ضوابط الإفتاء والعوامل المؤثرة فيه

ضوابط الإفتاء والعوامل المؤثرة فيه

ضوابط الإفتاء والعوامل المؤثرة فيه

 

د. محمد وهبي سليمان
أستاذ الفقه الإسلامي في قسم الدراسات العليا
كلية الشريعة والقانون – فرع جامعة أم درمان بدمشق
وكلية الدعوة الإسلامية

  

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

إن الشريعة الإسلامية وهي خاتمة الشرائع التي تحمل الهداية الربانية لجميع البشر، وقد خصها الله تعالى بالعموم والخلود والشمول، فهي رحمة الله للعالمين من كل الأجناس، وفي كل البيئات، ولكل الأعصار، إلى أن تقوم الساعة، وفي كل مجالات الحياة المتنوعة، لهذا أودع الله فيها من الأصول والأحكام ما يجعلها قادرة على الوفاء بحاجات الإنسانية المتجددة على مرور الزمان، واتساع المكان وتطور حاجات الإنسان.
وإنما كانت كذلك بما جعل الله فيها من عوامل السعة والمرونة، وما شرع لعلمائها من حق الاجتهاد فيما ليس فيه دليل قطعي من الأحكام، أما ما كان فيه دليل ظني في ثبوته أو دلالته أو فيهما معاً، أو ما ليس فيه نص ولا دليل، فهو المجال الرحب للاجتهاد. وبهذا تتسع الشريعة لمواجهة كل مستحدث، وتملك القدرة على توجيه كل تطور إلى ما هو أقوم، ومعالجة كل داء جديد بدواء من تعاليم الإسلام نفسه، لا بالتسول من الشرق أو الغرب.
ولا بد أولاً من استعراض نقاط أساسية في الحديث عن الفتوى وشروطها وضوابطها:
1- إن الإنسان مطالبٌ شرعاً بأن تكون تصرفاته موافقة لشريعة الله تعالى، في كلِّ صغيرة وكبيرة، ممّا يتعلَّق بتصرفه الشخصيّ، وتعامله مع نفسه، وما يتعلَّق بتعامله مع الآخرين من أفراد وجماعات، وما يتعلَّق بعبادته لله تعالى، وإذا كان الفقهاء قد قسَّموا الحقوق إلى ما هو حقّ لله تعالى، وحقٌّ للعباد، فقد قرَّروا أنَّه ما من حقّ لله إلا وفيه حقٌّ للعباد؛ لأن الله تعالى ما شرع لنا إلا ما فيه حظّ وسعادة للعباد.
وهذا يعني أنَّ مجال الفتوى واسعٌ جدّاً، سعة ما يمكن أن يصدر عن البشر من تصرفات، وما يتعرضون له من مواقف، فمحاولة حصر الدين في مجال العلاقة مع الله فقط عملٌ غير صالح، يرفضه فقهاء المسلمين وعامتهم، لأنهم يقرؤون في كتاب الله ما يتعلق بكل شؤون الحياة.
نعم، يمكن أن يقال: فلان لا علم له بالموضوع الفلاني، فلا تقبل فتواه فيه، أمّا أن يقال لا علاقة للإسلام بالموضوع الفلاني فهذا خطأ، فالإسلام له أحكام في كلِّ المواضيع يعلمها العلماء، ومنهم المتبحِّر ومنهم المُقِلّ.
2-إنَّ الفتوى هي بيان الحكم الشرعيّ في الوقائع، والحكم الشرعيّ هو حكم الله تعالى، وغير الله ليس له حكم على النّاس إلا بما أعطاه الله تعالى من سلطات، فقد قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ) [يوسف: 12/40] وبناء على هذا فالمفتي عندما يقول: هذا واجب فهو في الحقيقة يقول: إنَّ الله تعالى يقول هذا واجب، وعندما يقول هذا حرام فهو في الحقيقة يقول: إن الله تعالى يقول هذا حرام، وهكذا بقيّة الأحكام التكليفيّة: من مكروه وسنّة ومباح، وكذا الأحكام الوضعيّة: من شرط ومانع وصحة وبطلان .. إلخ، ومن هذه الحقيقة سمّى ابن القيّم – رحمه الله – كتابه المشهور (إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين) ويقصد بالموقعين: المفتين؛ فهم عندما يوقعون الفتوى إنّما يوقعون عن الله عز وجل – والتوقيع: هو ما يكتب على الورقة التي تتضمَّن السؤال، ويسمّى اليوم (مشروحات).
وهذا أمر خطير؛ لأن المفتي إذا لم يكن له دليل معتبرٌ شرعاً انطبق عليه قول الله تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر: 39/60] ولهذا كان الصحابة يتدارؤون الفتوى، وكلّ ما يريد أن يكفيه أخوه أمرها، والذين لم يدركوا هذا المعنى ورأوها منصباً دنيوياً يُطلَب للشهرة تهافتوا عليها، وأفتوا بغير دليل لإرضاء الناس، وكانوا علامة من علامات الساعة التي أخبر عنها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ".. اتخذ النَّاس رؤوساً جهّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا" [رواه البخاري]، وسيُقال لهم يوم القيامة: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 7/28] وترى أحدهم لا يفرق بين منصب الفتوى ومنصب النّبوّة، فيضيق صدره إذا سأله فقيه عن الدليل، وينسى أنّ الذي لا يُسأل عن الدليل هو الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنَّ الله تعالى شهد له فقال: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (*) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 53/3-4].  
وبالمقابل فإنَّ المفتي الذي يعرف حدوده، ويفتي بعلم، ويتبع الدليل هو وارث للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ ومبلِّغ عن الله عزّ وجلّ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين: [رواه البخاري] وإكرامه إجلاله لله عزَّ وجلَّ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنَّ من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي له، وإكرام السلطان المقسط" [رواه أبو داود].
ولا يزال في المسلمين – ولله الحمد – أهل علم بكل معنى الكلمة، جمعوا بين العلم بالدين والخشية لربّ العالمين، وهم البقية التي وعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببقائها إلى قيام الساعة.
3-من المعلوم أن أحوال الناس وطلبهم لمعاشهم لا يسمح لهم بأن يشتغلوا كلهم بالعلوم الشرعية ليعرفوا حكم الله تعالى فيما يتعرضون له، ولو فعلوا ذلك لتعطلت مصالح الناس الدنيويّة، فاقتضت حكمة الله تعالى أن يتخصص بعضهم بمعرفة الأحكام الشرعية لينفع نفسه وغيره، ويتفرغ الآخرون لطلب المعاش، قال الله تعالى: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 9/122] كما أن الناس لا يمكن أن يتعلموا جميعاً الطبّ للمحافظة على صحتهم، بل يتعلمه بعضهم ليداوي نفسه وغيره، وإذا كان لا بدَّ من معرفةٍ أوليّة بقواعد الطبّ العامّ، فلا بدّ من معرفة أوّلية بالحكم الشرعيّ لما يتعرض له الإنسان في حياته اليومية، وهذا ما يسمّونه : فرض العين من العلوم الشرعية، وإليه الإشارة بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "طلب العلم فريضة على كل مسلم" [رواه ابن ماجه والطبراني].
