خصائص وتقويم المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم

خصائص وتقويم المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم

 

 

خصائص وتقويم المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم

 

 

هدى جاسم محمد أبو طبرة

 

المقدمة:

لا تخفى أهمية المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم على كلّ من كتب في علم التفسير، حيث يعدّ هذا المنهج من أخطر المناهج التفسيرية لما يمتاز به عن غيره من المناهج الأخرى من العمق التاريخي الممتد إلى حياة الرسول صلى الله عليه وآله، وما في ذلك من مواكبته لجميع الأحداث السياسية، وتأثره بكل ما في بيئة الإسلام من تيارات فكرة وعقائدية، واختلافات مذهبية، وروايات إسرائيلية، وقصص دينية، وكان هو المنهج السائد في عصور التفسير الأُولى حيث اعتمدته أصناف المفسرين من ثقات ومجروحين، ومجاهيل ومعروفين، «فما أكثر ما تجد الروايات إلى جنب المهارات، إلى جنب الثقافة الشخصية تدفع بك دفعاً إلى القناعة بما خطط هذا أو ذاك، فالملامح الذاتية للمفسّر تبدو واضحة شاء أو أبى، وقد يتعنت بعض منهم ويحملك على الإيمان بما لا تؤمن به، والى الثقة بما لا يوثق فيه»(1).

________________________________

1ـ المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم: 78، د. الصغير.

ـ(182)ـ

ولم تضمحل أهمية هذا المنهج بعد ظهور كثير من المناهج التفسيرية كالمنهج اللغوي والعقلي، ومنهج الرأي، والمنهج العلمي، والصوفي، والباطني والتاريخي والبياني والفلسفي والموضوعي والاجتماعي والأدبي، لأن المعروف بداهة أن جملة من المعارف والعلوم كمعرفة أسباب النزول، أو الناسخ والمنسوخ، أو تفسير المبهم، وغيرها، لا يمكن اكتسابها إلاّ عن طريق الرواية، ولا مجال لتحصيلها عن طريق الدراية.

ولما كان المنهج الأثري هو الطريق الذي يسلكه المفسر للكشف عن مراد الله تعالى في كتابه الكريم، معتمداً على ما بيّنه القرآن الكريم وفصّله وعلى الآثار الصحيحة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وأصحابه أو تابعيهم على قول، فإن اختلاط تلك الآثار الصحيحة بغيرها قد جعل التفسير بالمأثور عرضة للنقد، إلاّ أن تنقية المأثور ممّا علق به وهو ليس منه تكشف عن صلاحيته وديمومته، لذلك سوف نتعرض لأهم خصائص هذا المنهج، ومن ثمّ دراسة أهم الجوانب التي نراها ذات أثر كبير في تقويمه.

عسى الله تعالى أن يوفقني للصواب إنه نعم المولى ونعم النصير.

المبحث الأول- خصائص المنهج الأثري

أولاً: يكشف عن مراد الله بدلالته:

من الواضح أن خير ما يفسّر كلام الله تعالى هو القرآن الكريم نفسه، ومن ثمّ السنّة النبوية المطهّرة لأنهما صنوان لمشرع واحد، قال تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى _ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى _ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى _ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(1). وان كان للمنهج الأثري مصادر أخرى يستقي منها ويعتمد عليها وهي المأثور عن أهل

________________________________

1ـ سورة النجم: 2- 5.

ـ(183)ـ

البيت عليهم السلام والمأثور عن الصحابة والمأثور عن التابيعين، وأن لكل من هذه المصادر قيمته وأهميته، إلاّ أن القرآن والسنة تعتبران من أعلى مصادر التفسير بالمأثور مرتبة نظراً لقوة دلالتهما في الكشف عن مراد الله تعالى، إلاّ أن هذه الدلالة ليست بمستوى واحد في مجال بيان المراد من كلام الله عز وجل، فهي قد تكون قطعية كما في تفسير القرآن بالقرآن، وقد تكون قطعية أو ظنية، كما هو الحال في الطرق المؤدية إلى بيان السنّة للأحكام الشرعية.

وإذا كانت الأدلّة هي الطريق الموصل إلى تحصيل الواقع وهو مراد الله تعالى من كتابه المجيد، فإنّها قد تتوافر أو لا تتوافر في بعض الطرق الحاكية عن السنّة النبوية لأنّها في حقيقتها «رواية تتقلب بين الظن والقطع فتكون قابلة للنفي والإثبات بحسب موازين تقويم الروايات المتواترة والمشهورة وأخبار الآحاد»(1)، لهذا وذاك كان من الضروري الوقوف على أهم الطرق التي تحمل هذه الدلالة أو تلك في مجال الكشف عن مراد الله تعالى.

قسّم العلماء السنّة النبوية باعتبار رواتها عن الرسول إلى قسمين رئيسين هما:

الطرق القطعية، والطرق غير القطعية.

1ـ الطرق القطعية المؤدية إلى السنّة:

أمّا الطرق القطعية فقد قسّموها إلى عدّة أقسام(2) إلاّ أنّ أشهرها تعلقاً بعالم الرواية والتفسير قسمان هما:

أ- الخبر المتواتر.

ب- الخبر المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره.

________________________________

1ـ المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم: 55، د. الصغير.

2ـ الأُصول العامة للفقه المقارن: 194، محمد تقي الحكيم.

ـ(184)ـ

أ- الخبر المتواتر: عرف الخبر المتواتر بأنه ذلك الخبر الذي بلغت رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم- أي اتفاقهم- على الكذب، واستمر ذلك الوصف في جميع الطبقات حيث تتعود، بأن يرويه قوم عن قوم وهكذا إلى الأول، فيكون أوله في هذا الوصف كآخره، ووسطه كطرفيه، ولا ينحصر ذلك في عدد خاص(1).

وأن الخبر المتواتر على الرغم من كثرة تعريفاته- المختلفة لفظاً المتحدة معنىً- هو ممّا يوجب علماً بصدور مضمونه(2)، فهو قطعي الصدور عن الرسول صلى الله عليه وآله لأنّ تواتر النقل بالشروط التي تتضح من التعريف وأمانة رواته واختلاف وجهاتهم وبيئاتهم وكثرتهم، ممّا يفيد الجزم والقطع بصحة الخبر، والخبر متى ما ولّد العلم والقطع بالسنة عندما يتضمن حكايتها يكون حجّة شرعية ودليلاً قاطعاً على الحكم ومصدراً لـه مادامت السنّة نفسه كذلك(3).

ومن أمثلة الأخبار المتواترة في تفسير القرآن الكريم ما نقل إلينا في تفسير قولـه تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(4)، بأن المراد منهم هم النبي محمّد صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسنان عليهم السلام، حيث بلغت طرق الروايات- المفسرة لآية التطهير- بالتنصيص على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها عليهم الصلاة والسلام حدّاً قد لا تصل مداه طرق الروايات المتواترة الأخرى، إلاّ إذا استثنينا حديث الغدير، والمنزلة، والدار، والثقلين، ومن كَذَّب عَلَيّ.

ومن أمثلتها أيضاً أكثر السنن العملية الواصلة إلينا في مجال تطبيق أوامر الله ونواهيه في آيات الأحكام مثل أداء الصلاة، والحج، والصوم، وإيتاء الزكاة، وإقامة الأمر

________________________________

1ـ الدراية: 12، الشهيد الثاني.

2ـ الأُصول العامة للفقه المقارن: 194، محمد تقي الحكيم.

3ـ مفتاح الوصول إلى علم الأُصول: 63، البهادلي.

4ـ سورة الأحزاب: 33.

ـ(185)ـ

بالمعروف، والنهي عن المنكر وغيرها(1).

وبناءً على ما تقدم فإن تفسير القرآن الكريم عن طريق الأخبار المتواترة يكشف عن مراد الله بدلالته القطعية التي لا تقبل الرفع أو الوضع، ولكن الأخبار المتواترة قليلة جدّاً ونادرة وقد لا تكفي بمجموعها في تفسير سورة واحدة.

