دراسة تحليلية حول عناصر بقاء السنّة الشريفة

دراسة تحليلية حول عناصر بقاء السنّة الشريفة

 

 

دراسة تحليلية حول عناصر بقاء السنّة الشريفة

 

الشيخ أحمد مبلغي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد حظيت السنّة – بعد الكتاب الكريم – بالبحث والدراسة على أرفع المستويات، وفي اتجاهات شتّى، فنشأت من جرّاء ذلك مكتبة إسلامية عامرة ببحوث السنّة الشريفة، وما زالت الأرضية خصبة والفرصة مؤاتية للبحث عنها في ميادين جديدة لم تطرق بعد، أو لتجديد البحث في ما طرق من الميادين السابقة.

ولقد اخترنا في هذه المقالة إلقاء نظرة تحليلية على قضية بقاء السنّة الشريفة رغم مرور الزمن.

وقد يبدو لأوّل وهلة أنّ البحث عن بقاء السنّة أمر ليس لـه جدوى باعتبار أنّ بقاءها يعدّ شيئاً كان لابدّ من تحققه، حيث إنها تمثّل المصدر الثاني للشريعة الإسلامية.

ونقول لدفع هذا التوهّم إنّ هناك نكتتين تبرزان أهمّية البحث عن بقاء السنّة، وهما:

أوّلاً: إنّ قضية بقاء ونموّ مجموعة فكرية على مدى قرون طويلة ليست أمراً سهلاً حتّى ينظر إليه بعين البساطة، بل هو أمر لافت للنظر ويستحق توجيه البحث إليه ؛ هذا

ـ(352)ـ

بالنسبة إلى مجموعة فكرية محدودة فكيف الأمر بالنسبة إلى السنّة التي شملت جميع ميادين الحياة.

ثانياً: إنّ السنّة لم تكن خلال مسيرتها الطويلة عبر التاريخ بمأمن من المحاولات العدائية التي استهدفت الإطاحة بها أو تضعيفها، ورغم ذلك فإنّها بقيت وترسّخت في أوساط الأُمّة.

وفي ضوء ذلك فلا ينبغي قصر النظر على النتيجة، وهي: بقاء السنّة من دون النظر إلى تلك العناصر التي تظافرت للوصول إلى هذه النتيجة.

ولذا آثرنا أنّ يكون بحثنا مركزاً على كشف ودراسة العناصر التي لعبت هذا الدور.

 

عناصر بقاء السنّة:

يمكن تقسيم العناصر التي أدّت إلى بقاء السنّة ومواصلة طريقها إلى ثلاثة مجموعات:

المجموعة الأولى: ما تمّ بعناية وجعل من البارئ تعالى:

لم تتضمن الآيات القرآنية مقوّمات بقاء السنّة فحسب، بل إنها أعطتها تلك الهوية التي جعلت السنّة تحمل طابع المرجعية في التشريع، وهذا ما يمكن استفادته من الآيات القرآنية وهي على أقسام، أهمها مايلي:

ما يلزم الأُمّة طاعة الرسول غير المشروطة، كقوله تعالى:

﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إنّ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(2).

_______________________________________

1 - سورة الحشر: 7.

2 - سورة النساء: 59.

ـ(353)ـ

يقول الإمام علي عليه السلام في بيان هذه الآية: «ردّه إلى الرسول: أنّ نأخذ بسنّته»(1).

ما يدلّ على أنّ في السنّة كفاية لأن يقتدى بها ؛ كقوله تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(2).

يقول الإمام علي عليه السلام في خطبة لـه: «ولقد كان في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كافٍ لك في الأسوة»(3).

وما يدلّ على أنّ السنّة شارحة ومبيّنة للقرآن قوله تعالى: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(4).

وقولـه تعالى: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(5).

وتتضمّن هذه العناصر الثلاثة مبادئ أساسية للتعامل مع السنّة وهي:

1 - عدم تحكّم الرأي البشري في السنّة: وهذا مستفاد من عنصر لزوم إطاعة الرسول غير المشروطة.

2 - شموليّة السنّة؛ وهذا مستفاد من عنصر كفاية السنّة للاقتداء بها.

3 - عدم الفصل بين الكتاب والسنّة؛ وهذا مستفاد من عنصر شارحيه السنّة للكتاب.