وكما يُحترم الطبيب ويُسلّم له في مجال تخصصه، ويُعد من الجهالة تجاوز تخصصه، وكذا في كلِّ التخصصات فيجب احترام تخصص الفقيه، والتسليم له في مجال تخصصه.
ويجب إعلام المسلمين – بكل طريقة ممكنة – أن من لم يكن متخصصاً بالفقه يجب عليه أن يسأل الفقيه فيما يعرض له، وإلا كان عمله غير مقبول شرعاً وإن وافق الشرع من حيث لا يقصد، لأن الأعمال بالنيات، ويجب البحث عن الفقيه الذي تتوافر فيه الصفات العلمية والمسلكية، التي تدعو إلى الاطمئنان إلى فتواه، كما يُبحث عن الطبيب الذي يُطمأن إلى علاجه، فالمسلم في عمله بأحكام الشريعة: إما مجتهد توافرت فيه شروط الاجتهاد، وإمّا مقلِّد لمجتهد، وغير هذين متَّبع لهواه.
ويجب على الفقهاء أن يتخذوا طريقاً مناسباً للتعريف بأهل العلم، ومنع غير الأكفاء من الفتوى، وتحذير الناس منهم، فقد أفتى السلف من أهل العلم بالحجر على المفتي الماجن المتهاون، ولا يعني هذا التشديد بلا دليل، بل الواجب اتباع الدليل.
4-لقد شاع على ألسنة البعض أنَّ باب الاجتهاد عند أهل السنّة مغلق، بينما بقي مفتوحاً عند غيرهم.
وينبغي أن نوضح للناس أن الاجتهاد درجات، فأعلاها الاجتهاد المطلق: وهو أن يستقلَّ المجتهد باستنباط قواعد علم الأصول، ويبني عليها أحكام الفروع، ويستقل بمعرفة أحكام المسائل الفقهية من مصادرها الأصلية التي ثبتت عنده، وبما أنَّ المصادر الفقهية – المتفق عليها عند أهل السنة – الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فقد شرطوا فيه:
أ-المعرفة التامَّة بالقرآن – قراءة وتفسيراً، وكل ما يتوقف عليه العلم الصحيح بمعنى الكتاب العزيز.
ب-والمعرفة التامَّة بالسنة – رواية ودراية، وكل ما يتوقف عليه معرفة ما صحَّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعرفة المراد منه.
ج-وأن يعرف مسائل الإجماع؛ كيلا يخالف إجماع فقهاء المسلمين؟
د-وأن يعرف القياس وطرقه وضوابطه.
هـ-وأن يعرف اللغة العربية معرفة تمكنه من استنباط الأحكام من النصوص، هذا مع العدالة والتديّن.
ويلي هذه الدرجة، درجة مجتهد المذهب، وهو الذي يبحث في أحكام المسائل وفقاً لقواعد مذهب من المذاهب رآه أرجح من غيره، وهذا أيضاً يشترط فيه معرفة أصول مذهبه الفقهي، ويعرف أدلة مذهبه من الكتاب والسنّة، وغيرهما، ويعرف اللغة العربية معرفة تتيح له فهم معنى نصوص الكتاب والسنة، مع العدالة والاستقامة.
ويلي هذا: الفقيه الذي يجتهد في حكم مسألة أو مسائل، فينظر ما قال الفقهاء في المسألة، ودليل كل منهم، ثم يرجح – بحسب علمه – بين الأقوال.
والذين قالوا بإغلاق بابه هو الاجتهاد المطلق: بمعنى أن لا مزيد على قاله المجتهدون في علم الأصول، فقد مهَّدوا سبله، ووضحوا معالم الاجتهاد، وما على الباحث إلا الاستفادة من ثمرات جهدهم، وكذلك الأدلة التفصيلية للمسائل، بُحثت وجُمعت ورُتبت ونُوقشت، وما على الباحث إلا النظر فيها.
أمّا الاجتهاد في المسائل وفقاً للقواعد المقررة فهذا لم يُغلق بابه، بدليل أن الفقهاء ما زالوا إلى اليوم يُفتون فيما جدَّ من مسائل.
لكن لا بدَّ من توفر العلم فيمن تصدَّى للإفتاء، وأقلَّه: أن يكون متقناً لمذهب من مذاهب أهل السنّة، فقد حذّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فتوى الجاهلين، ولقد اغترَّ البعض بحديث "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد" [رواه البخاري ومسلم] فظنَّ أن الاجتهاد مجرد التفكير ولو من غير توفر شروط الاجتهاد، ونسي أن هذا الحديث في حقّ المؤهل للاجتهاد، وأما غير المؤهل فهو آثم في حكمه، ولو وافق الحقّ، بدليل قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة: رجلٌ علم الحقّ فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحقَّ فجارَ في الحكم فهو في النار" [رواه أبو داود وغيره].
ولقد خاف الفقهاء من أن يتصدّى للفتوى جهّال يغيرون الأحكام لأغراض دنيويّة، فقالوا بإغلاق باب الاجتهاد، وقد نقل عن الشيخ محمد أبو زهرة – رحمهُ الله – يقول ما معناه: "كنت أستغرب القول بإغلاق باب الاجتهاد ثم علمت أنهم قالوا بذلك إشفاقاً على الدين من فتوى الجاهلين، الذين يتقربون إلى السلاطين بفتاويهم، وأنا اليوم أفتي بما أفتى به السلف من إغلاق باب الاجتهاد".
ولقد رأينا في هذه الأيام جُهّالاً فسقة يصدر فتاوى في أمور دينية، بل سمعنا غير مسلمين أصلاً يفتون في مسائل شرعية؟!!
والقول بإغلاق باب الاجتهاد يُراد به اجتهاد خاصّ هو الاجتهاد المطلق، واجتهاد غير المؤهل، أمّا أهل العلم من فقهاء المسلمين فلم تنقطع جهودهم في بيان الأحكام الشرعية فيما جدَّ من مسائل، وما وقع فيه الخلاف من المسائل.
وغير أهل السنّة الذين ادَّعوا استمرارية الاجتهاد عندهم ما زادوا على ما فعله أهل السنة.
ولهذا يجب الحزم في ردّ فتوى الجاهلين، وإجلال العلماء الصالحين، ولا يجوز التواضع الذي يُجَرِّئ الجهلاء على الفتوى في الدين، وبعضهم ما قرأ كتاب فقه كاملاً على أحد الفقهاء المعتبرين، ولا يتقن قراءة القرآن، فضلاً عن بقية شروط الإفتاء.
5-وإذا كان الاجتهاد هو بذل الجهد لمعرفة حكم الله تعالى في الواقعة، فإنَّ الله تعالى جعل أدلةً ترشد إلى حكمه، وهذه الأدلّة بعضها مقدم على بعض كما هو معلوم عند علماء الأصول، وهذه الأدلَّة بعضها متفَق عليه بين أهل السنّة، وبعضها مختلف فيه.
وهذا يترتب عليه أنه لا يقبل حكم اجتهادي إلا إذا كان عليه دليل صحيح في نظر الفقهاء، أمّا ما يقوله البعض استحساناً، أو مراعة للمصلحة، مع وجود دليل معتبر يعارضه، فهو مردود على صاحبه.
والباعث على هذه الملاحظة ما نراه من محاولة البعض استرضاء الناس – على حساب الأحكام الفقهية، والمنهج الصحيح في استنباطها، بحجة تألف الناس، وتقريبهم من الإسلام وتسويق الإسلام بينهم، فقد سمعنا فتاوى تخالف صريح القرآن العظيم، تحت شعار التيسير والتألف.
إن واجب الفقهاء بيان الحكم الشرعي، والحكمة منه حسب المستطاع، وبعد ذلك لا ننسى قول الله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص: 28/56] وقوله تعالى: (وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 12/103].