ب الخبر المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره: ويراد به الخبر غير المتواتر؛ والخبر ما لم يكن متواتراً لا يفيد العلم بصدوره، ولكن قد يعتضد بقرائن تؤدي إلى العلم بصدقه، فالعلم بصدقه والحالة هذه لم يستند إلى الخبر وإنّما استند إلى تلك القرائن المصاحبة للخبر(2)، وهذه القرائن هي موافقة الخبر للكتاب، والسنة والإجماع، والدليل العقلي(3) وقد مثلوا لـه بمن «يخبر عن مرضه عند الحكيم ونبضه ولونه يدلان عليه، أو كمن يخبر بموت أحد والنياح والصياح في بيته وكنّا عالمين بمرضه » وهذا الخبر المحفوف بمثل هذه القرائن الموجبة للقطع بصدوره عن المعصوم- سواء أكان خبراً مشهوراً أم غير مشهور- فإن المدار في حجيته هو حصول العلم منه كالخبر المتواتر، والعلم بنفسه حجّة ذاتية فلا تحتاج بعده إلى التماس أدلة على الحجّية(4).

2ـ الطرق غير القطعية المؤدية إلى السنّة:

ومن أشهر هذه الطرق هو خبر الواحد؛ وقد عرف خبر الواحد بعدّة تعريفات أشهرها:

«انه ما كان من الأخبار غير منتهٍ إلى حدّ التواتر»(5) فإذا لم يكن الخبر متواتراً ولا

________________________________

1ـ علم أُصول الفقه: 40، عبد الوهاب خلاف.

2ـ مفتاح الوصول إلى علم الأُصول: 66، البهادلي.

3ـ أُصول الفقه 3: 86، المظفر.

4ـ الأُصول العامة للفقه المقارن: 197، محمد تقي الحكيم.

5ـ الأحكام 2: 32، الآمدي، والمستصفى 1: 145، الغزالي، وأصول الفقه 3: 58، المظفر.

ـ(186)ـ

معتضداً بقرائن توجب القطع بصدوره عن المعصوم فهو من خبر الواحد الذي اختلفوا في قبوله، فمنهم من أخذ به مطلقاً مستدلاً على ذلك بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، ومنهم من ردّه مطلقاً مستدلاً بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل أيضاً.

ويظهر من مناقشة أدلّة القوانين أن خبر الواحد مع توافر شروطه(1) يعدّ دليلاً على الحكم الشرعي، ومصدراً لإثبات هذا الحكم «وإن كان لا يفيد إلاّ الظن، لوجود الدليل القطعي الذي يثبت حجيته»(2).

ولما كانت أكثر الروايات التفسيرية من أخبار الآحاد، لذا كان لزاماً على المفسر التحرّز منها خشية فقدان تلك الأخبار أحد الشروط التي اشترطها العلماء من أجل الأخذ بتلك الأخبار كالإسلام، والعقل، والعدالة، والوثاقة وغيرها من الشروط الأخرى التي تناولتها كتب الأُصول تفصيلاً.

ثانياً: وثاقة التفسير بالمأثور باعتماده على النصوص القديمة:

من خصائص التفسير بالمأثور أن الوثاقة به متأتية من كونه معتمداً النصوص القديمة الموثقة التي أسند كثير منها إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، وهذه النصوص هي أمّا أن تكون منقولة عن النبي صلى الله عليه وآله أو أهل بيته، أو أصحابه أو التابعين؛ والمفسّر بالأثر لابدّ لـه لفهم معاني القرآن الكريم من الرجوع إلى الإسناد المتصل بمصادر التفسير بالمأثور.

أمّا اعتماد اللغة مصدراً ثرياً آخر في التفسير، أو الاستعانة بالاجتهاد والاستنباط، أو اتباع مناهج أُخرى غير هذا وذاك، فإنها عاجزة عن التوصل لما اختص به التفسير بالمأثور في بيان أساب النزول، أو تعيين الناسخ من المنسوخ، أو تفسير المبهم قال الزركشي(ت 794 هـ): «والحق انّ علم التفسير منه ما يتوقف على النقل كسبب النزول،

________________________________

1ـ ينظر مناقشة أدلة القولين في الأُصول العامة للفقه المقارن: 205- 224، محمد تقي الحكيم.

2ـ خبر الواحد حقيقته وحجيته، عدنان علي البكاء، بحث منشور في مجلة كلية الفقه 4، 2 لسنة 1984: 22.

ـ(187)ـ

والنسخ، وتعيين المبهم؛ وتبيين المجمل»(1) وهذا- في تقديري- لا يتم إلاّ بالرجوع إلى النصوص القديمة الموثقة التي حفلت بها كثير من كتب التفسير بالأثر، مثل تفسير مجاهد(ت 103 هـ)، وتفسير فرأت الكوفي(توفي في أواسط المائة الثالثة)، وتفسير الطبري(ت 310 هـ)، والعياشي(ت 320 هـ)، والطوسي(ت 460 هـ) وغيرها.

ومن المفيد هنا أن نشير إلى أن اعتماد التفسير بالمأثور على النصوص القديمة المسندة قد نتج عنه أثر سلبي في وثاقته لاسيما فيما يتصل بالكونيات، والقصص، ووصف ما لم يتولَّ القرآن وصفه(2).

وقد تعرض التفسير بالمأثور من جراء ذلك إلى النقد جملة وتفصيلاً؛ فعن أحمد بن حنبل: «ثلاثة أُمور ليس لها إسناد التفسير، والملاحم، والمغازي ويروى... ليس لها أصل»(3).

فلو نقي التفسير بالمأثور من هذه الروايات، مع تجنب الأخذ عن غير الثقات المعروفين، واقتصر في النقل على النصوص القديمة الموثقة لكان في ذلك خدمة جليلة للقرآن الكريم نفسه، وزيادة الثقة بهذا النوع من التفسير.

ثالثاً: استخلاص الحياة العقلية والفكرية من خلال المنهج.

ومن خصائص المنهج الأثري أنه يمكن من خلال الروايات التفسيرية المنقولة استخلاص الحياة العقلية والفكرية للمجتمع العربي والإسلامي بحسب مراحل التفسير بالمأثور، ابتداءً من مرحلة نزول القرآن الكريم، وانتهاءً بمرحلة ما بعد العصر النبوي وكما يأتي:

1ـ أثر القرآن الكريم في استخلاص الحياة العقلية والفكرية:

لما كان موضوع علم التفسير- بالمأثور وغيره- هو القرآن الكريم، لذا يحسن

________________________________

1ـ البرهان 2: 171، الزركشي.

2ـ التعريف بالقرآن والحديث: 169، الزفاف.

3ـ مقدمة في أُصول التفسير: 9، ابن تيمية.

ـ(188)ـ

الوقوف على جملة من آياته العظيمة التي تعيننا على تفهّم تلك الحياة قبل نزول تلك الآيات وبعده، ومما يلحظ بادئ الأمر أن القرآن الكريم قضى على كثير من المفاهيم الموروثة كوأد البنات بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ _ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾(1).

وتعاطي الموبقات كشرب الخمر، والزنا، وإيتاء الفواحش، والتعامل بالربا، كما أعاد توزيع الميراث بشكل يضمن للمرأة حقوقها وكرامتها، ونهى عن العصبية، وساوى بين الرئيس والمرؤوس، والغني والفقير، والأبيض والأسود، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(2).

فإذا تركنا هذا الجانب نشاهد كتاب الله عز وجل قد حثّ على إعمال العقل والفكر في أمور مختلفة، منها التفكير بالخلق، كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ _ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ _ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ _ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾(3).

ومنها التفكير في مبدأ الإنسان ومعاده، كما في قولـه تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾(4).

أو كقولـه تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ _ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾(5).

ومنها التفكر بأحداث الأُمم السابقة والقرون الماضية، كقوله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ _ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ _ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ _ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ _ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾(6).

وكقوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾(7).

________________________________

1ـ سورة التكوير: 8- 9.

2ـ سورة الحجرات: 13.

3ـ سورة الغاشية: 17- 20.

4ـ سورة فاطر: 9.

5ـ سورة يس: 78- 79

6ـ سورة الفجر: 6- 10.

7ـ سورة آل عمران: 137.

ـ(189)ـ

كما حرر القرآن الكريم العقول من الأوهام العالقة والخرافات السائدة، مثل استقسامهم بالازلام، كما في قولـه تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).

ورد بدع الجاهلية، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كما في قولـه تعالى ﴿مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(2).

كما ندد بعبادتهم الأصنام والأوثان من غير عقل وفكر، فقال تعالى ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ _ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(3).

