عالمية الإسلام

عالمية الإسلام

 

 

عالمية الإسلام

 

الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان - مكة المكرمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن للعالمية الإسلامية مدلولها المكاني، والزماني مدلولها المكاني: كلا ما اتسع له الافق على وجه البسيطة، أما مدلولها الزماني فهو اللامحدودية زماناً.

 

عالمية الإسلام متمثلة في مبادئه، وقيمه المنسجمة مع الفطر السليمة، مبادئ ليست خاصة بأمة دون أخرى، ليست قاصرة على مكان معين، ولا على جيل من البشر.

 

للعالمية الإسلامية مرتكزاتها، واسبابها، وشروطها

 

أما مرتكزاتها وعمودها الفقري فهو عقيدة الوحدانية، وهي خصوصية الباري جل وعلا، ليس للبشر تدخل أو اجتهاد فيما يتصل بها.

 

خصوصية هذه العقيدة الثبات، لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، أما ما يتعلق بشؤون البشر، واستقامة حياتهم فقد تركت الشريعة الإسلامية مساحة واسعة لتدبيرها بما يتلاءم وعصورهم وبيئاتهم في اطار مبادئ وقواعد عامة تحترم كرامة الإنسان، وتصونها من الضياع. دون انغلاق، او انفلات، فهي في هذا المجال مبنية على اعتبار الحكم والعلل التي هي من مدركات العقول، لا تختلف باختلاف الأمم والعوائد، وقد أجمع علماء الإسلام في سائر العصور ـ إلا الذين لا يعتد بمخالفتهم ـ على أن علماء الملة مأمورون بـ (الاعتبار) في أحكام الشريعة، وذلك هو اعتبار المقاصد والمآلات في استنباط الأحكام، وجعلوا من أدلة ذلك قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وقوله: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)، وهما دليلان خطابيان، وإننا نتمسك في هذا بالإجماع، وعمل الصحابة، وعلماء الأمة في سائر العصور([1]).

فلماذا عالمية الشريعة الإسلامية؟

اقتضت حكمة المولى جل وعلا ان يتدرج بخلقه في التشريع رحمة بهم، تدرجهم في حياتهم المعيشية ووجودهم الحضاري على سطح المعمورة. استخلف الله الإنسان في أرضه، فهيأ له كل الأسباب التي تضمن له الحياة وتطويرها لما يصلح حاله، فأمده بكل أسبابها المادية، وهيأ له أسباب الرقي الروحي الذي يميزه عن سائر المخلوقات فأرسل الرسل، وبعث الأنبياء. تتابع إرسال الرسل الى أممهم عبر عصور وأجيال عديدة، وأنبياء هم المثال والقدوة في استقامة العقيدة والسلوك، (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)([2]).

 

عمت دعوة الله جميع الخلق، وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة فهو ممن بلغته، لأن آدم عليه السلام بعث لبنيه، ثم لم تنقطع النذارة الى وقت سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)…([3]).

 عبر قرون من السنين، وأجيال متعددة من الأمم تدرج بهم المولى جل وعلا في مدارج التشريع (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم)([4]).

 

 

 

الناس كل الناس منذ بدء الخليقة أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل.. ([5]).

 

أخذت الإنسانية تستكمل شهودها الحضاري مادة، وروحاً على سطح المعمورة، جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، توافرت لها الأسباب والشروط لأن تكون امة واحدة، تحت راية دين واحد.

 

سار الجانبان المادي والروحي سيراً متوازناً، فلم يبق للشرائع السماوية لأن تستوفي رسالتها، ويكتمل بناؤها التشريعي إلا موضع لبنة فيها كما قال المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يرويه عنه الصحابي الجليل أبو هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال:

 

(إن مثلي ومثل الأنبياء من قبل كمثل رجل بنى بيتاً فحسنه، وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون منه، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) رواه الإمام البخاري في صحيحه([6])، فمن ثم أصبحت رسالته صلى الله وسلم خاتمة الرسالات، وشريعته خاتمة الشرائع.

 

لم يكن سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نكرة لدى الأمم السابقة، وبخاصة أهل الكتاب: أتباع موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام كما لم تكن رسالته مجهولة منهم، بل كان أمل الأنبياء والرسل السابقين أن يلقوه، ويكونوا من أتباعه، يؤمنون به، يكونون من أنصاره، ينضوون تحت رايته، (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) ([7]).

 

إن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يعرف أحدهم ولده، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا.

 

قد اعترف بهذا المنصفون منهم، وأكدوه بما لا لبس فيه (روي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال لعبد الله بن سلام:

 

إن الله أنزل على نبيه بمكة أنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم، فكيف هذه المعرفة؟

 

فقال عبدالله بن سلام: نعم أعرفه بالصفة التي وصفه الله في التوراة فلا أشك فيه، وأما ابني فلا أدري ما أحدثته أمه) ([8]).

 

بل قد أخذ العهد على الأنبياء والمرسلين السابقين الإيمان برسالته، والانضواء تحت لواء شريعته لو غشيهم زمانه:

 

(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما اتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الخاسرون) ([9])، ويقرر الإسلام حقيقة مهمة هي: أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من جملة رسالته أنه يكشف ما يخفيه رجال دينهم، ويبين ويفصل في كثير من اختلافاتهم التي ظلوا يخوضون فيها من قرون متطاولة، ولا يزيدون إلا خلافاً:

 

(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب، ويعفوا عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنه ويهديهم الى صراط مستقيم) ([10]).

 

فمن ثم جاء الإعلان الإلهي:

 

(إن الدين عند الله الإسلام) ([11])، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لا سبيل الى الإيمان إلا من طريقه، وما بلغه لأمته من شريعته، فمن لقي الله بعد بعثة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بدين غير شريعته فليس بمتقبل).

 

(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون * قل آمنا بالله وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) ([12]).

 

أصبح توحيد العالم تحت دين واحد، شعاره الوحدانية، في ظل رسالة واحدة قدراً كونياً، وضرورة تاريخية، تقدمت أسبابه، وتهيأت شروطه.

 

وصلت الإنسانية مرحلتها الأخيرة بالكمال والتمام بالإعلان الإلهي

 

(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين * وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ([13])، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) الرحمة المهداة، من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لمن لم يتبعه إذ عوفي مما كان يبتلي به سائر الأمم من الخسف، والمسخ، والقذف.