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" [رواه مسلم].
ويُحكى أنَّ عالماً من بني إسرائيل كان يدعو إلى بدعة، ثم تاب، فأوحى الله إلى نبيِّ زمانه: هب أني قبلت توبتك، فماذا تفعل بمن أضللت من عبادي.
واسترضاء الجماهير بيّن الله تعالى غايته فقال: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام: 6/116] وقال: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 2/120].
ثمّ إن الفتاوى الاسترضائية تُفقد الدين هيبته في نفوس الناس، وتشعرهم بأن الدين عبارة عن آراء أشخاص في زمنٍ معين، وما يصلح لزمن قد لا يصلح لآخر، فيضعف الوازع الديني في نفوس النّاس، والله تعالى يقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة: 5/44]. وكفر إبليس إنما كان لعدم رضاه بحكم من أحكام الله – مع أنّه مؤمن بوجود الله عزّ وجلّ، وبملائكته واليوم الآخر، لكنه لم يؤمن بحاكمية الله عزّ وجلّ.
6-من المعلوم أنَّ كل من توفرت فيه صفات الاجتهاد يحقّ له أن يجتهد، ومنها أن يكون مسلماً عدلاً.
وهذا يعني أنه من الممكن أن يكون في المسألة الواحدة أكثر من حكم اجتهاديّ، والكلّ يرى أنّ هذا حكم الله في المسألة، وهذا واقع الفقه الإسلامي، الذي تتفق مذاهب أهل السنّة فيه على الكثير من القضايا الأساسية العمليّة، وتختلف في قضايا أخرى، وغالب ما فيه الخلاف فرعيّ نظريّ، وهنا يجب مراعاة ما يلي:
أ-التركيز على ما نتفق عليه في مجال التعليم والدعوة؛ كي يشعر المسلمون أنهم أمة واحدة، وحصر الخلافيات في نطاق ضيّق بين أهل الاختصاص.
ب-النظر إلى الخلاف باحترام، إذا كان يقوم على أدلة معتبرة شرعاً، والتعامل معه كحلول متعددة للمشكلة الواحدة، يتبنى المفتي منها ما يراه الراجح من حيث الدليل، فإن تساوت الأدلة عنده راعى الأيسر على المسلمين، أما البحث عن الأسهل مع إغفال تقييم الأدلة فليس صحيحاً، فالاعتبار الأول للدليل.
ج-عدم الطعن بالمفتين إذا كانت الفتوى تتبنى ما قال به مذهب من مذاهب أهل السنّة، أو لها سند شرعي معتبر، ولا بأس بردِّ الفتوى إذا لم يرها المخالف لها سائغة؛ فالحكم على الفتوى وليس على المفتي، أما رمي الآخرين بالضلال والانحراف جملة فهذا لا يجوز.
كما أنّ عدم قبول اجتهاد الآخرين لا يعني انتقاصهم، بل هو مقتضى البحث العلمي الصحيح.
ورحم الله الإمام مالك إذ قال: "ما مِنّا إلا يؤخذ من كلامه ويُردّ عليه، إلا صاحب هذا الضريح، وأشار إلى ضريح النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)".
7-عندما رتب الفقهاء كتبهم بدؤوا بحقوق الله تعالى، وأهمها الصلاة، ومقدمتها الطهارة، وبعدها الزكاة والصوم والحج، وهذه البحوث قد استوفيت تماماً، وقيل فيها كل ما تحتمله الأدلة، وبعض طلاب العلم يبدأ بها، ويحاول أن يتعقب ما قيل فيها، ويرجح بين الأقوال، فسيتنفد طاقته ووقته فيما فرغ منه السابقون، فلا يبقى مجال لبقية بحوث الفقه.
ولعل من المناسب أن نعوِّد الطلاب على الأخذ بمذهب واحد في هذه المسائل؛ لتبقى لديهم طاقة لدراسة بقية أبواب الفقه، فقد رأينا من يُنهي مراحل التعليم الجامعيّ وما قرأ كلّ أبواب الفقه – كما تقدمت الإشارة لذلك.
نعم، قد تدعو الحاجة إلى بحث ما قيل في مسألة؛ ليتبنى المفتي قولاً يفتي به الناس، لكنْ ينبغي ملاحظة أن الكثير من المسائل نظرية، فلا داعٍ لإنفاق الوقت فيها.
8-إنَّ الحكم في أيّ مسألة يحتاج إلى أمرين:
الأول: معرفة حقيقة المسألة، وواقعها، فقد قيل: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
الثاني: معرفة ما يتعلق بها من أدلّة ونصوص.
ومن المعلوم أنّ معرفة حقيقة بعض المسائل تحتاج إلى تخصص دقيق في الطبّ، أو الفلك، أو الكيمياء، أو السياسة، أو الاقتصاد.. إلخ. وقد مضى زمن العلماء الموسوعيين؛ نظراً لتشعب العلوم، واستقرَّ في الأذهان والواقع وجوب التخصص – ضمن العلم الواحد – ببعض فروعه، كالطب,
والواجب هنا الدعوة إلى ما يسمى: الاجتهاد الجماعي، بمعنى أن نرجع في البيان الدقيق للواقع إلى أهل الاختصاص – في موضوع البحث – من أهل العدالة ونبني أحكامنا على معطياتهم، مثل: قضية الإجهاض والاستنساخ، وتولّد الأهلّة، وتركيب بعض الأدوية، والتعامل مع الدول والثروات؛ لأنّ النظرة العامة والمعلومات الإجمالية لا تكفي للحكم على المفردات.
وتظهر الحاجة إلى الاجتهاد الجماعي أيضاً في مجال النظر في الأدلة، فمعرفة قراءات القرآن الكريم، وما تدلُّ عليه من معانٍ يحتاج إلى تخصص، ونقد سند الأحاديث يحتاج إلى تخصص، وقد أصبح التعليم في المعاهد الشرعية يقوم على التخصص، فتركز الدراسة على بعض العلوم الشرعية، ويلمّ بغيرها إلماماً سطحياً، والمفتي يجب أن يكون متمكناً من كلِّ العلوم الشرعية، والعلوم المساعدة، فينبغي أن يُرجَع في معرفة الصحيح من الأحاديث إلى أهل التخصص، وقد كان الفقهاء من السلف يعتمدون تصحيح المحدثين عند الاحتجاج بالحديث، فإنّ الجمع بين علم الحديث والفقه صعب المنال، وقديماً قالوا: نريد أن نجمع بين الفقه والحديث، هيهات لم يكن ذلك إلا لمالك، ونحن نعلم كيف تعقَّب العلماء موطأ الإمام مالك وفقهه – رحمه الله – فدعوى الإحاطة بعلوم الشريعة فيه نظر، والمقصود هنا الإفتاء في مسألة، وليس الاجتهاد المطلق.
وقد رأينا من يُفتي ويدَّعي الاجتهاد، ولا يُتقن النحو، ولا علم الأصول، أو لا يعرف صحيح الحديث من ضعيفه، أو لا يعرف من علوم الكون شيئاً، والاجتهاد الجماعي يحتاج إلى جهة أمينة، تنسق بين الجهود.
9-إنّ المجتهد ابن زمانه، ولا بدّ أن يتأثر به، والجوّ النظيف الذي كان يجتهد فيه السلف قد تبدل، ولا يجوز للمفتي أن يسمح للجوّ المحيط به أن يؤثر في فتواه، لأنَّ الاعتبار للدليل الشرعيّ، وليس للميل الشخصيّ، فالدليل: كتاب وسنة، أو ما آل إليهما، والميل الشخصيّ هو الهوى، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدَىً مِنْ اللَّهِ) [القصص: 28/50] وكم حذّر الله تعالى من اتباع ما تهوى الأنفس، وفرق كبير بين من فعل الحرام وهو يعتقد أنه حرام، وبين من استحلَّ الحرام، وأعرض عن الدليل.