ومن هنا يمكن القول: إنّ هذه العناصر القرآنية الثلاثة التي كرّمت بها السنّة هي الأساس لبقائها، ويؤول إليها جميع ما سنذكره من العناصر.

المجموعة الثانية: ما تمّ بعناية وجعل من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم:

يمكن تقسيم ما قام به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا المجال إلى ما يلي:

_______________________________________

1 - نهج البلاغة الخطبة: 125.

2 - سورة الأحزاب: 21.

3 - نهج البلاغة خطبة: 160.

4 - سورة النحل: 44.

5 - سورة النحل: 64.

ـ(354)ـ

1 - محاولة إعطاء زمام المبادرة بيد السنّة:

لا شكّ أنّ من جملة عوامل القدرة على البقاء والدفاع عن النفس هو امتلاك زمام المبادرة أمام الحركات المعادية، وحيث إنّ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يعلم أنّ سنّته سوف تواجه حركات عدائية وعقبات عديدة في طريقها، فلذا سعى إلى جعل زمام المبادرة بيد السنّة، لكي تتصدّى للمواقف الهجومية عندما تحدث.

ولقد كان لهذه المحاولة النبويّة تأثيرها في تمكين السنّة من البقاء ومواصلة حركتها على مرّ التاريخ، بحيث يمكن القول بأنّه لولا هذه المواقف الصارمة لآل الأمر إلى ضعف السنّة وانحصارها. وفي هذا المجال اتّخذ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عدّة مواقف يمثّل كلّ واحدٍ منها سدّاً بوجه حركة من الحركات المضادّة للسنّة ؛ وأهمّها:

1 - إيجاد التقابل بين السنّة والبدعة مع التحذير الشديد من البدعة.

ولإيضاح هذا الموقف النبوي نشير إلى نكتتين:

الأول: لم يكن في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم للبدعة ظهور بارز كحركة فاعلة في الأُمّة.

الثانية: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد ركّز تركيزاً شديداً على محاربة البدعة والتحذير منها بأساليب شتّى.

وفي ضوء هاتين النكتتين نفهم أنّ تعامل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع البدعة كان يحمل طابعاً هجومياً، وأنّه أراد بذلك أنّ يسبق الزمن قبل استفحال حركة البدع فاستعدّ وأعد، والحقيقة أنّه لولا موقف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا لا نفسح المجال أمام المبتدعين لتوسيع نشاطهم وترويج بدعهم، إذ إنّ هذا الموقف أوجد شعوراً عند الأُمّة بلزوم السعي بالبقاء ضمن نطاق السنّة وإبداء الحساسية تجاه ما يمت إلى البدعة بصلة، ونورد هنا بعض الروايات النبوية حول البدعة ؛ منها قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

ـ(355)ـ

«كلّ بدعة ضلالة»(1).

و«أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة»(2).

و«... فإمام إلى سنّة وإمام إلى بدعة»(3).

و«من تبسّم في وجه المبتدع فقد أعان على هدم دينه»(4).

و«إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم...»(5).

و«أبى الله أنّ يقبل عمل صاحب بدعة».

ومن أساليبه صلّى الله عليه وآله وسلّم في محاربة البدعة ما يلي:

أ – التحذير من الكذب عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم

إنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يعلم بأنّ سنّته الشريفة سوف تشتدّ ضدّها حركة الوضع والكذب، ولذا بادر إلى تنبيه الأُمّة على هذا الخطر العظيم، والروايات في هذا المجال كثيرة نكتفي بذكر واحدة ذكرها الفريقان، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم:«من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار»(6).

ب – التحذير من الإعراض عن السنّة:

لقد تكرّرت وبمناسبات عديدة عبارة ضمن أحاديث النبيّ وهي قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من رغب عن سنّتي - أو منهاجي - فيلس منّي» (7)؛ وجدير بالذكر أنّنا لا نريد ادّعاء أنّ الأعراض عن سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقع في عهده، بل نريد الإشارة إلى أنّ تكرار هذه العبارة لا يتناسب مع حالات الإعراض في زمنه، بل يتناسب مع ما قلنا من أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ينظر

_______________________________________

1 - صحيح مسلم، كتاب الجمعة 43، وسائل الشيعة 6: 511.

2 - البحار 72: 219.

3 - مسند أحمد 2: 158.

4 - سفينة البحار 1: 63.

