد يمكن الادعاء بوجود إجماع إنساني عليه. فهي في مستواها النظري لا تواجه مشكلة تذكر، لكن المشكلة في المبدأ الذي تنسجم معها ويثبت قدرة كافية على التجسيد والتطبيق.

ان الفكر المادي بكل مدارسه لا يستطيع أن يثبت مصداقية كافية في هذا المضمار. ذلك أن إنكار دور السماء الأبوي في المجتمع الإنساني وإعطاء الإنسان دور الإله المنقطع عما سواه في الأرض من شأنه أن يكرس الأنانية الفردية التي تجعل الحديث

________________________________

سورة الحجرات : 13.

ـ(187)ـ

 عن الجماعة كلاماً نظرياً بحتاً. وما ظهور القومية كأساس في الحياة السياسية والدولية خلال القرنين الأخيرين إلاّ دليلاً على طغيان الأنانية وغلبتها على الجماعة بمستواها البشري الدولي العام. وقد حاولت الماركسية عبثاً الانتصار للجماعة ودحر الأنانية بمستواها الفردي والقومي، تحت شعار الأممية وعلى أساس إعطاء الأصالة للمجتمع بدلاً عن الفرد، لكنها كانت محاولة محكومة بالفشل لأن الفكر المادي عاجز بطبيعة الحال عن الانتصار للجماعة ولأنه ينسجم مع الاتجاه الفردي فقط.

ومن هنا أفرز الفكر المادي بمستوييه الأكاديمي والفلسفي فكرة بديلة عن فكرة الجماعة ومعاكسة لها تماماً ألا وهي فكرة الصراع التي تلقى ترحيباً وتمجيداً متواصلاً في الفكر الغربي الحديث بكل مدارسه واتجاهاته.

فالصراع بين الأضداد هو الفكرة الفلسفية التي أُسست الماركسية عليها وجرى تطبيقها والتنظير لها في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والتي أسقطت الاتجاه الجماعي في الماركسية المعبر عنه سياسياً بالأممية واجتماعياً بأصالة المجتمع.

والصراع بين الأنواع هو الفكرة التي جاء بها داروين ضمن نظريته عن تطور الكائنات الحية والتي أوجدت إطاراً نفسياً وثقافياً مساعداً لظهورها في الساحة الإنسانية فبدا المجتمع الإنساني وكأنه مجموعة أنواع متصارعة بحثا عن التطور وأخيراً جاءت النازية لتقول بأن التاريخ الإنساني هو تاريخ الصراع بين العنصر الجرماني والعناصر المنحطة. كما ظهرت موجة «الهيبز» لتعبر عن صورة جديدة من صور التحدي للجماعة والاستخفاف بها.

ان الأسرة التي لا ربّ لها يضمحل لديها الشعور بالجماعة ويطغى لدى أفرادها الشعور الفردي الأناني، ويصبح الجو مهيئاً لظهور مشاعر الصراع بينهم، وهكذا فان

ـ(188)ـ

 فكرة الجماعة توجدها أجواء الأبوة في الأسرة، فإذا فُقد الأب تلاشت فكرة الجماعة وظهرت فكرة الصراع بدلاً عنها. وهكذا الأمر في المجتمع الذي آمن بأبوة السماء والمجتمع الذي أنكر هذه الأبوة، ففكرة الجماعة وفكرة الصراع فكرتان تمثلان مجتمعين متناقضين.

أولهما المجتمع الديني وثانيهما المجتمع المادي، وهذا ما عبّر القرآن الكريم عنه بقوله تعالى:

﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(1).

فالمجتمع المادي عاجز عن الوصول إلى حالة جماعية بالمعنى التام لها، والمجتمع الديني هو المؤهل لبلوغ هذه الحالة إذا ما أتقن باقي الشروط والأسباب.

هذا هو الأساس الذي يقوم عليه الاتجاه الجماعي في الإسلام والذي يعبر عن نفسه في الميدان العبادي من خلال صلاة الجماعة والتأكيد المتزايد عليها وفي الميدان السياسي بالتوصيات النبوية القائلة:

«من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربقة الإيمان من عنقه»(2).

وفي الميدان الاجتماعي بالدعوة إلى الاهتمام بأمور المسلمين والسعي في قضاء حوائج المؤمنين وحث الفرد على مواصلة المنقطعين عنه والعفو عن المقصرين بحقه.

يقول المفكر الإسلامي الكبير السيد الشهيد الصدر رضى الله عنه :

(ونتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها يحسّ بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب إليها وانسجام

________________________________

1 ـ سورة الأنفال: 63.

2 ـ المجلسي، محمد باقر، ج 2 ص 266.

ـ(189)ـ

بينه وبينها بدلاً عن فكرة الصراع التي سيطرة على الفكر الأوربي الحديث.

وقد عزز فكرة الجماعة لدى الإنسان المسلم الإطار العالمي لرسالة الإسلام الذي ينيط بحملة هذه الرسالة مسؤولية وجودها عالمياً وامتداداها مع الزمان والمكان. فان تفاعل إنسان العالم الإسلامي على مرّ التاريخ مع رسالة عالمية منفتحة على الجماعة البشرية يرسم في نفسه الشعور بالعالمية والارتباط بالجماعة)(1).

5 ـ الولاية بين أفراد المجتمع الإسلامي

والبعد الاجتماعي الخامس للعالمية الإسلامية هو الولاية بين أفراد المجتمع الإسلامي قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(2).

ان الاخوة العامة تتأكد بالاخوة الإيمانية، والاخوة الإيمانية تتعزز من خلال فكرة الجماعة، والجماعة تأخذ صورتها التامة من خلال الولاية بين  أفرادها، فالمجتمع الذي بدأ من الاخوّة الآدمية العامة مجتمع إيماني تسوده روح الجماعة ويتولى بعضه البعض الآخر ولاية مبدأية خالصة، قال تعالى:

﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(3).

________________________________

1 ـ الصدر، محمد باقر، اقتصادنا ص 21.

2 ـ  سورة الأنفال : 72.

3 ـ سورة المجادلة: 22.

ـ(190)ـ

وهذه الولاية المبدأية الخالصة من شوائب النسب تكشف عن ان الاخوة الادمية العامة التي وجدناها واحدة من أركان المجتمع العالمي في الإسلام قد أريد بها أن تكون جنبة النسب فيها في خدمة جنبة المبدأ وبالتالي فهي اخوة مبدأية.