 

شعاره التوحيد الخالص لباري الكون وخالقه، مهمته إعادة الأمور الى نصابها عبادة، وعبودية، إعادة الكرامة الإنسانية كما أرادها المولى جل جلاله، ومن أسمى غاياته (صلى الله عليه وآله وسلم) توحيد الأمة في إطار تلك المعاني والمبادئ.

 

دعوة تحمل الخير كل الخير للإنسانية، والسعادة كل السعادة، دعوة تحقق عصمة الدماء، والأموال، والأعراض.

 

منهج الدعوة الى عالمية الشريعة الإسلامية

وضع الإسلام قواعد المنهج الصحيح للدعوة، والأسلوب الأمثل لذيوعها ونشرها بين أمم الأرض، قدم نماذج عملية تطبيقية متمثلة في سلوكه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ضمن قاعدة عامة هي الأخذ بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بما هو أحسن، على كافة المستويات من دون تخصيص: (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) ([14]).

 

إن الإسلام يقيم في دعوته أهمية كبيرة للكلمة الطيبة في سبيل الدعوة له، ونبذ الخشونة في اللفظ، فضلاً عن العمل (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) ([15]).

 

ويثني ثناء عاطراً على من جعل الكلمة الطيبة منهجه في التعامل مع الآخرين، وبخاصة في الدعوة الى الله، قال تعالى:

 

(وهدوا الى الطيب من القول وهدوا الى صراط الحميد) ([16]).

 

(وحتى مع الطغاة العتاة قد تكون الكلمة الطيبة أوقع وأنفع بدلاً عن المبادرة بالشدة والغلظة، والله سبحانه وتعالى خاطب سيدنا موسى وأخاه هارون بقوله:

 

(إذهبا الى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) رغم أن فرعون كان طاغية وداعية سوء …([17]).

 

هذا هو الأساس في الدعوة الى دين الله سواء على مستوى الفرد، او الجماعة، او الدول.

 

سلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتحقيق هذه الأهداف النبيلة كل وسائل الإقناع والترغيب، وتأليف القلوب نابذاً القسر، والإكراه (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).

 

هكذا يجد المتتبع للدعوة الإسلامية من حين بدايتها بمكة المكرمة، ويوم كان المسلمون قلة في العدد، وضعفاً في الإمكانات الى أن قويت شوكتهم، وقامت دولتهم، السلام شعارهم، والدفع بما هو أحسن مبدأ راسخ في شريعتهم، فهو قيمة عملية في تكوين مجتمعاتهم، هم سلم لمن سالمهم، حرب على من نصب العداء لدينهم وأمتهم.

 

لو أريد أن يكون للرسول صلوات الله وسلامه عليه عنوان وصفي يتطابق ومجريات سيرة حياته وسلوكه في الدعوة الى الله عز وجل لكان أحق، وأوجب أن يدعى:

 

(رسول الرحمة)، فقد أرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) (رحمة للعالمين) بنص القرآن الكريم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ([18])، والدين الإسلامي أحق، وأوجب بأن يدعى (دين الرحمة).

 

صفة الرحمة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أخص الصفات وأبرز الكمالات.

 

ثبت هذا من خلال اقواله وافعاله في أكثر المواقف حرجاً وشدة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، من ذلك موقفه (صلى الله عليه وآله وسلم) من ثقيف لما حاصرهم بالطائف قال له اصحابه:

 

يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع عليهم، فقال:

 

اللهم اهد ثقيف، وائت بهم… برغم أنهم حاربوه، وقاتلوه، وقتلوا جماعة من أصحابه، وقتلوا رسول رسوله الذي أرسله اليهم يدعوهم الى الله، ومع هذا كله دعا لهم، ولم يدع عليهم، وهذا من كمال رأفته، ورحمته ونصيحته صلوات الله وسلامه عليه:

 

رحمته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست خاصة بالمؤمنين، وإنما هي عامة بالمؤمنين وغير المؤمنين، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) حريص على صلاح أمته ديناً وديناً، سواء من استجاب لدعوته، أم من لم يستجب لها، هذا الذي جاء تقريره، وتأكيده في آيات التنزيل:

 

(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) الآية([19]).

 

حريص على انقاذ الجميع من الضلال، ومن سوء المصير، حريص كل الحرص على صلاح أمته واستصلاحهم، وإبعادهم عن حدوث ضرر بهم في الحياة الدنيا والآخرة، يعز عليه مشقتهم، وإعناتهم، مبالغ في رحمته وشفقته عليهم، شملت رحمته وشفقته الإنسان، والحيوان في عبارات صريحة:

 

(الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، (في كل كبد حرى أجر)، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة المستفيضة يؤيدها سلوك، وتعامل صريح، ولأجل مثل هذه الأغراض النفسية رتب سبحانه هذين الوصفين([20])، (بالمؤمنين رؤوف رحيم)، قال بعض السلف: لم يجمع الله سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه قال: (بالمؤمنـين رؤوف رحيم)، وقال (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) ([21]).

 

تاريخ دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) مشبع بالعطف والشفقة، لمن آمن به، ولمن لم يؤمن به، يدعوهم وإن عنفوا له القول، وآذوه بما لا يليق به، وهو المعروف بينهم أصلاً وأرومة، ومحتداً، وأخلاقاً وسلوكاً.

 

لم يمنع أهل الكتاب ماضياً وحاضراً من الإيمان برسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا الحسد:

 

(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) ([22]).

 

وما منع سواهم إلا المكابرة، وحب الاستعلاء (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) ([23]).

 

في وصف صادق ومكاشفة صريحة للفيلسوف المفكر رجا جاوردي لبني قومه بعد أن خلصه الله من داء اهل الكتاب، ونوّر بصيرته بالإسلام، متحدثاً عن علاقة الثقافة الغربية الحاضرة بالإسلام ونصحه أهلها بـ:

 

أنها اغلقت أبوابها ونوافذها الفعلية ما يزيد على الثلاثة عشر قرناً في وجه الإسلام، وبذلك حرمت من نوره الوهاج، ولو أنها تركت ابواب ونوافذ عقلها مفتوحة لاستنارت، واستراحت، واستطاعت أن تصل الى الفهم الصحيح لمعنى الوجود الإنساني، والى معرفة الله الواحد، الأحد، والعمل بمنهج الحياة السليم، ولاستطاعت بذلك أن تجنب الملايين هذه الحياة التافهة التي يعيشونها بلا معنى، ولا هدف، ولا أمل في الغرب من الانقراض والتلاشي إلا بأن يعي دور الحضارات الأخرى ويعترف أنه مدين لها، ويعمل على تغيير موقفه العنيد من الإسلام([24]).