ولعلّ تبدل الزمان أحد الأسباب التي جعلت العلماء يفتون بإغلاق باب الاجتهاد المطلق؛ لأن الذي سيجتهد سيجتهد في جو موبوء، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وعلى سبيل المثال، انظروا ماذا قال السلف – بناء على الدليل – في المعازف، والتصوير، والجهاد، والربا، وماذا يُقال اليوم بناء على الظروف الجديدة، والتأثر بالرغبة والرهبة، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "يأتي على زمان يأكلون فيه الربا، قيل له: الناس كلهم؟ قال: من لم يأكله منهم أصابه من غباره" [رواه ابن ماجه وابن حبان وصححه].
وعلى المجتهد أن يحذر من التأثر بالمجتمع الفاسد، وليُقل عنه ما يقال، فقد أصاب نبيا الله زكريا ويحيى، عليهما السلام، ما أصابهما من أجل فتوى، ولم يغيرا شريعة الله تعالى، ونرى اليوم من يغير الشريعة الإسلامية من غير إكراه.
10-من المعلوم أن كلّ عصر له ما يناسبه في طريقة التأليف، وقد سلك الكثير من الفقهاء في هذا العصر أساليب حديثة في مؤلفاتهم الفقهية؛ لتقريب الفقه الإسلامي إلى أهل عصرنا، فجزاهم الله خيراً، ولكن هنا ملاحظات:
الأولى: أن البعض يُزري بأسلوب السابقين، وهذا لا يجوز؛ لأنَّ السلف كتبوا ما يناسب زمانهم، وهم قدوتنا وأئمتنا في الأخذ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل الواجب الثناء على السلف، فقد شهد لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخير فقال: "خير القرون قرني، ثمّ الذين يَلونهم، ثمّ الذين يلونَهم .." الحديث.. [رواه البخاري].
الثانية: أنّ البعض يختار من أقوال السلف ما يوافق أو يقارب قوانين وأنظمة غير المسلمين، وهذا إقرار بالهزيمة، وتقديم لأنظمة الناس على شريعة الله عزّ وجلّ.
الثالثة: أنّ البعض يذكر في المسألة عدة أقوال ولا يُرجح، وبهذا يترك القارئ أو الطالب حائراً، لا يدري بماذا يأخذ، ويلقي في رُوْع الناس أنّ كل الاحتمالات جائزة في الدين، وكم نسمع من يقول – إذا صعُب عليه الحكم الشرعيّ -: ألا يوجد قول آخر في المسألة؟!
11-لأسباب شتى ، نرى بعض المؤلفين في الفقه يُدخل في المقارنة الفقهية أقوال أهل البدع بحجة أن الكل مسلمون، وهذا فيه ما فيه؛ فإن مصادر الحكم بين أهل السنة وسواهم غير مشتركة، فكيف تصحّ المقارنة في الفروع مع اختلاف الأصول؟ وكيف تُقبل فروع تقوم على أصول غير متفق عليها؟ إنّ جمع كلمة المسلمين واجب، لكنْ لا يجوز أن يكون ذلك على حساب المنهج الفقهيّ الصحيح.
12-إنّ الذي يتولّى أمر الاجتهاد هم المفتون – من رسميين وغير رسميين – وندعو الله تعالى أن يعينهم، ويسددهم، وأودُّ أن ألفت الانتباه إلى أمور:
أ-أنَّ عمل المفتي – في نظر الناس – فتوى، ولذا ينبغي للفقيه أن لا يقع فيما يخالف الدين، وأن يدفع الشبهة عن أفعاله وأقواله، وكلنا يذكر قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لصحابيين رأياه يمشي ليلاً مع زوجته صفية، فأسرعا: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي" ثم قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" [انظر صحيح ابن حبان وصحيح مسلم].
ب-إنّ من احترام الفقيه لتخصصه ولنفسه أن لا يفتي حيث تكون فتواه متممة لمشروع غيره، فإنّ البعض يفعل ما يهواه، ثم يقول: التمسوا لي فتوى.
ج-على الفقيه أن يكون بصيراً بزمانه ومكانه ورجاله؛ كي لا يُستغلَّ فيما هو بعيد عن الدين، ورحم الله الإمام علي فقد قال: "ما كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يقال حضر رجاله، ولا كل ما حضر رجاله حضر زمانه:.
إن دورنا اليوم أن نحافظ على الكتاب والسنة، وأحكام الشريعة الإسلامية، لننقلها إلى جيل قادم سليمة غير محرفة، إلى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده، فترجع الأمة إلى دينها، وترجع إليها نُصرة الله وتوفيقه.
إن الناس يريدون من الفقهاء اليوم ما لم يقدر عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 8/62] والمسلمون يريدون من الفقهاء النهوض بهم دون أن يشدوا أزر العلماء في نصرة الدين.
فلنبدأ بأنفسنا، يحترم بعضنا بعضاً، ويؤازره في الحقّ، وينصحه في السرّ، ويقبل النصيحة إن استبان وجه النصيحة، ويشكره إن لم يستبن، ونتألف الناس، فكل من ليس ضدنا هو معنا، وما أكثر المحبين للدين وأهل الدين، فلو اجتمعت جهود العلماء لاتحد الناس في نصرتهم، ويد الله مع الجماعة.
13-يقال في مناسبات عديدة عن حسن نية أو عن سوء نية إن الخلافات المذهبية سبب تفرق المسلمين.
وهذا الكلام باطل من أصله، بدليل:
أ-أن بعض الأقطار الإسلامية متحدة فقهياً، ومتفرقة سياسياً.
ب-إن الفقهاء قادرون – بفضل الله – على تجاوز الخلافات المذهبية، ففي أيام الخلافة الإسلامية كان يتعايش في ظل الدولة الإسلامية كل أصحاب المذاهب؛ لأن أحكام الإسلام ثلاثة أنواع: عقيدة وعبادات ومعاملات.
والمسلمون متفقون في أصول هذه الأنواع، وأما الفروع:
- فكلّ مسلم يعتقد ما يراه منجياً له عند الله تعالى.
- وكلّ مسلم يعبد الله بما يراه مبرئاً لذمته من حق الله تعالى.
- وأما المعاملات فالكل ملزم بما يقضي به القاضي المسلم؛ فإن حكم الحاكم يرفع الخلاف كما هو معروف.
ولو صدقت النيّات لأمكن تطبيق هذا المبدأ اليوم، في باب العقيدة والعبادة: يترك المسلم وما يراه إن كان مجتهداً أو ما يراه إمامه إن كان مقلداً، وفي المعاملات ونحوها: يضع الفقهاء للمسلمين قانوناً مستمداً من الشريعة الإسلامية فقط يقضي به القضاة، ويُرجع إليه في الخصومات.
إذن لماذا يُطرح هذا الإشكال؟ في ظني أن الذي يطرحه أحد رجلين:
- إما رجل سيئ النية؛ يريد تحميل الفقهاء وزر فرقة المسلمين؛ ليبغضهم المسلمون؛ فإنهم يكرهون كل من فرق كلمتهم.
- وإمّا رجل لا يدري ماذا تبدّل من شأن المسلمين، ويظنّ أنّ هارون الرشيد ما زال على قيد الحياة وهو يتولى الخلافة، ينتظر الفتوى من أبي يوسف، ومن هذا حاله، ماذا يُرجى منه للأمة الإسلامية؟
إن فرقة المسلمين مفروضة عليهم من خارجهم و (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) [النساء: 4/84].
والظن بالعلماء أنهم يدركون هذه الحقائق ولا يخدعهم عن أنفسهم أن يُحمّلوا ما ليس بأيديهم.