5 - وسائل الشيعة 6: 508.

6 - نهج البلاغة الخطبة: 210 أصول الكافي 1: 62. صحيح البخاري 1: 38 مسند أحمد بن حنبل 1: 78 - 130.

7 - أصول الكافي 2: 85. مسند أحمد 2: 158.

ـ(356)ـ

في ذلك إلى المستقبل، كما أنّنا لا نريد ادّعاء أنّ كل حالات الإعراض كانت تتمّ عن سوء نيّة، فإنّ الإعراض يضادّ السنّة سواء كان عن سوء نيّة أم لا.

2 - محاولة نشر السنّة على نطاق واسع في الأُمّة ؛ لقد تمثّلت هذه المحاولة في خطوات ثلاث:

الأولى: إلقاء السنّة بين أكبر عدد من الناس، ومن هنا وجدت الأرضية لبروز الأخبار المتواترة عن النبيّ، ومعلوم أنّ مصطلح التواتر في علم الحديث لم يحتل مكانته البارزة إلّا من جرّاء وجود هذه الروايات في السنّة.

الخطوة الثانية: الحثّ على حفظ السنّة ؛ لقد ورد الحث على هذا الأمر في طوائف من الروايات وبأساليب شتّى تشترك جميعها في إبراز هذا المعنى، ونكتفي برواية وردت عند الفريقين في أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من حفظ على أُمّتي أربعين حديثاً من السنّة كنت لـه شافعاً ِ- أو شفيعاً - يوم القيامة»(1).

وهذه الروايات هي التي أوجدت عند المسلمين ظاهرة الحرص على نقل الحديث النبوي بلفظه، وجدير بالذكر أنّ حفظ الأحاديث ليس مقصوراً على الحفظ في الصدور، بل يعمه إلى كلّ ما يكتب أو يلقى أو... حيث إن المراد من حفظها هو حفظها من الزوال والتلف (2)؛ ولعلّ كلمة «على» في الحديث تشير إلى ذلك.

الخطوة الثالثة: تكراره للموارد المهمّة من السنّة؛ ولتوضيح هذه الخطوة النبويّة نشير إلى الأمرين التاليين:

1 - إنّ الناظر إلى السنّة يرى أنّه في كثير من الموارد وردت مجموعة من الروايات حول مضمون واحد، ومن المعلوم أنّه لا يمكن ادّعاء أنّ تكون كلّ هذه الموارد قد نشأت

­_______________________________________

1 - كنز العمال 10: 224. ح 29184، الوسائل 27: 94.

2 - الأربعون حديثاً للمازندراني: 4.

ـ(357)ـ

نتيجة لاختلاف نقل الرواة لألفاظ الروايات، بل كان التعدّد في الروايات في كثير من هذه الموارد ناشئاً من تكرار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لبعض الجوانب من سنّته الشريفة، لاسيّما ونحن نرى اختلاف القيد في بعض الروايات المشتركة في معنى واحد، بحيث لا يمكن تفسيره باختلاف نقل الرواة، وكمثال على ذلك الحديث الوارد للحثّ على حفظ أربعين حديثاً من سنّة الرسول، فقد جعلت نتيجته في بعض الروايات الشفاعة(1)، وفي بعض آخر أنّ يحشر الحافظ لها فقيهاً أو عالماً (2)، وآخر دخول الجنة(3) أو أنّ يحشر الحافظ لها مع الشهداء (4).

2 - لم تكن عناية النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بتكرار بعض جوانب السنّة متمركزة على القول فحسب، بل كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يستخدم أسلوب التكرار في غير السنّة القولية أيضاً بل كان أحياناً للتكرار في السنّة الفعلية دور أقوى.

المجموعة الثالثة: ما تمّ بعناية من أهل البيت عليهم السلام.

لقد كان لأهل البيت عليهم السلام دور كبير وجذري في إبقاء السنّة وإحيائها، وأعدّ النبيّ مقدّمات تصدّيهم لهذا الدور، وبيّن ذلك ضمن أحاديث كثيرة، من أبرزها حديث الثقلين الذي رواه الفريقان متواتراً ؛ ويمكن بيان بعض هذا الدور ضمن ما يلي:

1 - مواصلة موقف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الوضع والبدعة والتأويل الخاطئ ؛ لو ألقينا نظرة إلى كلمات أهل البيت عليهم السلام في هذا الميدان لوجدناها تتّسم بطابع التشدّد والتأكيد، على غرار ما نشاهده من فعل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وإليك بعض النماذج:

سأل رجل الإمام عليّاً عليه السلام عن السنّة والبدعة... فقال عليه السلام أمّا السنّة: فسنّة

_______________________________________

1 - كنز العمال 10: 224.