 

عالمية الإسلام

 

خطابها ـ خصائصها

 

للعالمية الإسلامية خطاب تتحدث به، وخصائص تتميز بها.

 

خطاب العالمية الإسلامية خطاب شمول وعموم، لا يخص فئة دون أخرى، ولا جيلاً دون جيل، ولا مكاناً دون آخر، يخاطب البشرية أنى كانت، ومتى عاشت.

 

العالمية الإسلامية تخاطب الذات الانسانية، تتعمق في طواياها، تخاطب ذاتها، تثير عناصر النبل والخير في داخلها وخارجها، وتقويها، تعالج جوانب الضعف فيها.

 

لعالمية الإسلام مظاهر فأين تتجلى؟ وأين تصدق مظاهرها منه؟

 

سنجد هذه المظاهر مدونة في دستوره الأول المتمثل في الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، المصدران الرئيسان، والمرجع الأساس في كل ما يحكم له به، أو يحكم عليه؛ ذلك أن القرآن الكريم تعريفاً ومدلولاً هو:

 

(كلام الله المنزل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) منجماً حسب النوازل والوقائع).

 

أما السنة النبوية فهي: (كل ما صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قول، أو فعل، أو تقرير، او صفة).

 

من خلال هذين المصدرين الجليلين، وفي ضوء العالمية مدلولاً، وتعريفاً، وشروطاً تتبين عالمية الإسلام نصاً صريحاً، وديناً قيماً خالداً.

 

مظاهر هذه العالمية متعددة ومتنوعة تتجلى بوضوح فيما ورد في القرآن الكريم وصفاً لبداية الحياة الإنسانية وصفاً دقيقاً، خلقاً، وخُلقاً، يحيط بتكوينه، وسلوكه، وصفاً لا يخص أمة، ولا يحد بزمان، وذلك في آيات عديدة منها:

 

قول الله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون * ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين) ([25]).

 

وقال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) ([26]).

 

وغيرها الكثير من الآيات التي تقرر حقيقة خلق الإنسان وتطوره حتى يكتمل نموره الخلقي:

 

(والتين والزيتون وطور سينين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون * فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين) ([27]).

 

الحديث عن خلق الإنسان وتكوينه حديث عام لا يخص فئة، في زمان، أو مكان.

 

هذا الحديث الصدق إخبار الخالق، الموجد للخلق بقدرته يعني عالمية خلقه لبني البشر، الكل عباده، منَّ عليهم بالخلق، والإيجاد، فهم عباده، ليس تفاوتهم لوناً، أو جنساً، او منصباً، او جاهاً، او ثراء بالذي يفاضل بينهم، الكل عيال الله، أكرمهم عنده أتقاهم، وأكثرهم نفعاً لعباده.

 

تستوجب نعمة الخلق والإبداع الاستجابة لندائه، والإصغاء لأنبيائه، ورسله، ولما جاءوا به من عنده:

 

(يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً) ([28]).

 

خصائص عالمية الإسلام

 

لعالمية الإسلام خصائص تتميز به عن سائر الأديان، والأيديولوجيات القديمة والحديثة، من هذه الخصائص:

 

1ـ الوحدانية المطلقة لله عز وجل: فهي المظهر الأسمى لعالميته (وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله وهو العليم الحكيم) ([29])، لا تختلف زماناً ومكاناً، كل الخلق يتجهون لإله واحد جل وعلا، ذي صفات واحدة تليق بجلاله وعظمته، يصرف الأمور كما يريد، يخلق ما يشاء ويختار، وكل شيء عنده بمقدار، يعبدونه لا يشركون به شيئاً.

 

هذا هو الذي قاد العقلاء قديماً وحديثاً الى الاعتقاد بعالمية الإسلام، اكتشف هذه الحقيقة كل من أراد الله به خيراً، وشرح صدره للإسلام من أبناء الديانات، والأيدلوجيات الأخرى ممن عاشوا تجاربها، فعرفوا ثغراتها، بل أباطيلها، من هذه النماذج القريبة في عصرنا الحاضر ـ الذي تشاهد فيه القيم بل الديانات انتكاسة كبيرة؛ حيث طغت الماديات ـ ما ورد اعترافاً صريحاً على لسان المفكر الفيلسوف رجاء جارودي الذي عاش الايديولوجيات، والأديان الأخرى قائلاً:

 

بدأت إسلامي بالشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هذا هو ركن الإسلام الأول، وفيه يسلم الإنسان قلبه، ويطوع عقله لإله واحد فوق الجميع، وهو الخالق، والمدبر، وإليه المصير، وهو الجدير بالعبادة وحده دون شريك (ذلك الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) ([30]).

 

2ـ اعتراف الإسلام برسالات الانبياء والرسل السابقين، وأن الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة، وأبلغ التسليم مكملة لتلك الرسالات ومصححة لما دخلها من تحريف، وانحراف (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً) ([31]).

 

3ـ المقصد الأول الأصيل بعد إخلاص العبادة لله عز وجل اصلاح المجتمع الإنساني، وذلك بـ (تحصيل المصالح، واجتناب المفاسد على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة، والمفسدة .. فإن طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك، وأنه إن لم يتبع هذا المسلك الواضح، والمحجة البيضاء فقد عطل الإسلام عن أن يكون ديناً عاماً وباقياً) ([32]).

 

4ـ ملاءمته للفطرة الإنسانية: تعاليمه منسجمة ومتوافقة مع الفطر السليمة، والمبادئ الإنسانية الكريمة، ومن أهم خصائص هذه الفطرة حبها الغريزي للمال، وإشباع الشهوات، هاتان الغريزتان لم يكتبهما الإسلام ولم يحاصرهما، بل هذبهما أحسن تهذيب بما يكفل الخير والنماء للإنسانية في طهر وعفاف. لم يحرم الاستزادة المشروعة من المال، ولم يتنكر للغرائز الجسمية ومتطلباتها، أو يوجب التخلص منها، بل سلك مسلكاً وسطاً، يحقق الرغبة الإنسانية في اعتدال، لم ير في هذا بأساً إذا أشبع المرء غريزته الجسمية والجنسية في حلال، وبطرق مشروعة تحفظ له كرامته، وتتحقق به إنسانيته.