لقد أرسى القرآن الكريم قواعد متينة لمجتمع إنساني رفيع تقوم دعائمه على أساس من العلم حتى كانت أول آية منه أن ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ _ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ _ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ _ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ _ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(4). وأراد من الإنسان أن يتسلح بالعلم ويتّسم بالتفكير الصحيح والعقل السليم، لكي يتحرر، من قيود المائدة التي كانت محوراً للحياة العقلية والفكرية قبل البعثة النبوية المشرّفة، ومن ثمّ الانطلاق نحو العبودية الخالصة لله تعالى.

2ـ مرحلة العصر النبوي:

يمكن تشخيص بعض ملامح الحياة العقلية والفكرية للعصر النبوي وذلك من خلال المرويات التفسيرية المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله، والتي تظهر في بعضها شدّة النزاع

________________________________

1ـ سورة المائدة: 3.

2ـ سورة المائدة: 103، والبحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكراً نحروه وأكلوه، وان كان أُنثى شقوا أذنها وجعلوا أكلها حراماً؛ أما السائبة فهي الناقة التي ولدت عشراً فيجعلونها سائبة ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها؛ وأما الوصيلة فهي الناقة التي تلد ولدين في بطن واحد فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها، أما الحام فهو فحل الإبل لم يكونوا يستحلونه. معاني الأخبار، الصدوق: 148.

3ـ سورة الأنبياء 66- 67.

4ـ سورة العلق: 1- 5.

ـ(190)ـ

وحدته بين العقل والجهل، والإيمان والكفر، ومحاولة إثبات صحة دعوى كلّ فئة من فئات المجتمع بما تعتقده وتراه صواباً.

ومن الأمثلة على ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله في تفسير الآية الكريمة من قولـه تعالى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون﴾(1) أنه اجتمع عند رسول الله صلى الله عليه وآله أهل خمسة أديان هم اليهود، والنصارى، والدهرية والثنوية، ومشركو العرب واحتج كلّ منهم بمقالته عند الرسول صلى الله عليه وآله وادّعى الفضل فيها.

فقالت اليهود: نحن نقول عزير ابن الله. وقال النصارى: نحن نقول أن المسيح ابن الله. وقالت الدهرية: نحن نقول الأشياء لابد لها وهي دائمة، وقالت الثنوية نحن نقول: النور والظلمة هما المدبران. وقال مشركوا العرب نحن نقول: أن أوثاننا آلهة. فردّ عليهم الرسول صلى الله عليه وآله بأبلغ بيان وأقوى حجّة وأبطل دعواهم وأسكتهم(2).

هذا وقد بلغ أمر معاندة أهل الكتاب الرسول صلى الله عليه وآله إلى أن النصارى منهم لما أصروا على أن عيسى ابن الله، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وآله إلى المباهلة، كما في قولـه تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(3). فقد روى ابن كثير(ت 774 هـ) أن العاقب والطيب- وهما من أساقفة نجران - قدما على النبي صلى الله عليه وآله فدعاهما إلى الملاعنة، فوعداه على أن يلاعناه الغداة ثمّ أبيا بعد ذلك وأقر لـه بالخراج، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «والذي بعثني بالحق لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادي ناراً»(4)، وروى الطبري(ت 310 هـ) في تفسير الآية المذكورة عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: «ليت بيني وبين أهل نجران

________________________________

1ـ سورة التوبة: 30.

2ـ البرهان في تفسير القرآن 2: 116- 120، البحراني.

3ـ آل عمران: 61.

4ـ تفسير القرآن العظيم 2: 52 ابن كثير .

ـ(191)ـ

حجاباً فلا أراهم ولا يروني»(1) وعلّق عليه الطبري بقوله: «من شدّة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وآله»(2).

كما صوّر القرآن الكريم عقلية المجتمع القرشي، وتفكيرهم الساذج، ومقاييسهم المادية في اختيار الرسول، وعنادهم وإصرارهم على جهلهم، وغيّهم تجاه الرسالة الجديدة رسالة التوحيد، وذلك في جملة من الآيات الكريمة، بأروع بيان، وأدقّ تعبير وأوضح صورة ومن تلك الآيات قولـه تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا _ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا _ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً _ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾(3).

وكقوله تعالى:﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا _ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا﴾(4)، أو كقوله عز وجل:﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾(5).

ومن تلك الملامح أيضاً التي تستبين من الأثر النبوي في التفسير هو شغفهم بالشعر، ويصور لنا القرآن الكريم أن الشعراء في ذلك العصر كانوا على طائفتين: أحدهما تمثل الشعر الملتزم في الدفاع عن العقيدة بقول الحقّ والصدق مع الإيمان والعمل الصالح،

________________________________

1ـ جامع البيان 3: 298، الطبري.

2ـ المصدر نفسه.

3ـ سورة الإسراء: 90- 93.

4ـ سورة الفرقان: 7- 8.

5ـ سورة الزخرف: 31، وينظر تفسير البرهان للبحراني 2: 445، حيث روى عن الإمام العسكري عن أبيه الهادي عليهما السلام ان رسول الله صلى الله عليه وآله قد ناظر هؤلاء وحاججهم بأقوى الأدلة المنسجمة مع واقعهم ومعارفهم في ذلك العهد.

ـ(192)ـ

والأُخرى تمثل الاتجاه المعاكس من حيث المدح الكاذب أو الهجاء الباطل، ومجانبة الصواب، ومن الآثار التفسيرية التي تدلّ عليه ما ذكره الطبري في تفسير قولـه تعالى ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ _ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ _ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾(1).

من أن رجلين أحدهما من الأنصار والآخرين من قوم آخرين تهاجيا، وكان مع كلّ واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء، فقال الله تعالى ذلك، ثمّ ذكر أيضاً أن شعراء الرسول صلى الله عليه وآله قد جاؤا إليه وهم يبكون، فقالوا: «قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء» فتلا النبي صلى الله عليه وآله ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾(2).

3ـ مرحلة ما بعد العصر النبوي:

اما في تفسير الصحابة والتابعين، وتفسير الأئمة من أهل البيت أيضاً، فإن انتزاع صور الحياة العقلية والفكرية أيسر بكثير ممّا هو عليه في التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وذلك لكثرة التفسير الوارد عنهم، ولتأثر بعض المنقولات التفسيرية بكل ما في بيئة الإسلام من تيارات فكرية، وعقائدية، وقصص دينية وفلسفة وكلام.

وفيما يأتي بعض الأُمور المستخلصة من التفسير بالمأثور التي تقرب إلى الذهن صورة الحياة العقلية والفكرية في ذلك العصر.

أ- المسائل العلمية: من خلال التفسير بالمأثور يمكن التوصل إلى جملة معارف الصحابة من الناحية العلمية، والتي هي في الغالب يسيرة، وقد تكون ساذجة أحياناً تتماشى مع روح ذلك العصر وتتفق مع بيئتهم، ومن الأمثلة عليه تفسيرهم الرعد الوارد

________________________________

1ـ سورة الشعراء: 224- 226.

2ـ جامع البيان 19: 129، الطبري. والآية 227 من سورة الشعراء.

ـ(193)ـ

في قولـه تعالى: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾(1) بأنه «ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب، بيده محراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله»(2)، أما البرق فهو طرف ملك يقال لـه روفيل(3)، ومنه أيضاً تفسير قولـه تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(4) فعن ابن عمر(ت 73 هـ) قال: «أن الشمس تطلع فتردها ذنوب بني آدم حتى إذا كان يوم غربت فسلمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها، فتقول: أن المسير بعيد، وأني إن لا يؤذن لي لا أبلغ فتحبس ما شاء الله أن تجس»(5).

وكذلك ما ورد في تفسير قولـه تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(6)، فعن كعب: «إن السماء في قطب كقطب الرحى والقطب عمود على منكب ملك»(7).

وقد يعذر بعض الصحابة على هذا التفسير حيث لم تتوافر لديهم وسائل العلم كالأرصاد الجوية أو المركبات الفضائية، ولكنهم على الرغم من ذلك لم يكونوا بمستوى واحد في المسائل العلمية، فقد جاء عن علي عليه السلام ما هو سابق لعصره من الناحية العلمية وذلك في تفسيره لقولـه جل ثناؤه: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾(8) بما يدل على كروية الأرض حيث قال عليه السلام: «لها ثلاثمائة وستون مشرقاً وثلاثمائة وستون مغرباً، فيومها الذي تشرق فيه لا تعود منه إلاّ من قابل، ويومها الذي تغرب فيه لا تعود فيه إلاّ من قابل»(9) وهذا دليل واضح على أن الإمام علياً يريد بهذا التفسير الإشارة إلى كروية

________________________________

1ـ سورة الرعد: 13.