2 - عوالي اللآلي 1: 95، ح 1

3 - كنز العمال 10: 225.

4 - المصدر نفسه.

ـ(358)ـ

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمّا البدعة: فما خالفها...(1).

قال الإمام علي عليه السلام: ما أُحدثت بدعة إلاّ تّرك بها سنّة(2).

قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: أدنى الشرك أنّ يبتدع الرجل رأياً فيحبّ عليه ويبغض (3).

وقد عبّر الإمام الصادق عليه السلام عن موقف أهل البيت تجاه الحركات المضادّة للسنّة بقوله: «إنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»(4).

2 - محاولة نشر السنّة: لم تكن السبيل معبدّة أمام أهل البيت عليهم السلام في نشر السنّة؛ إذ أنّ السلطات الحاكمة كانت تمنعهم من ذلك وتضيق الخناق عليهم، وقد اقتضى هذا الأمر أنّ يبذل أهل البيت نوعين من الجهود: جهود في نشر السنّة وإحيائها، وأخرى في تهيئة الأرضية المناسبة لذلك.

ومن أبرز مصاديق الجهود التي بذلوها في تهيئة الأرضية لذلك هو تركيزهم الشديد على موقعهم من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتوارثهم لعلمه واحداً بعد آخر.

ونذكر هنا حديثين فقط:

1 - قال الإمام الصادق عليه السلام: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي وحديث جدّي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قول الله عزوجل(5).

_______________________________________

1 - تحف العقول للبحراني 211.

2 - نهج البلاغة: الخطبة 145.

3 - ثواب الأعمال وعقابها 3: 587.

4 - راجع رسالة الوشنوي في حديث الثقلين التي أصدرتها دار التقريب بين المذاهب بمصر.

5 - أصول الكافي 1: 53.

ـ(359)ـ

2 - قال الإمام الرضا عليه السلام: إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذّة بالقذّة(1).

ومن هنا يعلم سرّ تركيز مدرسة أهل البيت على إبراز جانب انتمائهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، الأمر الذي كان يرفضه سلاطين بني أميّة وبني العباس.

وبالرغم من كلّ هذه المحاولات المضادّة فقد تمكنوا من إبراز هذا الجانب، ويمكن رؤية ذلك من خلال ما يحكي لنا التاريخ من أنّ الأكثر ومن جملتهم أئمّة المذاهب والمحدّثون كانوا يخاطبونهم بقولهم: «يا بن رسول الله». وقد كان الإمام الصادق عليه السلام قد وافته الفرصة أكثر من غيره لنشر السنّة وإحيائها.

وقد كان يحدّث عنه آلاف المحدِّثين، وقد آنست آذان الناس كلمة: «قال رسول الله» على لسان الإمام وذلك لكثرة ترديده لهذه العبارة في مختلف لقاءاته مع الناس.

ولم يكن يحدّث عن رسول الله إلاّ ويرى وجهه متغيّراً، بقول مالك متحدّثاً عن الإمام الصادق: إذا قال - أي الإمام عليه السلام - «قال رسول الله» أخضر مرّة واصفرّ أخرى حتّى ينكره من يعرفه.

ويقول عنه كذلك: ما رأيته يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ على الطهارة(2).

هذا التصدّي العظيم لنشر أقوال الرسول الأعظم جعل من الإمام الصادق ملجأً لكلّ من يطلب الوصول إلى حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهذا سفيان يطلب من الإمام الصادق عليه السلام أن يحدّثه بحديث خطبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسجد الخيف، فقال الإمام عليه السلام دعني حتّى أذهب في حاجتي فإنّي قد ركبت فإذا جئت حدّثتك، فقال: أسالك بقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما حدّثتني قال فنزل.. وحدّثه بذلك الحديث (3).

_______________________________________

1 - أصول الكافي 1: 320.

2 - الإمام جعفر الصادق للجندي: 159.

3 - أصول الكافي 1: 403.