القواعد التي على المفتي التزامها اليوم في الفتاوى
يسروا ولا تعسروا:
أولاً – على المفتي تغليب روح التيسير والتخفيف على التشديد والتعسير، وذلك لأمرين:
الأول: أن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج عن العباد، وهذا ما نطق به القرآن، وصرحت به السنة في مناسبات عديدة.
ففي ختام آية الطهارة من سورة المائدة، وما ذكر فيها من تشريع التيمم، يقول تعالى: (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 5/6].
وفي ختام آية الصيام من سورة البقرة، وما ذكر فيها من الترخيص للمريض والمسافر بالإفطار، يقول سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 2/185].
هذا إلى الآيات الأخرى التي حرمت الغلو في الدين، وأنكرت على من حرموا الطيبات، وهي كثيرة.
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)).
ويقول: ((إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)).
ويقول: ((إنما بعثت بحنيفية سمحة)).
وينكر على المغالين في العبادة أو في تحريم الطيبات، ويعلن أن من فعل ذلك فقد رغب عن سنته ((ومن رغب عن سنتي فليس مني)).
ويوجه أصحاب هذه النزعة إلى التوسط والاعتدال، حتى لا يطغى حق على حق. ولهذا قال لبعضهم" ((إن لبدنك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)).
والأمر الثاني: طبيعة عصرنا الذي نعيش فيه، وكيف طغت المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكيف كثرت فيه المغريات بالشر، والمعوقات عن الخير، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال، ومن بين يديه ومن خلفه، تريد أن تقتلعه من جذوره، وتأخذه إلى حيث لا يعود.
وهي تيارات تحركها وتغذيها قوى ضخمة، تمدها بالتمويل والتخطيط والتوجيه، وتسهل لمن اتبعها طريق الشهوات، وربما طريق الوصول إلى المناصب والدرجات.
والفرد المسلم في هذه المجتمعات يعيش في محنة قاسية، بل في معركة دائمة، فقلما يجد من يعينه، وإنما يجد من يعوقه.
وليس معنى هذا أن يلوي المفتي أعناق النصوص رغماً عنها، ليستخرج منها – كرهاً – معاني وأحكاماً تيسر على الناس.
كلا، فالتيسير الذي يجب، هو الذي لا يصادم نصاً ثابتاً محكماً، ولا قاعدة شرعية قاطعة، بل يسير في ضوء النصوص والقواعد والروح العامة للإسلام.