2ـ الإتقان 4: 264، السيوطي.

3ـ المصدر نفسه.

4ـ سورة يس: 38.

5ـ تفسير القرآن العظيم 5: 615، ابن كثير.

6ـ فاطر: 41.

7ـ جامع البيان 22: 145.

8ـ سورة المعارج: 40.

9ـ معاني الأخبار: 221، الصدوق.

ـ(194)ـ

الأرض، وأنها مقسمة إلى ثلاثمائة وستين درجة، ولكل منها مشرق يقابل في الطرف الآخر مغرباً، إذ لو كان شكل الأرض مسطحاً لما تم ذلك ولم أجد- فيما قرأت أو سمعت- من سبق الإمام عليه السلام إلى هذا الاكتشاف الباهر الذي لم يُستوعب في حينه، فادعاه الأوربيون بعد قرون.

ومنه ما جاء عنه عليه السلام في تفسير قولـه تعالى: ﴿وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾(1). فقال: «ظاهر وباطن الجدي تبنى عليه القبلة وبه يهتدون أهل البر والبحر لأنه لا يزول» وهذا يعني تفهم الإمام لحركة الكواكب ومعرفة أسمائها.

ب- المسائل العقائدية والكلامية: اشتملت الروايات المأثورة في تفسير القرآن الكريم على كثير من مباحث العقيدة وعلم الكلام، لاسيما بعد انتهاء عصر الصحابة، وهذا يعني تطور الحياة العقلية والفكرية في بيئة الإسلام تطوراً كبيراً خصوصاً بعد تأثر تلك البيئة بانعكاسات الأفكار الجديدة التي تبنتها بشكل ملحوظ المدرسة العقلية التي رفضت المفاهيم السلفية، فكان من جملة تلك الأفكار مسائل القدم والحدوث، والجبر، والتفويض، والصفات، زيادة على المصطلحات الفلسفية التي أدخلت في التفسير كالجوهر والعرض، وما إلى ذلك من أُمور أُخرى، ولعل خير من يمثّل ذلك ما رواه البحراني في تفسيره من أن رجلاً سأل الإمام الصادق عليه السلام قائلاً: «ما الدليل على الله ولا تذكر لي العالم، والعرض، والجوهر؟ فقال لـه: هل ركبت البحر ؟ قال: نعم، قال: عصفت بكم الريح حتى خفتم الغرق ؟ قال: نعم، قال: فهل تتبعت نفسك ان ثَمَّ من ينجيك ؟ قال: نعم، قال: فإن ذلك هو الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾(2).

و﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾(3).

________________________________

1ـ سورة النحل: 16.

2ـ سورة الإسراء: 67.

3ـ البرهان في تفسير القرآن 1: 46، البحراني. والآية 53 من سورة النحل.

ـ(195)ـ

ولعل الناظر في هذه الرواية يستنبط منها صورة مصغّرة للعقلية السائدة في ذلك العصر، وطريقة التفكير في إثبات وجود الله تعالى، حيث وجدناها في تلك الرواية على قسمين:

قسم يحاول إثبات وجود الله عز وجل عن طريق الفرضيات والنظريات الفلسفية الجديدة، وآخر يريد ذلك الإثبات بأدلة من الواقع المحسوس بعيداً عن أساليب وافتراضات الفلاسفة.

ومنه أيضاً تعرضهم لصفات الله كما في تفسير الآية من قولـه تعالى: ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾(1) فعن الربيع أنّه فسّر الحياة بعدم الموت(2)، وقال آخرون: «إنّما سمّى الله نفسه حيّاً لصرفه الأمور مصارفها، وتقديره الأشياء مقاديرها، فهو حي بالتدبير لا بحياة»(3) وقال آخرون: «بل هي حي بحياة هي لـه صفة»(4).

ومن أمثلته أيضاً تعرضهم لمسائل القضاء والقدر، كما في تفسير قولـه تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(5) فقد روى الطبري بسنده عن أبي الأسود الدؤلي، قال: «قال لي عمران بن حصين: أرايت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون ممّا أتاهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام، وأكّدت عليه الحجة ؟ قلت: بل شيء قضي عليهم قال: فهل يكون ذلك ظلماً ؟ قال: ففزعت منه فزعاً شديداً، قال: قلت لـه: ليس شيء إلاّ وهو خلقه وملك يده، ﴿يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(6).

ومن أمثلته أيضاً ما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في ردّ مزاعم المعتزلة بأن

________________________________

1ـ سورة البقرة: 255.

2ـ جامع البيان 3: 5، الطبري.

3ـ المصدر نفسه.

4ـ جامع البيان 3: 5، الطبري.

5ـ سورة الشمس: 8.

6ـ جامع البيان 3: 211، الطبري.

ـ(196)ـ

مرتكب الكبيرة مخلّد في النار، لا تقبل توبته، ولا يغفر الله تعالى لـه، أو يخفف عنه، حيث قال: «قد نزل القرآن بخلاف قولـه المعتزلة، قال الله جل جلاله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾»(1). وهذا يُعدُّ تفسيراً لموضع استدلال الإمام بها على أن مرتكب الكبيرة غير مخلّد في النار مع توبته.

ج- التحرر من الرواية ومن خصائص المنهج الأثري، أننا نجد الكثير من الروايات المأثورة في التفسير ولاسيما ما كان منها عن التابعين قد تحررت من الرواية نفسها- إن صحّ التعبير- بمعنى أن هناك عدة روايات في تفسير القرآن الكريم قد انتهى سندها إلى التابعين من غير اتصال أسندها إلى أحد الصحابة أو رفعها إلى الرسول صلى الله عليه وآله، وذلك لنزوع بعضهم نحو العقل وإعطائه الحرية في التفسير، أو جنوحهم نحو تسخير طاقات اللغة العربية والاستعانة بها في فهم النص، أو استخدام الرأي القائم على أساس من الاجتهاد والاستنباط، فامتزج المنهج الأثري بغيره، نظراً لتطور الحياة العقلية والفكرية في ذلك العصر وما أملته الضرورة عليهم، كما هو الحال في صرف المعنى الظاهر من رفض المفردات القرآنية تذرعاً بالعقل أو اللغة أو الاستنباط والاجتهاد، كجواز الرؤية مثلاً، أو المجيء، والحلول والكرسي، والاستواء، وغيرها.

 

المبحث الثاني- تقويم المنهج الأثري

1- دراسة السند:

يطلق لفظ السند ويُراد به الطريق الموصل إلى متن الرواية وهو جملة من رواه مأخوذاً من قولهم فلان سند أي: معمد، فسمّي الطريق سنداً لاعتماد العلماء في صحة

________________________________

1ـ سورة الرعد: 6.

ـ(197)ـ

الحديث وضعفه عليه(1).

ولما كان السند هو عمدة التفسير بالمأثور والحديث النبوي عموماً لذا اهتم العلماء به اهتماماً كبيراً حتى وصفوه أنّه من الدين فقالوا: «الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»(2)، وعليه فإن الخطوة الأُولى في تقويم هذا المنهج هي ضرورة دراسة السند، وقد تكون معرفة السند من أصعب علوم الحديث، وربما لا تتوافر بسهولة إلاّ لنخبة من خيرة العلماء الماهرين بهذا الفن، فربّ راوٍ ضعيف قد وثق عند آخرين، وربّ مجروح عند قوم ممدوح عند غيرهم، وهذا لا يعنى أن العلماء لم يهتموا بدراسة طرق الرواية بل على العكس حيث بيّنوا الكثير من أحوال الرواة، وفيما يلي نضرب أمثلة لبعض الرواة وما قيل في حقهم:

1ـ الضحاك بن مزاحم الهلالي(ت 102 أو 105 هـ) روى التفسير عن ابن عباس وهو لم يلقه، وقالوا في جميع ما روى نظر إنّما اشتهر بالتفسير(3)، وهذا القول يستدعي من المفسّر التأني في روايات الضحاك لأنها غير مقيدة بسماع أو تحديث، لأن طريقه إلى ابن عباس منقطعة.

2ـ إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، قالوا عنه: أنه ضعيف وكذاب وشتّام(4).