ـ(360)ـ

ونرى للإمام الباقر عليه السلام مثل هذه المرجعية في أخذ الحديث، ويمكن استفادة ذلك من الأحداث التي نقلها لنا التاريخ، ومنها ما ذكره أبو زهرة من أنّ أبا حنيفة قال للإمام الباقر عليه السلام اجلس مكانك كما يحقّ لك حتّى أجلس كما يحقّ لي، فإنّ لك حرمة كحرمة جدّك صلّى الله عليه وآله وسلّم في حياته على أصحابه...(1).

المجموعة الرابعة: ما تم بعناية من الأُمّة:

سعت الأُمّة الإسلامية بدورها في إبقاء السنّة ويمكن إبراز هذا السعي من خلال الموارد التالية:

1 - السعي للحفاظ على السنّة.

2 - عدم إخضاع السنّة للآراء.

3 - الحرص على الرجوع إلى السنّة.

4 - محاولة الحصول على الطرق الصحيحة للاستفادة من السنّة.

وفيما يلي نستعرض تفاصيل هذه الموارد مع التعرّض لبعض الجوانب التي يمكن استدراكها منها والتي تمثّل جانباً من الضعف والتقصير.

 

1 - السعي للحفاظ على السنّة:

يتمثّل سعي الأُمّة في هذا الميدان ضمن المحاولات التالية:

الأولى: حفظ السنّة في الصدور ؛ برزت هذه المحاولة عند الأوائل ولاسيّما في زمن الصحابة(2)، حيث إنّ السنّة لم تكن قد أخذت طريقها للتدوين بعد.

المحاولة الثانية: السفر لطلب الحديث ؛ لقد أصبح السفر لطلب الحديث ظاهرة ملموسة عند الأوائل، وكمثال على ذلك ما نقله البيهقي عن عطاء بن أبي رباح قال: خرج

_______________________________________

1 - الإمام الصادق لأبي زهرة: 23.

2 - توثيق السنّة في القرن الثاني الهجري: 28.

ـ(361)ـ

أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يبق أحد سمعه منه غيره، فلمّا قدم الفسطاط أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري – وهو أمير مصر – فخرج إليه فعانقه وقال: دلّوني على عقبة، فأتى عقبة وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب، قال: حديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ستر المؤمن، فقال: نعم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «من ستر مؤمناً ستره الله يوم القيامة»، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة(1).

المحاولة الثالثة: التثبّت في أخذ الحديث وفي التحديث به، وإليك نموذجاً لكلّ منهما.

الأول: قال رجل لابن عباس: مالي لا أراك تسمع لحديثي، أحدّثك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا تسمع ؟! فردّ عليه ابن عباس: إنّا كنّا مرّة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلّا ما نعرف(2).

النموذج الثاني: قال عمرو بن ميمون: اختلفت إلى عبدالله بن مسعود سنةً فما سمعته فيها يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا أنّه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعلاه الكرب حتّى رأيت العرق يتحدّر عن جبينه ثم قال: إنّ شاء الله أمّا فوق ذلك أو قريب من ذلك، وأمّا دون ذاك (3).

المحاولة الرابعة: التشدّد في تطبيق السنّة.

وإليك نموذجاً على ذلك: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنّه أنكر على مروان والي المدينة من قبل معاوية تقديم الخطبة على صلاة العيد، وجذبه من

_______________________________________

1 - نقله صاحب حجّية السنّة عن مفتاح الجنّة للسيوطي: 48.

2 - نقله صاحب توثيق السنّة عن صحيح مسلم بشرح النووي 1: 67 - 68.

3 - فتح الباري 6: 28.

ـ(362)ـ

ثوبه، فجذبه مروان، فارتفع وخطب، فقال أبو سعيد: فقلت لـه: غيّرتم والله. فقال: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم فقلت: ما أعلم. فقال مروان: إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة (1).

تعقيب:

مع كلّ ما ذكرناه ممّا قامت به الأُمّة من محاولات حفظ السنّة فإنّه قد حصلت ثغرات في هذا الميدان لا بدّ من ذكرها:

أولاً: تأخّر تدوين السنّة ؛ من المعلوم أنّ تدوين السنّة لم يبدأ إلاّ في زمن عمر بن عبدالعزيز، أي بعد مرور قرن كامل على وفاة صاحب السنّة الشريفة صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد ترك هذا التأخير أرضيّة لتوسيع وتعميق حركة الوضع من جانب واختفاء بعض الأحاديث من جانب آخر (2).