مخاطبة الناس بلغة العصر:
ثانياً – ومن القواعد التي يجب على المفتي التزامها أن يخاطب الناس بلغة عصرهم التي يفهمون، متجنباً وعورة المصطلحات الصعبة، وخشونة الألفاظ الغريبة، متوخياً السهولة والدقة.
وقد جاء عن الإمام علي: ((حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!)).
وقال تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: 14/4]، ولكل عصر لسان أو لغة تميزه وتعبر عن وجهته، فلا بد لمن يريد التحدث إلى الناس في عصرنا أن يفهم لغتهم ويحدثهم بها.
ولا أعني باللغة مجرد ألفاظ يعبر بها قوم عن أغراضهم، بل ما هو أعمق من ذلك، مما يتصل بخصائص التفكير، وطرائق الفهم والإفهام.
ولغة عصرنا تتطلب أشياء، يجب على المفتي أن يراعيها:
(أ) أن يعتمد على مخاطبة العقول بالمنطق، لا على إثارة العواطف بالمبالغات.
(ب) أن يدع التكلف والتقعر في استخدام العبارات والأساليب، وذلك باستخدام اللغة السهلة المأنوسة.
(ج) أن يذكر الحكم مقروناً بحكمته وعلته، مربوطاً بالفلسفة العامة للإسلام، وذلك لأمرين:

الأول: أن هذه هي طريقة القرآن والسنة.
فالقرآن حين يفتي في المحيض – وقد سألوا عنه – يقول: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة: 2/222] فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبين على الحكم – وهو الأذى – مقدمة للحكم نفسه، وهو الاعتزال.
وفي تقسيم الفيء بين الفئات المستحقة له، ومنهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، يذكر الله تعالى الحكمة في ذلك فيقول: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) [الحشر: 59/7] أي حتى لا يكون المال متداولاً بين طبقة الأغنياء وحدهم، ويحرم منه سائر الطبقات. فهذا مصدر الشرور، وهو أبرز خصائص الرأسمالية الطاغية.

الثاني: أن الشاكين والمشككين في عصرنا كثيرون، ولم يعد أغلب الناس يقبلون الحكم دون أن يعرفوا مأخذه ومغزاه، ويعوا حكمته وهدفه، وخاصة فيما لم يكن من التعبدات المحضة.
ولا بد أن نعرف طبيعة عصرنا، وطبيعة الناس فيه، ونزيل الحرج من صدورهم ببيان حكمة الله فيما شرع، وبذلك يتقبلون الحكم راضين منشرحين. فمن كان مرتاباً ذهب ريبه، ومن كان مؤمناً ازداد إيماناً.
ومع هذا لا بد أن نؤكد للناس، أن من حق الله تعالى، أن يكلف عباده ما شاء، بحكم ربوبيته لهم، وعبوديتهم له، فهو وحده له الأمر، كما له الخلق، ولهذا لا بد أن يطيعوه فيما أمر، ويصدقوه فيما أخبر، وإن لم يدركوا علة أمره، أو كنه خبره، وعليهم أن يقولوا في الأول: (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [البقرة: 2/285]، وفي الثاني: (آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل ‌عمران: 3/7].
إن الله لا يأمر بشيء، ولا ينهى عن شيء، إلا لحكمة.
هذه قضية ثابتة جازمة. ولكن لسنا دائماً قادرين على أن نتبين حكمة الله بالتفصيل. وهذا مقتضى الابتلاء الذي قام عليه أمر التكليف، بل أمر الإنسان (إِنّا خَلَقْنا الإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) [الإنسان: 76/2].


ثالثاً – الإعراض عما لا ينفع الناس
ومن القواعد أيضاً ألا يثقل نفسه ولا سائليه إلا بما ينفع الناس، ويحتاجون إليه في واقع حياتهم.
أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدل، أو التعالم والتفاصح، أو امتحان المفتي وتعجيزه، أو الخوض فيما لا يحسنونه، أو إثارة الأحقاد والفتن بين الناس، أو نحو ذلك، فيحب أن نضرب عنها صفحاً، ولا نلقي لها بالاً، لأنها تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني، وتفرق ولا تجمع.

رابعاً: الاعتدال بين المتحللين والمتزمتين
ومن خصائص المنهج الذي يجب على المفتي الالتزام به: التزام روح التوسط دائماً، والاعتدال بين التفريط والإفراط. بين الذين يريدون أن يتحللوا من عرى الأحكام الثابتة بدعوى مسايرة التطور من المتعبدين بكل جديد، وبين الذين يريدون أن يظل كل ما كان على ما كان من الفتاوى والأقاويل والاعتبارات، تقديساً منهم لكل قديم.