 

بالنسبة للمال لاحرج عليه في جمعه إذا أدى الغني نسبة من ماله للفقراء إخوانه في الإنسانية، الذين لم يسعدهم الحظ أن يجدوا ما يسد عوزهم، نسبة لا ترهق الغني، وتسد حاجة الفقير، تلك هي ربع عشر المال الخالص الصافي من الديون، وحقوق الآدميين الأخرى.

 

علاقة المسلم بالمال في نظر الإسلام ليست علاقة عبودية، وإشباع شهوات، (وإنما هي علاقة ايجابية خاضعة بطبيعة الحال لإرادة الله تعالى الذي يقول في كتابه الكريم (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)، الإنسان هو سيد الموقف في الأرض باستخلاف المولى جل وعلا له، سخر لإرادته كل القوى المادية، ليس هو المسخر لإرادتها.

 

5ـ المساواة بين جميع بني الإنسان دون تمييز بسبب اللون، او الجنس (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

 

مظاهر هذه المساواة تتجلى في الحقوق المتساوية لجميع أفراد المجتمع، حقوقاً، وواجبات، دون تمييز بسبب اللون، أو الجنس، سواء في هذا المعاملات بمعناها الواسع، والضيق، وفي شعائر العبادات، التمييز فقط هو بالتقوى، وبالتمسك بالمعاني والقيم، والمبادئ التي يحث عليها الإسلام كالعلم، واكتساب الفضائل، والأخلاق الرفيعة (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) ([33])، (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)([34]).

 

الصلاة في الإسلام أعظم أمراً، وأشد خطراً بين أركان الإسلام بعد الشهادتين، الأولية في إمامتها لأفقه القوم وأحفظهم لكتاب الله، وليس لأي اعتبار آخر.

 

يحتل الصف الأول في الصلاة من أتى مبكراً الى المسجد.

 

يلي الإمام في الصف أولوا الأحلام والنهي.

 

المبادئ، والقيم هي المعيار في الموازين الإسلامية، وليس الأشخاص بوجاهتهم، وماليتهم.

 

شعيرة الحج تتجلى فيها المساواة بأبرز صورها؛ حيث (يجتمع المسلمون في صعيد واحد، وهيئة واحدة، وزمن واحد ليؤدوا مناسك واحدة وفق نظام واحد، لا فرق بين كبير وصغير، أمير وفقير، رعاة ورعية، هذا يجعلهم يدركون أنهم متساوون متحدون بلا تمييز طبقي، وهو يشعرهم بعظمة دينهم، وقوته، ويعطيهم الإحساس بالترابط الوجداني والأمن) ([35]).

 

يؤكد القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله تعالى:

 

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء)، فلا مجال لترفع إنسان على آخر بسبب الجنس، والعرق، والدم، كلهم لآدم، وآدم من تراب، إنما يتفاوتون بالمقاييس والمعايير الإسلامية السابقة.

 

6ـ الحفاظ على كرامة الإنسان ومكتسباته:

 

تتضح عالمية الإسلام في تكريمه للجنس البشري من أبناء آدم عليه الصلاة والسلام، بصرف النظر عن أديانهم، ومعتقداتهم (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقانهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) ([36]).

 

(فالتكريم منظور فيه الى تكريمه في ذاته، والتفضيل منظور فيه الى تشريفه فوق غيره، على أنه فضله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه، ودفع الأضرار عنه، وبأنواع المعارف والعلوم ..).

 

يقول العلامة محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى:

 

(إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها، ومن جزئياتها المستقراة، أن المهيمن عليها هو نوع الإنسان، ويشمل صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيشه فيه.

 

قال تعالى حكاية عن رسوله شعيب، وتنويهاً به: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله) فعلمنا أن الله أمر ذلك الرسول صلوات الله وسلامه عليه بإرادة الإصلاح بمنتهى الاستطاعة.

 

وقال: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين) فعلمنا أن الصفات التي اجريت على فرعون كلها من الفساد وأن ذلك مذموم، وأن بعثة موسى كانت لإنقاذ بني اسرائيل من فساد فرعون، فعلمنا أن المراد من الفساد غير الكفر، وإنما هو فساد العمل في الأرض، لأن بني اسرائيل لم يتبعوا فرعون في كفره.

 

وقال حكاية عن شريعة شعيب لأهل مدين: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)…، وقال تعالى مخاطباً هذه الأمة: (ولا تفسدوا في الأرض بعد اصلاحها)، وقال: (وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)، وقال: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).

 

فهذه أدلة صريحة كلية دلت على أن مقصد الشريعة الإصلاح، وإزالة الفساد، وذلك في تصاريف أعمال الناس …

 

على أن صلاح الحال في هذا العالم منّة كبرى يمنّ الله بها على الصالحين من عباده جزاء لهم:

 

قال تعـالى: (ولقـد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين)، وقال مخاطباً المسلمين: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم)…

 

فلولا أن صلاح هذا العالم مقصود للشارع ما امتن به على الصالحين من عباده…).

 

يضيف العلامة محمد الطاهر بن عاشور مؤكداً هذا المعنى بقوله:

 

(ولقد علمنا أن الشارع ما أراد من الإصلاح المنوه به مجرد صلاح العقيدة، وصلاح العمل كما قد يتوهم، بل أراد صلاح أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الاجتماعية، فإن قوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) أنبأنا بأن الفساد المحذر منه هنالك هو إفساد موجودات هذا العالم، وأن الذي أوجد هذا العالم، وأوجد فيه قانون بقائه لا يظن فعله ذلك عبثاً وهو يقول: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً)، ولولا إرادة انتظامه لما شرع الشرائع الجزئية الرادعة للناس عن الإفساد فقد شرع القصاص على إتلاف الأرواح، وعلى قطع الأطراف، وشرع غرم قيمة المتلفات، والعقوبة على الذين يحرقون القرى ويغرقون السلع …)، ثم يستمر رحمه الله قائلاً: (فقد انتظم لنا الآن أن المقاصد الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح، ودرء الفساد، وذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان، ودفع فساده؛ فإنه لما كان هو المهيمن على هذا العالم كان في صلاحه صلاح العالم وأحواله، ولذلك نرى الإسلام عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه وهو النوع كله…)([37]).