ثانياً: عدم التصدّي الحازم للوقوف بوجه حركة الوضع ؛ فلو كانت الأُمّة قد تصدت لحركة الوضع أكثر ممّا قامت به لضيّقت الخناق على هذه الحركة الشيطانية.

ثالثاً: تأخّر حركة التوثيق ؛ من المعلوم أنّ العناية بتوثيق الرواة كانت موجودة منذ زمن الصحابة(3)، ولكنّها لم تبرز كحركة فاعلة إلّا في القرن الثاني الهجري (4)، ومن المعلوم كذلك أنّ حركة الوضع كانت قد بدأت في القرن الأول بحيث استطاعت أنّ تمدّ جذورها وتبدي ثمارها والقرن الأول لم ينته بعد(5) ومن هنا يعلم مدى الفجوة الزمنيّة الحاصلة بين حركتي الوضع والتوثيق. ولقد كان لهذه المدّة الزمنية بينهما الأثر الكبير في أنّ لا تتمكّن الحركة التوثيقية في إزالة كلّ رسوبات حركة الوضع وإن تمكّنت من أداء دورها

_______________________________________

1 - نقله صاحب حجّية السنّة عن البخاري: 50.

2 - أضواء على السنّة المحمّدية: 268 - 269.

3 - المصدر نفسه: 63.

4 - توثيق السنّة في القرن الثاني الهجري: 23.

5 - أضواء على السنّة المحمّدية: 118.

ـ(363)ـ

إلى حدّ كبير في هذا الميدان. وخلاصة القول: إنّ هذه الحركات الثلاث أثّرت كلّ منها في الأخرى ؛ فلو أنّ السنّة كانت قد دوّنت مبكّراً لما فسح المجال بهذا المقدار للوضّاعين، ولو إنّ الأُمّة بعد أنّ دخل الوضع في السنّة تصدّت للوضّاعين لما تعمقت حركتهم، ثمّ إنّ حركة التوثيق لو لم تكن تأخّرت بهذا المقدار لكانت السنّة قد محّصت أكثر من هذا، ولما بقي مجال لترسّخ بعض آثار حركة الوضع في التاريخ.

 

2 - عدم إخضاع السنّة للآراء:

لقد كانت الأُمّة تفهم بصورة ارتكازية لزوم جعل السنّة في الصدارة ولزوم الخضوع لها والسعي لكي تكون متبوعة لا أنّ تكون تابعة. ولعلّه لذلك نرى أنّ جلّ القواعد لتمييز الأحاديث الصحيحة عن السقيمة قد تم في مجال توثيق الأسانيد، لا في مجال توثيق متون الأحاديث مباشرة ؛ يقول الإمام الشافعي: «لا لأحدٍ إدخال لم ولا وكيف ولا شيئاً من الرأي على الخبر من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ».

ويقول في موضع آخر: «أبان الله لنا أنّ سنة رسوله فرض علينا بأن ننتهي إليها لا أنّ لنا معها من الأمر شيئاً إلاّ التسليم لها واتباعها، ولا أنّها تعرض على قياس ولا على شيء غيرها وأنّ كلّ ما سواها من قول الآدميّين تبع لها» (1).

تعقيب:

ومع أنّ الفكرة السائدة في أذهان الأُمّة كانت هذه، أي إطلاق الحرّية للسنّة إلّا أنّه حصلت بعض الموارد سلبت فيها الحرّية عن السنّة ولم يفسح لها المجال لكي تتحرّك كما تشاء وتدلي بصوتها ؛ وأبرز هذه الموارد ما يلي:

1 - المجال السياسي ؛ لقد كانت التأويلات غير المستندة إلى أساس سلاحاً بيد

_______________________________________

1 - اختلاف الحديث للشافعي 21: 33.

ـ(364)ـ

السلطة تستخدمه أنّى شاءت وكيف شاءت، ولاسيّما عندما تصطدم مصالحها مع إرادة السنّة الشريفة، وأبرز ما نراه من هذه التأويلات ما كان على يد الأمويين والعباسيين، فجعلوا ملاكهم في ذلك الانتصار على أهل بيت النبوّة، حيث كان أهل البيت يصرّون على التصدّي للوقوف بوجه انحرافاتهم عن السنّة.