3ـ محمد بن السائب الكلبي(ت 146 هـ) الذي يروي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهو ممن اشتهر بالتفسير وقد رضي بعضهم بتفسيره، وطعن عليه آخرون

________________________________

1ـ مقباس الهداية: 5، المامقاني، وتوجيه النظر: 25، الجزائري.

2ـ نسب هذا القول لابن المبارك في معرفة علوم الحديث للحاكم: 6، الالماع إلى معرفة أُصول الرواية وتقييد السماع للقاضي غياض: 194. الإتقان 4: 239، السيوطي، دائرة المعارف الإسلاميّة 5: 350.

3ـ الإتقان 4: 238، السيوطي، ودائرة المعارف الإسلاميّة 5: 350.

4ـ الإتقان 4: 239، السيوطي، ودائرة المعارف الإسلاميّة 5: 350.

ـ(198)ـ

ورموه بالوضع.

4ـ مقاتل بن سليمان(ت 150 هـ) روى عن مجاهد وهو لم يسمع منه، وروى عن الضحاك ولم يسمع منه شيئاً، فقد مات الضحاك قبل أن يولد مقاتل بأربع سنين، وكذبوه وضعفوه، ومن يستحسن تفسيره يقول: ما أحسن تفسيره لو كان ثقة، وقيل أنه كان يأخذ عن اليهود علم الكتاب.

5ـ محمد بن مروان السدي الصغير الذي يروي عن ابن الكلبي، قالوا: إنه يضع الحديث وذاهب الحديث متروك وإذا كانت رواية السدي عن الكلبي عن ابن صالح عن ابن عباس فهي سلسلة الكذب(1) ضعف الطوسي في تفسيره أبا صالح والسدي ومقاتلاً(2).

2- الوضع في التفسير:

اتجه الوضاعون نحو التفسير بالمأثور دون غيره لعلمهم أن الرواية الموضوعة والملفق لها سندٌ ما، ولاسيما إذا كان الموضوع عليه هو النبي صلى الله عليه وآله، أو أحد الأئمة من أهل بيته عليهم السلام، أو كبار الصحابة، فإن تلك الرواية تكسب ثقة الناس بها وتلقى من الرواج ما لم يلقه غير المأثور لأن مثل هذا التمويه لا يمكن تعلقه بغير الأثر كاللغة أو العقل، أما في عالم الرواية فلا يعدو الأمر سوى انتحال أسانيد صحيحة يدس الواضع من خلالها ما يريد إثباته من أراجيف.

وقد وجد في تاريخ الحديث والتفسير فرق روّجت لآرائها، وتُعصب لأهوائها فدست في كتب الحديث والتفسير ما يعبر عن خبثها وأغراضها وأهدافها.

ولما كان الوضع بمعناه هو الكذب الصريح والاختلاف على الله ورسوله بأنه أراد

________________________________

1ـ الإتقان 4: 239، السيوطي.

2ـ التبيان 1: 6، الطوسي.

ـ(199)ـ

كذا، فلا يخفى على المفسر مدى ضرر هذه الموضوعات في تفسير القرآن الكريم، لهذا نبّه العلماء على كثير من الروايات الموضوعة، وشخّصوا الكثير من الوضاعين، سمّوهم بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع، وقد ذكر السيوطي أن أكثر الوضاعين ضرراً هم قوم ينسبون إلى الزهد والورع وضعوا الأحاديث احتساباً للأجر والثواب من عند الله تعالى بزعمهم الفاسد، فقبلت موضوعاتهم لثقة الناس بهم وركونهم إليهم نظراً لما نُبسوا إليه من الزهد والصلاح(1)، وقد كان من حجّة هؤلاء أنهم استدلوا بما روي في بعض طرق الحديث «من كذب عليّ متعمداً ليضل به الناس» وحمل بعضهم حديث: «من كذّب عليّ» أي قال: انه شاعر أو مجنون، وقال بعضهم: «إنّما نكذب لـه لا عليه»(2) ويروى أن بعضهم قد جوّز وضع الحديث في باب الترغيب والترهيب(3).

وأمثلة الوضع كثيرة في التفسير، منها ما جاء عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم الذي كان يقال لـه: نوح الجامع، قال ابن حبان: «جمع كلّ شيء إلاّ الصدق»(4) وروى ابن الصلاح أنه قيل لنوح هذا: «من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة ؟ فقال أني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغاري محمد بن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة» ونظراً لكثرة الوضع على ابن عباس في التفسير، قال الشافعي: «لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلاّ شبيه بمائة حديث»، عن أبي صالح عن ابن عباس، وقالوا: «فإذا انضم إلى ذلك محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب»(5).

________________________________

1ـ تدريب الراوي 1: 281- 282، السيوطي.

2ـ تدريب الراوي 1: 283، السيوطي.

3ـ علوم الحديث: 90، ابن الصلاح

4ـ تدريب الراوي 1: 282، السيوطي.

5ـ الإتقان 4: 239، السيوطي.

ـ(200)ـ

ومنه أيضاً الحديث المروي عن اُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله في فضل القرآن سورة بعد أُخرى، وقد أخطأ من ذكره من المفسرين: كالثعلبي، والواحدي، والزمخشري والبيضاوي(1). قال ابن الصلاح عن حديث اُبيّ المذكور: «بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه، وأن أثر الوضع لبيّن عليه، ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم»(2)، وقال عنه ابن تيمية بعد أن أشار إلى كثرة هذه الموضوعات في التفسير: «فإنه موضوع باتفاق أهل العلم»(3)، وذكر الخطيب البغدادي أن أشهر كتب التفسير كتابان: أحدهما تفسير الكلبي، والآخر تفسير مقاتل بن سليمان، ثمّ قال: «وقد قال أحمد في تفسير الكلبي: من أوّله إلى آخره كذب لا يحل النظر فيه»(4)، أما مقاتل فقد ضعفوه في نفسه وقيل أنه يروي أخباراً عن أهل الكتاب(5)، وقد تجنب الطوسي الرواية عنه وضعفه في مقدمة تفسيره(6).

ومن أمثلته أيضاً ما رواه ابن جرير في حديث طويل، عن حذيفة بن اليمان، عن رسول الله صلى الله عليه وآله(7)، فقد علّق عليه ابن كثير بقوله: «وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثاً أسنده عن حذيفة مرفوعاً مطوّلاً، وهو حديث موضوع لا محالة لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث، والعجب كلّ العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته»(8)؟

وكما ابتلي الصحابة بوضع الحديث ابتلي الأئمة من أهل البيت عليهم السلام بجماعة الكذابين والغلاة الذين بذلوا أقصى جهدهم في وضع الأحاديث ونسبتها إليهم عليهم السلام،

________________________________

1ـ تدريب الراوي 1: 289، السيوطي.

2ـ علوم الحديث: 90، ابن الصلاح.

3ـ مقدمة في أُصول التفسير: 76، ابن تيمية.

4ـ تذكرة الموضوعات: 82، محمد بن طاهر الهندي.

5ـ الإتقان 4: 238- 239، السيوطي، ودائرة المعارف الإسلاميّة 5: 351.

6ـ التبيان 1: 6، الطوسي.

7ـ جامع البيان 15: 17، الطبري.

8ـ تفسير القرآن العظيم 3: 225، ابن كثير.

ـ(201)ـ

فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسُنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد- لعنه الله- قد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدِّث بها أبي، فاتقوا الله، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى، وسنّة نبينا صلى الله عليه وآله»(1).

وقد أنكر الإمام الرضا عليه السلام أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبدالله الصادق عليه السلام، وقال: «إن أبا الخطاب كذب على أبي عبدالله عليه السلام، لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله عليه السلام»(2).

ونتيجة لما تقدم فقد تعرّض التفسير بالمأثور إلى جملة من الانتقادات، فقد جاء عن أحمد بن حنبل(ت 241 هـ): «ثلاثة كتب ليس لها أُصول: المغازي والملاحم والتفسير، قال الخطيب هذا محمول على كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقلها وزيادة القصاص فيها»(3) وأوّله قولـه على أن هذه الكتب ليس لها إسناد، لأن الغالب عليها المراسيل(4).

ومهما يكن من أمر فإن مسألة الوضع في التفسير حاصلة بلا أدنى ريب، وهذا ما يتطلب من المفسّر بالأثر مضاعفة الجهد في تحاشي الروايات الموضوعة وأبعادها عن التفسير.

________________________________

1ـ الرجال: 146- 147، الكشي.