 

7ـ الحفاظ على الإنسان خلقاً، وخلقاً، ديناً، وعرضاً، ومالا دون تمييز، جاءت نصاً في تراثنا الفقهي، تعبيراً صادقاً عن حقيقة الإسلام تجاه الإنسان أياً كان، يقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى:

 

(ومقصود الشرع من الخلق (هذه العبارة (من الخلق) لها مدلولها العام الشمولي) خمسة:

 

وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة، وهذه الأصول الخمسة وحفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح) ([38]).

 

لهذا أحاط الإسلام هذه المقاصد بقدسية كبيرة، فجعل التعدي عليها من أعظم الجنايات، بل جعل لكل واحدة منها نوعاً من العقوبة يختلف عما سواها ترسيخاً لمكانتها، وأهميتها.

 

القسم الثاني

 

العلاقات الدولية في الإسلام

 

جرى تعريف العلاقات الدولية بشكل عام أنها:

 

(مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول وتحدد حقوق كل منها، وواجباتها في حالتي السلم، والحرب)، وهو ما يسمى ايضاً بالقانون الدولي العام، حيث العلاقة هنا علاقة دولة بأخرى، وبشكل عام علاقة طرف بآخر ليس لأحدها نفوذ على الآخر.

 

لما أن الدين الإسلامي دين عالمي لا يختص بفئة أو شعب معين فإن تعليماته، وخطوات قيادته الأولى المتمثلة في أفعال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقواله تسير منذ البداية في اتجاه سياسة عالمية الإسلام: فكراً، واسلوباً، وتخطيطاً، وتحركاً بكل ما ينسجم مع هذا الهدف؛ ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون الأمة الإسلامية مكلفة من الله تعالى بنشر الدعوة العالمية (الإسلام) ما اتسع لها الزمان والمكان بين الأفراد، والأمم في جميع أصقاع المعمورة.

 

الإسلام ديناً وتشريعاً أمانة كل مسلم: الفرد المسلم، الجماعة المسلمة، الوالي المسلم: خليفة، أو ملكاً، او رئيساً.

 

لوازم عالمية الإسلام ايجاد علاقات مع كافة أمم الأرض، ودولها؛ لتبلغ دعوته أطراف المعمورة، وهو مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية.

 

علاقة الدولة الإسلامية بسواها من الدول أصالة علاقة دعوة الى الله، تنشر مبادئ الإسلام؛ لذلك ومنذ البداية، وبالتحديد منذ صلح الحديبية الذي ـ ابرمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كفار قريش آخر سنة ست من الهجرة النبوية الشريفة ـ يعد إسهاماً غير مسبوق في العلاقات الدولية، وذلك حين خرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع صحابته الكرام يريدون زيارة البيت الحرام؛ لأداء مناسك العمرة، لا يريدون قتالاً.

 

فزعت قريش لقدومه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لبسوا آلات الحرب، واستعدوا لقتاله (صلى الله عليه وآله وسلم)، عاهدوا الله ألا يدخلها عليهم أبداً، بعث إليهم من يطمئنهم أنهم لم يأتوا لقتال، وإنما جاؤوا عماراً، يدعوهم الى الله، والى الإسلام.

 

لم يدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه رضوان الله عليهم مكة ذلك العام، بإصرار من قريش، وبعد محاولات ومشادات جدلية كلامية؛ وفاء لما أقسموا عليه، وانتهت السفارات بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعاهدة صلح نصت على:

 

(وضع الحرب عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامة ذلك، حتى إذا كان العام المقبل قدمها، وخلوا بينه وبين مكة، فأقام بها ثلاثاً، وأن لا يدخلها إلا بسلاح الراكب، والسيوف في القرب، وأن مَنْ أتانا مِن أصحابك لم نرده عليك، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة([39])، وأنه لا إسلال، ولا إغلال)([40]).

 

تم العهد بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين قريش وهو واثق بنصر الله له وتأييده، وأن العاقبة له، بيد أن بنود المعاهدة وشروطها ليست متكافئة مما اثار حفيظة المسلمين، ودار فيما بينهم حوار وشجار، قبلوا ما قبلوا على مضض طاعة لله ورسوله، لاجرم أن مستقبلات الأحداث ومآلاتها أثبتت أنها كانت هي الفتح والنصر للمسلمين؛ جاءت بشائر هذا النصر سريعة لدى مرجعه (صلى الله عليه وآله وسلم) الى المدينة المنورة في آيات خالدة تتلى على مر الزمان، لتعيد للمسلمين ثقتهم بنصر الله عز وجل:

 

(إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً، وينصرك الله نصراً عزيزاً) ([41]).

 

(فقد كانت مقدمة الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فكانت هذه الهدنة باباً له، وموذناً بين يديه).

 

تبيين للمسلمين فيما بعد أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار، وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختفياً بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل، من أجل هذا سماه الله عز وجل (فتحاً مبيناً)، تجلى واضحاً بعد أن منَّ الله على المسلمين بفتح مكة المكرمة، فمن ثم تحقق أصحاب رسول الله النتائج العظيمة، وثمار الكفاح المخلص المتواصل في سبيل إعلاء كلمة الله، فقد جاءت بعد هذا سريعة متلاحقة، فما أن (فرغ (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الوفود من كل وجه …

 

قال إبن اسحاق: وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلافه، فلما افتتحت مكة، ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، وعرفت العرب أنه لا طاقة بحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا عدوانه، فدخلوا في دين الله، كما قال عز وجل (أفواجاً) يضربون إليه من كل وجه … فقدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفود العرب) ([42]).

 

وجدوا في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التفهم الكامل لماضيهم، والصفح عما لحقه وصحابته من أذى من بعضهم، وأعلنها صريحة:

 

(أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الهجرة تجب ما قبلها)، حينئذ توجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخطابه العالمي الى أمم الأرض وملوكها لايجاد علاقات دولية مع الدول المجاورة لجزيرة العرب، فكثف من رسله وسفاراته الى أقطاب الدنيا وملوكها في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونشط في هذا الاتجاه، خصوصاً وأن الله عز وجل أوحى اليه بقرب أجله:

 

(فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رسلاً من أصحابه، وكتب معهم كتباً الى الملوك يدعوهم فيها الى الإسلام، فبعث دحية بن خليفة الكلبي الى قيصر ملك الروم، وبعث عبدالله بن حذافة السهمي الى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أمية الضمري الى النجاشي ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبي بلتعة الى المقوقس ملك الإسكندرونة، وبعث عمرو بن العاص السهمي الى جيفر وعياد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان، وبعث سليط بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي الى ثمامة بن أثال، وهوذة بن علي الى الحنفيين ملكي اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي الى المنذر بن ساوي العبدي ملك البحرين، وبعث شجاع بن وهب الأسدي الى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام)([43]).