2 - التعصّب المذهبي ؛ دفع التعصّب المذهبي - حينما بلغ ذروته - الكثير إلى تأويل ما في السنّة بما يتلاءم مع المذهب، وكمثال على ذلك ما ورد على لسان أحد علماء القرن الرابع حيث يقول: «الأصل أنّ كل آية تخالف قول أصحابنا فإنّها تحمل على النسخ أو على الترجيح، والأولى أنّ تحمل على التأويل من جهة التوفيق»(1).

3 - ما حصل في عهود التقليد ؛ لقد كانت السنّة في عهود التقليد تؤخذ من خلال أقوال فقهاء المذهب ويختلف هذا المورد عن سابقيه بأنّ الحرية فيهما سلبت بصورة مباشرة عن السنّة، بينما هنا تمّ سلب الحرّية منها من خلال سلب العلماء حرّية الاجتهاد عن أنفسهم، وهذا بدوره يبرز عمق وأصالة النظرية القائلة بحرّية باب الاجتهاد، حيث إنّها تعني إعطاء الحرّية إلى السنّة لكي تؤتي ثمارها.

 

3 - رجوع الأُمّة إلى السنّة:

من جملة ما حرصت الأُمّة عليه الرجوع إلى السنّة في فهم القرآن وأخذ ما لم يبيّنه القرآن من الأحكام والعقائد، ويمكن إبراز شدّة تمسّكهم بالرجوع إلى السنّة من خلال ذكر أمور هي:

أوّلاً: إنّ رجوعهم لم يكن مقصوراً على القضايا التي نصّت عليها السنّة، بل كان يرجع إليها حتّى في القضايا التي لم تنصّ عليها السنّة مباشرة، من الأخذ بعمومها

_______________________________________

1 - أصول الكرخي: 84، طبعة مصر.

ـ(365)ـ

والاعتماد على القواعد المستقاة منها.

ثانيا: إذا رأوا تعارضاً بين روايات السنّة فإنهم لا يضربون عنها بل يلجؤون إلى طرق العلاج التي يبقون بها في دائرة السنّة.

ثالثاً: إنهم حاولوا الحصول على النسب القائمة بين السنّة والقرآن من التخصيص والتقييد والنسخ والبيان والتفصيل.

وفي ضوء هذه الأمور يمكننا القول: إنّ بروز الفقه كعلم مستقلّ كان وليداً للسنّة بمعنى أنّ الفقه كان في بداية تكوّنه عبارة عن نتائج ذلك الرجوع إلى السنّة، سواء فيما نصّت عليه أم فيما لم تنص عليه، ولذلك نرى أنّ الفقه في كتب المتقدّمين من السنّة والشيعة كان عبارة عن نقل الروايات وأحيانا التعليق عليها، ويمكن رؤية ذلك من خلال النظر إلى موطّأ مالك أو النهاية للشيخ الطوسي.

 

4 - محاولة معرفة طرق الاستفادة الصحيحة من السنّة:

إنّ تقيّد العلماء بالسنّة جعلهم يدركون الحاجة الماسّة إلى كشف طرق تضمن صحّة الاستفادة من السنّة، فاندفعوا إلى معرفة ذلك، وأثمرت المحاولات الأوّلية لهم عن تكوين مجموعة من مباحث الألفاظ التي هي أساس علم الأصول، ومطالعتنا لتاريخ علم الأصول تهدينا لذلك(1).

 

خاتمة:

من خلال ما سردنا في صفحات هذه المقالة يتبيّن لنا ما للسنّة الشريفة من مكانة مرموقة وأهمّية كبيرة في حياة المسلمين، وأنّها استطاعت رغم العوائق والصعوبات أنّ

_______________________________________

1 - تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام للصدر: 31.

ـ(366)ـ

تحصّن نفسها ومن ثمّ تحصن الأُمّة إذ إنّ الأُمّة استطاعت أنّ تواصل حركتها وتحفظ هويّتها بصفتها أُمّة إسلامية في ضوء هدى السنّة وبركاتها، وقد كان من جملة بركات السنّة الشريفة على الأُمّة تمهيد الأرضية لنشوء صنوف من العلوم الإسلامية، كعلم الحديث والرجال وأصول الفقه والفقه.

وآخر دعوانا أنّ الحمد لله ربّ العالمين.