2ـ الرجال: 146- 147، الكشي، وينظر، أصول الكافي 1: 62، للكليني (باب اختلاف الحديث) حيث بيّن فيه الوضع في تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف.

3ـ تذكرة الموضوعات: 82، محمد بن طاهر الهندي.

4ـ مقدمة في أُصول التفسير: 59، ابن تيمية.

ـ(202)ـ

3ـ الإسرائيليات:

اختلف الروايات بشأن الأخذ عن أهل الكتاب، فهي مجوزة تارة، وناهية تارة أُخرى، وآمرة بالسكوت ثالثة، فأما من حيث الروايات المجوّزة لرواية الإسرائيليات فمنها ما روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص (ت 73 هـ) أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»(1)، ومن الروايات الدالة على النهي ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: «والذي نفس محمّد بيده لو أصبح فيكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنكم حظي في الأُمم وأنا حظكم من النبيين»(2)، ومنه أيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله، بأنّه أُتي إليه بكتاب في كتف فقال: «كفى بقوم حمقا، أو ضلالة أن يرغبوا عمّا جاءهم به نبيّهم إلى نبي غير نبيّهم أو كتاب غير كتابهم- فأنزل الله عز وجل-: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾»(3).

ومنه أيضاً ما جاء عن ابن عباس: «كيف تسألونهم عن شيء، وكتاب الله بين أظهركم»؟ وعن ابن مسعود: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، أن تكذبوا الحقّ أو تصدقوا الباطل».

أما الروايات الدالة على عدم تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم، ومنها ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله قولـه: «ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقّاً لم تكذبوهم، وإن كان باطلاً لم تصدقوهم»(4)، كما روي عنه صلى الله عليه وآله، أنه قال: «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل

________________________________

1ـ جامع بيان العلم وفضله 2: 5، ابن عبد البر.

2ـ م.، 2: 52.

3ـ جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر. والآية 51 من سورة العنكبوت.

4ـ جامع بيان العلم وفضله 2: 51، ابن عبد البر.

ـ(203)ـ

إليكم، والهنا وألهكم واحدٌ ونحن لـه مسلمون»(1).

وبغض النظر عن سند هذه الروايات وصحتها، فقد قسّمت الإسرائيليات- كما يبدو- على ضوئها وذلك على ثلاثة أقسام هي:

أقسام الإسرائيليات:

القسم الأول: تجوز روايته وشرطه ان نعلم بصحته ممّا بأيدينا كأن يكون موافقاً للقرآن، وغير معارض بالسنة.

القسم الثاني: لا تجوز روايته لكذبه كأن يكون مخالفاً للقرآن الكريم والسُنّة النبوية، قال أبو زُهرة: «وان المستقرئ لكتب التفسير المشتملة على الإسرائيليات يرى أن أكثر ما دسّ فيها من هذا القبيل»(2).

القسم الثالث: وهو ما كان غير مخالف لنصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ولكنه في جملته أخبار تحتمل الصدق والكذب ولا نعلم صدقها من كذبها، مثل أسماء أهل الكهف، أولون كلبهم، ووصف عصا موسى عليه السلام، فهذا القسم مسكوت عنه(3).

مناقشة وتقويم:

قد لا يكون وراء هذا التقييم فائدة كبيرة تخدم القرآن الكريم في تفسيره وقد يكون العكس هو الصحيح، فما دامت الأقسام الثلاثة مصدرها واحد وهم أهل الكتاب، فإذا احتمل في بعضهم الصدق وهو قليل، فإنّه من المؤكد أن أكثرهم من الكاذبين الحاقدين على الإسلام والمسلمين والذين لا يفقهون ممّا أمرهم الله عز وجل شيئاً، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(4) يزاد

________________________________

1ـ م.، 2: 52.

2ـ المعجزة الكبرى: 505، أبو زهرة.

3ـ تراجع هذه الأقسام الثلاثة في: مقدمة في أُصول التفسير، ابن تيمية: 100 وأمثلتها في كتاب الإسرائيليات، رمزي نعناعة: 84 وما بعدها.

4ـ سورة الجمعة: 5

 

ـ(204)ـ

على ذلك أن أقطاب الإسرائيليات مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبدالله بن سلام، وأضرابهم، وإن اطمأن إليهم بعض المفسِّرين وروى عنهم، إلاّ أن الصفة الغالبة لتلك المرويات هي ابتعادها عن العقل ومحاكاتها الخيال القصصي ممّا يقضي بعدها عن أجواء القرآن العظيم، فقد روى الطبري(ت 310 هـ) عن تكذيب كعب أنه: «جاء رجل إلى عبدالله، فقال: من أين جئت ؟ قال من الشام، قال: من لقيت ؟ قال: لقيت كعباً، فقال: ما حدّثك كعب ؟ قال: حدّثني أن السماوات تدور على منكب مالك، قال: فصدقته أم كذبته ؟ قال: ما صدقته ولا كذبته، قال: لوددت انك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها، وكذب كعب ان الله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾»(1).

ثمّ قال: «ما تنقّلت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه، ثمّ قال ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(2). كفى بها زولاً أن تدور»(3). كما نقد ابن كثير كعب الأحبار بقولـه: «انه يقع منه الكذب لغة من غير قصد، لأنه يحدث عن صحف وهو يحسن بها الظن وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة، لأنّهم لم يكن في ملتهم حفّاظ متقنون كهذه الأُمة العظيمة، ومع ذلك وقرب العهد وضعت أحاديث في هذه الأُمة لا يعلمها إلاّ الله عز وجل، ومن منحه الله تعالى علماً بذلك، كلّ بحسبه، ولله الحمد والمنّة»(4). وجاء في تفسير المنار عن كعب الأحبار أنه: «أدخل على المسلمين شيئاً كثيراً من الإسرائيليات الباطلة المخترعة، وخفي على كثير من المحدّثين كذبه ودجله لتعبده»(5). ومثل ذلك قال عن وهب بن منبه أيضاً(6).

________________________________

1ـ سورة فاطر: 41.

2ـ سورة فاطر: 41.

3ـ جامع البيان 22: 145، الطبري.

4ـ تفسير القرآن العظيم 5: 330، ابن كثير.

5ـ تفسير المنار 8: 449، رشيد رضا.

6ـ م.، 1: 9.

ـ(205)ـ

ولعل توثيق هؤلاء والدفاع عنهم كما هو عند الذهبي(1) منشؤه البناء على اطمئنان بعض الصحابة للنقل عنهم وتأثرهم بمثل تلك الروايات الإسرائيلية كعبدالله بن عباس وأبي هريرة فرووها عن علماء اليهود ممن يثقون به، وتلجئهم الحاجة إلى الاستعانة به، فيسألونه عمّا لم يرد لـه تفسير من القرآن أو السنّة فيجيب «بما لم ينزل الله به سلطاناً فيحرّف الكلم عن مواضعه ولا يبلغ الحقّ نصابه»(2) وربما تكون الإسرائيليات في تفسيره التي أكد وجودها أكثر الباحثين(3) هي أقل منها في تفسير غيره من الصحابة وبهذا لا يمكن نفيها عن تفسيره كما ادّعاه بعضهم(4)، وإذا صحّ هذا الافتراض فيمكن دفعه على أساس أن هذه الإسرائيليات غير متعلقة بالأحكام الفرعية الشرعية التي يمكن تركها بحال إذ هي غالباً ما تدور على تعيين أسماء وأمكنة وبقاع لم يفصح عنها القرآن الكريم ولم تبينها السنّة حتى عادت كالأسرار التي لا تعرف إلاّ من الكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيل، وقد كان بعض الصحابة يتشوقون إلى معرفة تلك الأسرار وإن كان مصدرها أهل الكتاب، قال ابن خلدون: «إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى»(5)، وقد جُعل ذلك من الأسباب التي أدّت إلى كون الآثار المنقولة عن السلف تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود كما هو واقع الحال في كثرة الروايات

________________________________

1ـ التفسير والمفسرون، الذهبي: 184 وما بعدها.

2ـ المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم: 55، الصغير.

3ـ مناهج في التفسير: 37، الصاوي الجويني، وقصة التفسير: 28، الشرباصي، ومذاهب التفسير الإسلامي: 85، جولدزيهر، وتاريخ الأدب العربي 4: 7، كارل بروكلمان، والتفسير والمفسرون 1: 73، الذهبي.

4ـ مثل الدكتور عبد الكريم عبد الجليل في كتابه لغة القرآن الكريم: 441.