 

حرص الإسلام كل الحرص أن تكون العلاقة بين المسلمين وغيرهم علاقة أمن، وسلام دائم، خصوصاً وأن دعوته تقوم على أساس احترام كرامة الإنسان، وأنه خليفة الله في الأرض لإعلاء كلمته، وإخلاص عبادته، لتكتمل للإنسان الحياة الآمنة، والطمأنينة النفسية والروحية، بهذا يستكمل عمار الأرض التي استخلفه الله فيها، وهو في قمة اهتمام الشريعة الإسلامية.

 

لا جرم أن الإسلام بهذه المبادئ القويمة يأمر بالأخذ بالأسباب التي تؤدي الى المحافظة على حياة الإنسان لتحقيق المقاصد الإسلامية النبيلة ألا وهي المحافظة على العنصر البشري، وتسخير كل ما خلقه المولى عز وجل لإيجاد حياة سعيدة حتى يتمكن من إقامة أوامر مولاه جل وعلا؛ لهذا نجد أن الأساس والأصل في العلاقات بين المسلمين وغيرهم ممن لا يدينون بالإسلام هو: الدعوة الى الدخول في دين الله تعالى (الإسلام)، وهو ما استهل به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رسائله الى الملوك، فإنه بدأ رسائله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الديباجة:

 

(الى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:

 

فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين …

 

وإلى كسرى (من محمد رسول الله الى كسرى عظيم الفرس:

 

سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله الى الناس كافة لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم …).

 

وكتب الى النجاشي، وجاء بعد الديباجة:

 

(… وإني أدعوك الى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك الى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى) ([44]).

 

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبعث رسله الى الأمم حوله في جزيرة العرب، يحملون كتبه، يدعونهم فيها الى الإسلام، يطلب منهم قبوله، يبشرهم بأنهم إن أطاعوه فلهم الأجر في الآخرة، واستقرار ملكهم في الدنيا من غير إكراه ولا إجبار، فمنهم من استقبل رسله استقبال السفراء والضيوف، فبش في وجوههم، وردهم بالجوائز والهدايا، ومنهم من أخذته العزة بالإثم فردهم رداً شنيعاً، أو قتلهم، ومزق الكتب التي يحملونها.

 

(كانت رسائله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها تدعو الى الخير، والرحمة، والسلم، والدعوة الى ما يسمى اليوم بالتعايش السلمي على أساس من قبول دعوة الإسلام، أو الكف عنها، وعدم الحيلولة بينها وبين الناس، حتى إن ملك الروم أخذ الكتاب ووضعه في مسك تكريماً له، وأكرم الرسول، أما ملك الفرس الظالم فقد مزق الكتاب، فلما بلغ الخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: مزق الله ملكه، …)([45]).

 

هذا النمط الرفيع من المكاتبات والمراسلات الذي قامت على أساسه الدعوة الإسلامية، وبنت عليه علاقاتها مع أمم الأرض، فأصبح منهجاً مميزاً لها، أصبح هذا النوع من التعامل في هذا المجال قانوناً وقاعدة شرعية ثابتة في السلم، لا يختلف الأمر عنه في المواجهة، والمناجزة:

 

الدعوة أولاً: ومحاولة إقناع الطرف الآخر بكل وسائل الإقناع ما أمكن حتى لا يترك سبيل، أو سبب لنشوب حرب، ومواجهة قتالية، هذا ما تم إعلانه قولاً، وجرى تطبيقه عملاً في نصوص لا تقبل التأويل: (إذا لقي المسلمون المشركين فإن كانوا قوماً لم يبلغهم الإسلام فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم؛ لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ([46])، وبه أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراء الجيوش فقال: (فادعوهم الى شهادة لا إله إلا الله؛ ولأنهم ربما يظنون أننا نقاتلهم طمعاً في أموالهم، وسبي ذراريهم، ولو علموا أنا نقاتلهم على الدين ربما أجابوا الى ذلك من غير أن تقع الحاجة الى القتال.

 

وفي تقدم عرض الإسلام عليهم دعاء الى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، فيجب البداية به.

 

فإذا كان قد بلغهم الإسلام، ولكن لا يدرون أنا نقبل منهم الجزية فيبغي أن لا نقاتلهم حتى ندعوهم الى إعطاء الجزية.

 

به أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امراء الجيوش، وهو آخر ما ينتهي به القتال؛ قال الله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ([47]).

 

والذي روي عن ابن عباس (رضي الله عنه)ما، أنه قال: ما قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوماً حتى يدعوهم.

 

وعن طلحة ((رضي الله عنه)): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقاتل المشركين حتى يدعوهم.

 

وعن عطاء بن يسار أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث علياً (رضي الله عنه) مبعثاً فقال: امض ولا تلتفت، أي لا تدع شيئاً مما آمرك به. قال يا رسول الله كيف اصنع؟

 

قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلوهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً، فإن قتلوا منكم قتيلاً فلا تقاتلوهم حتى تريهم إياه، ثم تقول لهم: هل لكم الى أن تقولوا لا إله إلا الله؟

 

فإن قالوا نعم.

 

فقل لهم: هل لكم الى أن تصلوا؟ فإن قالوا نعم.

 

فقل لهم: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم الصدقة؟ فإن قالوا نعم فلا تبغ منهم غير ذلك، والله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت …

 

وعن عبدالرحمن بن عائذ قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا بعث بعثاً قال: تألفوا الناس، وتأنوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت من مدر ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم، ونسائهم، وتقتلوا رجالهم)([48]).

أصبحت هذه التوجيهات النبوية للرسل والسفراء قواعد ثابتة، وأصولاً وقوانين راسخة هي الأصل، والأساس في العلاقات الدولية في الإسلام مع غيرها من الأمم والشعوب في السلم، والحرب، لا يجوز خرقها، أو تجاوزها، والحيدة عنها، يتوخاها، ويتحرى التقيد بها الإمام، والقائد، وكل ذي نفوذ من المسلمين.