عبيد التطور:
أما الأولون فهم لا يريدون أن يبقى شيء على حاله، ولا يستمر وضع كما كان وأن يغيروا كل شيء، بحجة أن العالم يتطور، والحياة تتغير، وهم الذين سخر منهم بعض الأدباء بأنهم يريدون أن يغيروا الدين واللغة والشمس والقمر!
فليس في الإسلام باباوات يمكن أن يتجاوزوا ثوابت الإسلام وأصول الدين، وربما منها ما علم من الدين بالضرورة ويريد من خلال تبرير واقع الناس وتسهيل كل أمر عليهم، وإرضائهم بكل شيء، حيث كان العالم المسلم ولا بد أن يكون كذلك، كان حين ينطق بالحرف، كان الناس يبادرونه باللقط كأنه لؤلؤة فريدة اقتبست صفاءها من صفائه وصدقه وعلمه ووقاره بحق العلماء ورثة الأنبياء.
لكن مع امتداد الأزمنة وتبدل الأحوال وتغير الموازين واستبداد الأهواء، استغل الأعداء الفرصة ليضربوا الإسلام بكل ما لديهم من الوسائل، تارة بإعداد شيوخ دين جدد متشددين متطرفين في بعض الأحيان، وتارة أخرى مفرطين يغيرون مفاهيم هذا الدين ويحرفون نصوصه، وصار هناك مشايخ أو يسمون أنفسهم كذلك كالباباوات والرهبان للكنائس مع تغيير بسيط في العنوان، وباتوا المرجع الأقوى في الفتاوى الجديدة وصار القرآن الكريم وكلام النبوة مجرد ذكريات قديمة لا معنى لها أمام أقوالهم السديدة، وبدأ الانهيار خطوة خطوة، وبدأ شيوخ الدين المحسوبين منه اسمه من غير معنى يصدرون الفتاوى الواحدة تلو الأخرى. وكأن هؤلاء يمشون بنفس الخطوات التي مشت عليها الكنيسة من قبل. نادى الرهبان بتحليل الزواج لهم، وأصدر البابا قراراً بجواز ذلك بعد أكثر من ألفي عام من التحريم، وأقروا زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، وغيرها الكثير، إنه من تسلط رجال الدين من قساوسة ورهبان على الدين باسم الدين والأهواء والمصالح، وبدأت الأمور بالتفلت حتى وصل الأمر أن يذهب الناس إلى الكنيسة بالملابس شبه العارية، ويقول الرهبان في الغرب في قانون الموازنات عندهم أن يأتوا هكذا أفضل من أن لا يأتوا أبداً.
ترى هل يريد هؤلاء أن يصل الإسلام إلى نهاية كهذه؟ وهل سيصل أمر المسلمين إلى هذا الحال بسبب الفتاوى التي تقرع أسماعنا صباح مساء؟
لقد قطع أهل هذا التيار شوطاً كبيراً في هذا الطريق فكثير مما كان حراماً صار عند هؤلاء حلالاً، كيف ذلك؟ الله أعلم.
صرنا مع الفتاوى الجديدة في سباق، ففي كل يوم تأتينا عشرات الفتاوى من قبل هؤلاء تحل الحرام وتحرم الحلال.
وإذا وجد هؤلاء الغرب على نظام، سارعوا لإيجاد الفتوى له في ديننا وصار عملهم تغريب الإسلام.
فكيف لنا أن نستسيغ شيئاً مثل هذا أسموه فتوى؟
فتوى في أمور قطعية جاء بها النص القرآني مثل الربا، أحله بعض هؤلاء استناداً إلى ما أسموه فقه الموازنات، بتغليب المصلحة الدائمة الموهومة على المفسدة الطارئة، فالربا عارض ولكن منفعته دائمة فيصبح حلالاً. هل كذلك تورد الإبل؟ قالوا لا يجوز أن يضحى بالمصلحة الكبيرة من أجل مفسدة صغيرة، معنى هذا مثلاً أن القمار إذا كنت متأكداً من الفوز به أنه حلال. إذا كنت ألعب مع كفار وآخذ هذا المال لأستفيد منه في أمور ديني أفضل لنا من أن يأخذه الكفار ليسلطوه علينا سيفاً بتاراً. إذن ماذا بقي في ديننا من حرام لم يصبح حلال تحت ستار فلسفة كهذه، ربما لم يبق إلا الكفر الصريح، حتى الكفر ربما صار مبرراً في بعض الأحيان عند هؤلاء.
حيث الربا حلال والمصافحة بين الرجل والمرأة حلال وأن تبقى المرأة التي أسلمت مع زوجها النصراني حلال، وإذا رضع رجل من امرأة يصبح ابناً لها مهما كان عمره، والاختلاط حلال وخلع المرأة المسلمة الحجاب لمجاراة النظم الغربية حلال، وأمور أخرى معلوم منها من الدين بالضرورة، أصبحت حلالاً لنا، كيف صارت حلالاً بعد أن كانت حراماً؟ لا نعلم المهم أنها حلال.
وإذا وقف آخر من العلماء الذي لا يحيد عن طريق الصواب، وقف عند حدود الله يحل ما أحل الله، ويحرم ما حرم الله ورسوله، ربما رماه هؤلاء بالتشدد والتعصب والتطرف، وأين اليسر والتيسير؟
حتى لا تصل الأمور إلى هذا الحد بين تسدد وتعصب وتطرف وبين طرف مفرط، وحتى تبقى طائفة من أمة محمد ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله لا بد من رأي وسطي معتدل يفرق بين الثابت والمتغير يتمسك بأصول الدين ويبصر متغيرات الأحوال والأزمان.

المتزمتون في الفتوى
وفي مقابل هؤلاء ((العصريين)) أو ((التقدميين)) الذين يريدون أن يحللوا كل شيء بحجة ((التطور)) وتغير الزمان، ومرونة الشريعة إلخ.. نجد آخرين يريدون أن يحرموا على الناس كل شيء. فأقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلامهم إطلاق كلمة ((حرام)) دون مراعاة لخطورة الكلمة، ودون تقديم الأدلة الشافية من نصوص.
فعمل المرأة حرام، والتلفزيون حرام، والسينما حرام، والتصوير كله حرام، والشركات المساهمة حرام، والجمعيات التعاونية حرام!
والحياة كلها اليوم حرام في حرام.
هذا مع تحذير القرآن والسنة والسلف الصالح من إطلاق كلمة ((الحرام)) إلا ما علم تحريمه جزماً من كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: 10/59].
ويقول: (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذا حَلالٌ وَهَذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) [النحل: 16/116].

خامساً: إعطاء الفتوى حقها من الشرح والإيضاح
فليس محموداً أبداً طريقة بعض العلماء قديماً وحديثاً في جواب السائلين: بأن هذا يجوز وهذا لا يجوز.. وهذا حلال وهذا حرام.. أو حق وباطل، طلباً للاختصار، وعدولاً عن الإطالة، ليفرق بين الفتيا والتصنيف، وإلا لصار المفتي مدرساً.
والحق أن يعتبر المفتي نفسه عند إجابة السائلين مفتياً، ومعلماً، ومصلحاً، وطبيباً، ومرشداً.
وهذا يقتضي أن يبسط بعض الإجابات وأوسعها شرحاً وتحليلاً، حتى يتعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويقتنع المتشكك، ويثبت المتردد، وينهزم المكابر، ويزداد العالم علماً، والمؤمن إيماناً.
يجب أن يشعر الناس تجاه العالم أنه أب لصغيرهم، وأخ لكبيرهم، وصديق لجميعهم، وأنه ليس شرطياً يريد أن يضبطهم متلبسين، ولا ممثل اتهام يطلب لهم أقصى العقوبة، بل هو محام يدافع عنهم وإن كان قاضياً فرحيم يحكم بالعدل يحنو عليهم. يحب أن يكون الفقيه مع سائليه كالطبيب مع مرضاه لا بد أن يثقوا به، ويستريحوا إليه، ويفضوا إليه بذات أنفسهم ومكنون ما في صدورهم.
لتكون كلمة الدين هي البلسم الشافي أو على الأقل المرهم الملطف لجراح الكثيرين من الناس.