5ـ المقدمة: 279، ابن خلدون.

ـ(206)ـ

الإسرائيليات في أشهر كتب التفسير بالمأثور.

والحق ان هذه الروايات الإسرائيلية في التفسير بالمأثور قد شوّهت بعض معالمه ولا يتحمل مسؤوليتها أهل الكتاب وحدهم ككعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام وغيرهم، بل يشاركهم في هذه المسؤولية المدونون لها من المفسّرين وان خرجوا عن عهدتها بذكر سندها، لأنه يفترض فيهم تمييز الصحيح من المكذوب من تلك الروايات الإسرائيلية، التي أوجد أبو زهو بعضها تسويغاً، فقال: «وليس كلّ ما ينسب إلى كعب ووهب وأضرابهما صحيحاً، فقد اختلق عليهم الوضاعون كثيراً ليروّجوا باطلهم بنسبته إليهم»، وهذا قد يجانب الصواب، لأنّ الواضع بداهة لا يختار لنفاقه إلاّ الشخصيات الرفيعة من ذوي الشهرة الواسعة لكي تلقى أكذوبته صداها في نفوس الناس بنسبتها إليهم.

أما اختيار الواضع لشخصيات مثل كعب ووهب وأضرابهما كي يروّج باطلة بنسبته إليهم- كما يزعم الأُستاذ أبو زهو- فهو ليس لـه صدى في النفوس، ولو كان صحيحاً لهان الخطب، ووفر الكثير من عناء البحث والتنقيب في أسانيد المرويات، ولأزاح عن كاهل العلماء هذا العناء ولاسيما الذين يرون منهم- لو كان أمر الوضع محصوراً بهؤلاء- أن الواضع والموضوع عليه سواء بسواء.

وكان من حقّ العلم على الأستاذين أبي زهو والذهبي- كما سبق عنه توثيقهم- أن يصدعا بالحق ولا يلتفتا إلى توثيق مثل هؤلاء والدفاع عنهم من زاوية ورود مروياتهم في أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى عندهما.

وعلى أية حال فإن حيطة المفسّر بالأثر من الروايات الإسرائيلية وحذره منها ضرورة كبيرة تقتضيها سلامة المنهج الأثري في تفسير القرآن العزيز بغض النظر عن تقسيمها الثلاثي المذكور لاختلاط الحابل بالنابل والسقيم بالصحيح، وهي فوق هذا

ـ(207)ـ

وذلك لا تغني عن السنّة شيئاً، ولا يترك تجنبها خللاً في التفسير.

4ـ رواية الثقة غير المتصلة بالرسول صلى الله عليه وآله:

المقصود من الروايات غير المتصلة هي تلك الروايات التي انقطع سندها ولم يتصل بالرسول صلى الله عليه وآله، ولها صورتان في مصطلح المحدّثين هما: الروايات الموقوفة والمرسلة فالموقوفة ما كان سندها منتهياً إلى أحد الصحابة، والمرسلة إلى أحد التابعين.

أما أحاديث الأئمة من أهل البيت عليهم السلام فإنها من الأحاديث المتصلة بالرسول صلى الله عليه وآله وان كان ظاهر سندها منتهياً إلى الإمام عليه السلام، ولا ينظر إلى قول من عدّها موقوفه أو مرسلة أو منقطعة فإن حديث الإمام، عن أبيه، عن جدّه، عن أجداده الآخرين عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله.

أما أحاديث الصحابة الصادرة عنهم وغير مصرّح برفعها إلى النبي صلى الله عليه وآله فقد اختلف العلماء في هذا النوع من التفسير هل هو بمنزلة المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وآله فيؤخذ به، أو من الموقوف فينظر فيه ؟ فعدّه قسم منهم بمنزلة المرفوع لابتناء تفسيره على مشاهدته الوحي والتنزيل، فيكون رواية عن النبي صلى الله عليه وآله، وعدّه آخرون من الموقوف لأصالة كونه رواية عن النبي صلى الله عليه وآله(1) ففي مستدرك الصحيحين أن تفسير الصحابي الذي شاهد التنزيل لـه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله(2) وفي تدريب الراوي أنه «حديث مسند عند الشيخين البخاري ومسلم»(3) وقد قيّد ذلك بما كان بسبب نزول آية أو نحوه أما غيره فموقوف(4).

________________________________

1ـ مقباس الهداية: 59، المامقاني.

2ـ البرهان 2: 157، الزركشي، وأعلام الموقعين 4: 198، ابن القيم، والإتقان 4: 208، السيوطي، والتبيان في علوم القرآن: 78، الصابوني.

3ـ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي- الشرح: 292، السيوطي.

4ـ علوم الحديث: 45، ابن الصلاح، تدريب الراوي- المتن: 193، السيوطي.

ـ(208)ـ

والحقيقة أن تفسير الصحابي من هذه الناحية لا يعدّ مرفوعاً مطلقاً، فما كان متعلّقاً بسبب نزول آية فيؤخذ به «لأن الصحابي شاهد قرائن الأحوال ومقتضيات المقام ومناسبة الحال نظراً لقرب عهد الصحابة من الرسول صلى الله عليه وآله ودراية الثقات منهم بأسباب النزول مضافاً إلى الفهم العربي المحض الذي تميّزوا به، هذا إذا كان الصحابي ثقة ثبتاً ذا فهم عربي أصيل»(1)، ومن هذا الوجه يكون لتفسيرهم- مالم يعارضه دليل معتبر- حكم المرفوع أما «إطلاق بعضهم ان تفسير الصحابة لـه حكم المرفوع فإطلاق غير جيد، لأن الصحابة اجتهدوا في تفسير القرآن واختلفوا في بعض المسائل والفروع وكان بعضهم يروي الإسرائيليات عن أهل الكتاب»(2). وأما إذا كان التفسير الوارد عن الصحابي غير متعلق بأسباب النزول ولا من حيث اللغة كأن يكون فيه مجال للرأي والاجتهاد فهو من الموقوف الذي اتجه بعض العلماء إلى تضعيفه(3) «لأن للحديث المروي عن رسول الله المنتهي إليه قداسة ليست لحديث سواه ولو كان صحابياً جليلاً»(4).

ولكن لو أُثر عن الصحابة تفسير للقرآن الكريم موقوف عليهم، واتفقوا عليه جميعاً مع عدم وجود المعارض من كتاب أو سُنة أو صحابي آخر، فلا يمكن القول بعد الأخذ به لأنه ليس من المعقول ان يجتمع الجميع- بلا استثناء- على غير الصواب، أما لو اختلفوا في تفسيرهم ووجد المعارض لـه فإن أمكن الجمع بينها فذلك، وإلاّ ينظر إلى دليل كلّ تفسير، ويؤخذ بأقوى الأدلة بعد خضوعها إلى ضوابط الترجيح المعروفة عند العلماء(5)، وله توجيهات أخرى موسّعة لدى الأصوليين ليس هنا محل

________________________________

1ـ المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم: 75، الصغير.

2ـ علوم الحديث ومصطلحه: 209، صبحي الصالح.

3ـ ينظر تضعيف الأحاديث الموقوفة في قواعد التحديث للقاسمي: 111.

4ـ علوم الحديث ومصطلحه: 208، صبحي الصالح.

5ـ البرهان 2: 127، الزركشي، والمعجزة الكبرى: 501، أبو زهرة، ودراسات في أُصول التفسير: 118، محسن عبد الحميد.

ـ(209)ـ

تفصيلها(1). فغاية الأمر، إن مثل تلك الروايات يجب ملاحظتها والتأكد من سلامة متنها من حيث موافقتها للكتاب العزيز والسُنة المشرفة، فربّ رواية موقوفة أو مرسلة معارضة بالأثر الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله هي ممّا ينبغي العدول عنها في استخدام المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم.

وخلاصة القول انه يجب الالتفات في هذا المنهج إلى الجوانب التالية التي يمكن جعلها من الركائز الأساسية لتقويمه وهي:

1ـ سند الروايات التفسيرية ما اتصل منها أو حذف والتأكد من سلامته.

2ـ ما وضعه جهلة الزّهاد من المسلمين، وما دسّه أعداء الإسلام ليشوّهوا به معالم هذا الدين يجب إزاحته عن التفسير بالمأثور.