 

تتمثل هذه القيم، والمبادئ في الخصال الثلاثة الآتية على الترتيب بحيث لا يصح للخليفة، أو الملك، او القائد، او أي احد ينتسب للإسلام الانتقال من الأولى الى الثانية حتى يستفرغ جهده بالنسبة للأولى التي قبلها، ولا يجوز شرعاً أن يتقدم الى ما بعدها حتى يستنفد ما قبلها:

 

الخصلة الأولى: إرسال الرسل لتبليغ الدعوة

 

انطلاقاً من عموم الرسالة، والأمر بتبليغ الدعوة الى كافة انحاء المعمورة كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكاتبة الملوك والرؤساء، ودعوتهم الى اعتناق العقيدة الإسلامية؛ عملاً بقوله سبحانه وتعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس) ([49])، كان هذا جل قصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ إشفاقاً منه على أمته.

 

فإن لم تكن الاستجابة لدعوة الحق التي ترتفع بإنسانيتهم، وتقودهم الى السعادة الأبدية طوعاً، ولم يفتحوا قلوبهم للإسلام، ولم تنشرح له صدورهم، وحال الزعماء بين الإسلام وبين شعوبهم فالسبيل للمعايشة السلمية، وعصمة الدماء هو:

 

الخصلة الثانية: إبرام المعاهدات التي تعصم الدماء والأرواح، وهي:

 

(العقد مع أهل الحرب على الكف عن القتال مدة، بعوض وبغير عوض) ([50])، لتعرف كل دولة ما لها، وما عليها؛ حتى (يعيش المجتمع الدولي جميعاً في ربيع العصمة، عصمة الدماء، والأعراض، والأموال، والأوطان، لا تبغي دولة على أخرى …)([51]).

 

للمعاهدات بين المسلمين وغيرهم في الشريعة الإسلامية أهمية خاصة، تم عقد نظمها، وموادها من أصول شرعية قاطعة: من القرآن، والسنة النبوية المطهرة، ناهيك عن المعاهدات التي أبرمها الرسول عليه الصلاة وأزكى التسليم، وأكدها بأقواله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفعاله، وسار الخلفاء من بعده على منوالها من أهمها:

 

أولاً: وجوب الوفاء بالعهد للعدو مهما كانت الظروف، مادام ثمة التزام به من قبله، وهو ما وردت به الآيات المحكمة منها:

 

قوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولاتنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون).

 

وقوله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً) ([52])، وغيرهما من الآيات الكريمة التي تحث على الوفاء بالعهد، وتثني على الملتزمين به.

 

التزام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعهد في أقصى الظروف التي مرت به وبأصحابه رضوان الله عليهم دليل عملي تطبيقي على الالتزام بالعهود، والمواثيق، فقد ثبت أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأبي رافع وقد أرسلته قريش فأراد المقام عنده والبقاء بالمدينة، وأنه لا يريد الرجوع إليهم، فقال:

 

(إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع الى قومك، فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقداً، ولا يشدنه حتى يمضي أمده، او ينبذ إليهم على سواء).

 

ولما أسرت قريش حذيفة بن اليمان وأباه اطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا خارجين الى بدر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) ([53]).

 

(وهناك مثال طريف لنوع من المواثيق والعهود لا نجده إلا في العصر الحديث، وهو ذلك العهد الذي أعطاه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لنصارى نجران باليمن يلتزم لهم فيه بحرية عقيدتهم ماداموا مسالمين…)([54]).

 

ثانيـاً: وجوب الالتزام والتمسك بمواثيق الأمان إذا عهد بها المسلمون لأعدائهم؛ ذلك أن الأمان معناه: (الكف عن التعرض للأعداء بالقتل والسبي حقاً لله تعالى، والله لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا يخفى عليه خافية).

 

ثالثا: حرمة أموال المعاهدين كحرمة أموال المسلمين

 

قال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى:

 

(وإذا أودع المسلمون قوماً من المشركين فليس يحل أن يأخذوا شيئاً من أموالهم إلا بطيب أنفسهم، للعهد الذي جرى بيننا وبينهم؛ فإن ذلك العهد في حرمة التعرض للأموال والنفوس بمنزلة الإسلام، فكما لا يحل شيء من أموال المسلمين إلا بطيب أنفسهم فكذلك لا يحل شيء من أموال المعاهدين، وهذا لأن في الأخذ بغير طيب أنفسهم معنى الغدر، وترك الوفاء بالعهد، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (في العهود وفاء لا غدر فيه)…، ويستدل لهذا بحديث أبي ثعلبة الخشني (رضي الله عنه) أن ناساً من اليهود يوم خيبر جاؤوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد تمام العهود فقالوا: إن حظائر لنا وقع فيها أصحابك فأخذوا منها بقلاً، او ثوماً، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبدالرحمن بن عوف (رضي الله عنه) فنادى في الناس: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا أحل لكم شيئاً من أموال المعاهدين إلا بحق([55]).

 

فإذا نادى المسلمون أهل الحرب بالأمان فهم آمنون جميعاً إذا سمعوا أصواتهم بأي لسان نادوهم به؛ لحديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فإنه كتب الى جنوده بالعراق: إنكم إذا قلتم لا تخف، أو مترسي، او لا تذهل فهو آمن؛ فإن الله تعالى يعرف الألسنة([56])، (ويحرم به قتل، ورق، وأخذ مال) والتعرض لهم لعصمتهم به…)([57]).

 

رابعاً: (يصح الأمان من إمام، وأمير لأسير بعد الاستيلاء عليه، وليس ذلك لآحاد الرعية إلا أن يجيزه الإمام؛ لأن أمر الأسير مفوض الى الإمام فلم يجز الافتيات عليه…، (ويصح أمان اجير، وتاجر في دار الحرب)؛ لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)، ومن صح أمانه صح اخباره… ولا ينقض الإمام أماناً إلا أن يخاف خيانة من أعطيه فينقضه لفوات شرطه…)([58]).

 

خامساً: إذا حاصر المسلمون حصناً في دار الحرب فناداهم رجل بالأمان بحيث يسمعون الكلام، وهو النداء، إلا أن العلم قد أحاط أنهم لم يسمعوا، بأن كانوا نياماً، او متشاغلين بالحرب كان ذلك أماناً حتى لا يحل قتالهم إلا بعد النبذ اليهم؛ لأن حقيقة سماعهم باطن يتعذر الوقوف عليه، وفي مثله إنما يتعلق الحكم بالسبب الظاهر الدال عليه، وهو أن يكون منه بحيث يسمعون نداءه، وإذا قام السبب الظاهر مقام المعنى باطن دار الحكم معه وجوداً وعدماً، وهذا لأن التحرز عن الغرور واجب…)([59]).