3ـ الاحتراز من روايات أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

4ـ مراعاة أحكام رواية الثقة غير المتصلة بالرسول والتأكد من سلامتها ومطابقة مضمونها للكتاب والسُنة لاحتمال كونها من الرأي والاجتهاد في مقابلة الأثر.

5ـ تجنب الرواية من غير الثقات مطلقاً سواء كان ذلك من أهل الكتاب أم من المسلمين المطعون فيهم أو الذين لم تثبت وثاقتهم.

6ـ عدم الاعتماد- في هذا المنهج- على طائفة معينة من كتب التفسير بالمأثور لمذهب معين، والنظر في جميعها، لأنّ الحقّ أحق بأن يُتبع بغض النظر عن جهته ومصدره.

7ـ إخضاع المأثور الواصل إلينا للدراسة والنقد وبلا استثناء بما فيه الروايات المرفوعة والموقوفة والمرسلة.

________________________________

1ـ الأحكام 1: 243- 245، الآمدي، وأصول الفقه: 393، الخضري.

ـ(210)ـ

فهرس المصادر والمراجع:

1ـ القرآن الكريم.

2ـ الإتقان في علوم القرآن: جلال الدين عبدالرحمن السيوطي(ت 911 هـ )، تح: محمد أبي الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974 م.

3ـ الإحكام في أُصول الأحكام: سيف الدين الحسن علي بن أبي علي محمد الآمدي(ت 663 هـ)، مؤسسة الحلبي وشركاؤه للنشر والتوزيع، القاهرة 1387 هـ / 1967 م.

4ـ الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير: الدكتور رمزي نعناعة، الناشر: دار القلم والدار البيضاء، ط 1، بيروت 1390 هـ / 1963 م.

5ـ الأُصول العامة للفقه المقارن: محمد تقي الحكيم، ط 1، مطبعة دار الأندلس، بيروت، لبنان، 1383 هـ / 1963 م.

6ـ أُصول الفقه: محمد الخضري بك، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى بمصر، ط 6، 1389 هـ / 1969 م.

7ـ أُصول الفقه: محمد رضا المظفر، ط 2، مطبعة دار النعمان، النجف- 1386 هـ / 1966 م.

8ـ أُصول الكافي: أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني(ت 329 هـ) ط 2، مطبعة الحيدري، طهران- 1381 هـ / 1961 م.

9ـ أعلام الموقعين عن رب العالمين: أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) تح: عبدالرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، مصر- 1389 هـ / 1969 م.

ـ(211)ـ

10ـ البرهان في تفسير القرآن: هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد التوبلي البحراني (ت 1107 هـ أو 1109 هـ)، ط 2، طهران.

11ـ البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد بن عبدالله الزركشي (ت 794 هـ)، تح: محمد أبي الفضل إبراهيم، ط 3، دار الفكر بيروت- 1400 هـ / 1980 م.

12ـ تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان، نقله إلى العربية الدكتور السيد يعقوب بكر والدكتور رمضان عبد التواب، ط 2، دار المعارف، مصر.

13ـ التبيان في تفسير القرآن: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 هـ) تح: احمد حبيب قصير العاملي، النجف 1376 هـ.

14ـ التبيان في علوم القرآن: محمد علي الصابوني، مطبعة دار عمر بن الخطاب الإسكندرية- 1382 هـ / 1962 م.

15ـ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، تح: عبد الوهاب عبد اللطيف، منشورات المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ط 2، 1392 هـ / 1972 م.

16ـ تذكرة الموضوعات: محمد بن طاهر بن علي الهندي الفتني، ط 2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان- 1329 هـ / 1979 م.

17ـ التعريف بالقرآن والحديث: محمد الزفاف، ط 1، القاهرة- 1375 هـ / 1955 م.

18ـ تفسير القرآن الحكيم المشتهر باسم (تفسير المنار): محمد رشيد رضا، ط 4، دار المنار، مصر 1370 هـ / 1954 م.

19ـ تفسير القرآن العظيم: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي المعروف بابن كثير(ت 774 هـ)، دار الأندلس للطباعة والنشر، بيروت.

ـ(212)ـ

20ـ التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي، ط 1، مطبعة دار الكتب الحديثة، القاهرة- 1381 هـ / 1961 م.

21ـ جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله: أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي (ت 463 هـ)، الناشر، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط 2، مطبعة العاصمة القاهرة، 1388 هـ / 1968 م.

22ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري(ت 310 هـ)، ط 3، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر- 1388 هـ / 1968 م.

23ـ الحديث والمحدّثون أو عناية الأُمة الإسلاميّة بالسُنة النبوية: محمد أبو زهو، ط 1، مطبعة مصر، (شركة مساهمة مصرية)- 1378 هـ / 1958 م.

24ـ خبر الواحد حقيقته وحجيته: عدنان علي البكاء، بحث منشور في مجلة كلية الفقه- العدد الثاني 1404 هـ / 1984 م.

25ـ دائرة المعارف الإسلاميّة: إصدار أحمد الشناوي وإبراهيم زكي خورشيد وعبد الحميد يونس وغيرهم (طبعة مصورة)- طهران.

26ـ دراسات في أُصول التفسير: الدكتور محسن عبد الحميد، مطبعة الوطن العربي، بغداد 1979 م / 1980 م.

27ـ الدراية: زين الدين بن علي العاملي الشهيد الثاني (ت 966 هـ) مطبعة النعمان، النجف الأشرف 1379 هـ / 1960 م.

28ـ الرجال: أبو عمر ومحمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي (ت بحدود 340 هـ )، بمبي، الهند- 1317 هـ.

29ـ علم أُصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع الإسلامي: عبد الوهاب خلاف، مطبعة النصر، القاهرة 1366 هـ / 1947 م.

 

ـ(213)ـ

30ـ علوم الحديث ومصطلحه: الدكتور صبحي الصالح، ط 10، دار العلم للملايين، بيروت- 1398 هـ / 1978 م.

31ـ قصة التفسير: الدكتور أحمد الشرباصي، ط 2، دار الجيل بيروت- 1398 هـ / 1978 م.

32ـ قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: محمد جمال الدين القاسمي(ت 1914 م ) تح: محمد بهجة البيطار ط 2.

33ـ لغة القرآن الكريم: الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم، الناشر: مكتبة الرسالة الحديثة، الأردن- 1401 هـ / 1981 م.

34ـ المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم: الدكتور محمد حسين علي الصغير، ط 1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1403 هـ / 1983 م.

35ـ مبادئ الوصول إلى علم الأُصول: أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف المعروف بالعلامة الحلي(ت 648 هـ)، تح: عبد الحسين محمد علي البقال، ط 1، مطبعة الآداب، النجف، 1390 هـ.

36ـ مذاهب التفسير الإسلامي: جولدزيهر، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، ط 3، دار إقرأ، بيروت، 1405 هـ / 1985 م.

37ـ المستصفى من علم الأُصول: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي(وبذيله فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أُصول الفقه)، ط 2، اوفسيت مكتبة المثنى بغداد.

38ـ معاني الأخبار: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق(ت 385 هـ) دار المعرفة للطباعة.

39ـ المعجزة الكبرى القرآن: محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي.

ـ(214)ـ

40ـ مفتاح الوصول إلى علم الأُصول: أحمد كاظم البهادلي، مطبوع على نفقة الجامعة المستنصرية، مكتب الرواد للطباعة، بغداد، 1983 م / 1984 م.

41ـ المقدمة: أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحضرمي المغربي المعروف بابن خلدون(ت 808 هـ) تح: حجر عاصي، منشورات دار الهلال، بيروت، 1406 هـ / 1986 م.

42ـ مقباس الهداية في علم الدراية: عبدالله بن محمد حسن المامقاني، ط 1، المطبعة المرتضوية، النجف الأشرف، 1350 هـ.

43ـ مقدمة في أُصول التفسير: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحنبلي المعروف بابن تيمية(ت 738 هـ) تح: الدكتور عدنان زرزور، دار القرآن الكريم الكويت، ط 1، مطابع دار القلم، بيروت، 1391 هـ / 1971 م.

44ـ المناهج في التفسير: الدكتور مصطفى الصاوي الجويني، الناشر: منشأة المعارف بالإسكندرية، شركة الإسكندرية للطباعة والنشر، مصر.

45ـ الموافقات في أُصول الشريعة: إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي(ت 790 هـ)، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى بمصر، مطبعة الشرق الأدنى.