 

سادساً: جواز ابتداء الإمام صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم.

 

سابعاً: جواز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين، وهل يجوز فوق ذلك؟

 

الصواب: أنه يجوز للحاجة والمصلحة الراجحة، كما إذا كان بالمسلمين ضعف، وعدوهم أقوى منهم، وفي العقد لما زاد عن العشر مصلحة للمسلمين) ([60]).

 

ثامناً: (يصح الأمان منجزاً، ومعلقاً بشرط كقوله: من فعل كذا فهو آمن؛ لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن))([61]).

تاسعاً: دعوة اعطاء الأمان مقدمة على دعوة القهر:

 

فإذا دخل العسكر دار الحرب فخرج اليهم مسلماً كان أسيراً، او كان مستأمناً فيهم، او كان أسلم منهم والتحق بجيش المسلمين ومعه حربية فقالت: جئت مستأمنة إليكم.

 

وقال المسلم: جئت بها قهراً، فهذا إنما يكون على ما جاءت عليه المرأة، فإن كانت غير مربوطة تمشي معه حتى إذا انتهت الى أدنى مسالح المسلمين نادت بالأمان، او لم تناد فهي آمنة)([62]).

 

عاشراً: مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه أعلى المفسدتين باحتمال ادناهما([63]).

 

حادي عشر: إذا طلب المشركون …، او البغاة، او الظلمة أمراً يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى أجيبوا عليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى … فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى، مرض له، أجيب الى ذلك كائناً من كان …

 

ثاني عشر: يبعث الإمام الرجل العالم الى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، وأنه ينبغي أن يكون أميناً، لا غرض له، ولا هوى، وإنما مراده مجرد مرضاة الله ورسوله، ولا يشوبها بغيرها، فهذا هو الأمين حق الأمين…([64]).

 

ثالث عشر: احتمال قلة أدب رسول الكفار، وجهله، وجفوته، ولا يقابل على ذلك لما فيه من المصلحة العامة، ولم يقابل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عروة على أخذه بلحيته وقت خطابه، … وكذلك لم يقابل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولي مسيلمة حين قالا: نشهد أنه رسول الله، وقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما.

الخصلة الثالثة:

إن لم تكن استجابة لإحدى الخصلتين السابقتين: (قبول دعوة الإسلام، أو عقد معاهدة للصلح) فالسبيل الى أمن الأمة، وعصمة بيضتها هو الذود والدفاع عن عقيدتها، وأمنها، ووجودها، وهذا يعني إرغامها على ما لابد منه، وهو ما نصت عليه الآيات الكريمة:

 

(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإنّ الله بما يعملون بصير)([65]).

 

(ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين * فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين * الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) ([66]).

 

إذا اقتضى الأمر ولزم ركوب متن الحرب، وأصبح الخيار الوحيد الذي لابد منه، فإن الشريعة الإسلامية لم تترك هذا الأمر لروح التشفي، والانتقام، وأهواء الأفراد، بل وضعت من التشريعات ما يحفظ للإنسانية وجودها، ويعيد اليها كرامتها، فأضحى للحرب تشريعات، تعاليم، وآداب يفرضها الإسلام على المسلمين، من أهمها:

 

أولاً: يحرم استعمال الآلات النارية التي تؤدي الى هلاك العدو، أو تحريقهم متى قدر عليهم؛ لحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، ولقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار) رواه أبو داود، ومن باب أولى تحريم أسلحة الدمار الشامل، او ما يسبب تشويه الإنسان، وإعاقته.

 

ثانياً: حرمة قتل الشيوخ، والرهبان، والصبيان، والنساء؛ لقول ابن عمر (رضي الله عنه)ما: (إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتل النساء والصبيان)، متفق عليه، كذلك يحرم قتل خنثى، وراهب، ولو خالط الناس؛ لقول عمر (رضي الله عنه): (ستمرون على قوم في صوامع لهم، احتبسوا أنفسهم فيها، فدعوهم حتى يبعثهم الله على ضلالهم)، وشيخ فان؛ لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتله، رواه أبو داود، وروي عن ابن عباس (رضي الله عنه)ما في قوله تعالى: (ولا تعتدوا) بقوله (لا تقتلوا النساء والصبيان، والشيخ الكبير، وزمن، وأعمى، وعبد، ولا فلاح لا يقاتل؛ لقول عمر (رضي الله عنه): اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب)؛ ولأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يقاتلوهم حين فتحوا البلاد؛ ولأنهم لا يقاتلون اشبهوا الشيوخ، والرهبان.

 

عدم التعرض لهذه الفئات من الأعداء حيث لا رأي لهم في تدبير الحرب والقتال، أما إذا كان واحد منهم ذا رأي ومشورة جاز قتله، (إلا أن يقاتلوا، او يحرضوا عليه. فيجوز قتلهم بلا خلاف. ولا يقتل معتوه مثله لا يقاتل؛ لأنه لا نكاية فيه).

 

ثالثاً: لا يجوز قتل اسير حتى يؤتى به الى الإمام إلا أن يمتنع من المسير مع من آسره.

 

رابعاً: لا يجوز التمثيل بالأسير، ولا تعذيبه لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث بريدة (ولا تعذبوا، ولا تمثلوا).

 

خامساً: يحرم التفريق بين أسير وبين ذي رحم محرم ببيع، ولا غيره، ولو رضوا به؛ لعموم حديث أبي أيوب (رضي الله عنه)، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)، رواه الترمذي.

 

سادساً: إذا أسلم المحاصرون من الأعداء قبل القدرة عليهم أحرزوا مالهم، وعصموا دماءهم.

 

سابعاً: يكره نقل رأس كافر من بلد الى بلد، ورميه بالمنجنيق بلا مصلحة، لما روي عقبة بن عامر: (أنه قدم على أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) برأس بنيان البطريق، فأنكر ذلك، فقال يا خليفة رسول الله: فإنهم يفعلون ذلك بنا، قال فأذن بفارس والروم: لا يحمل إلي رأس، إنما يكفي الكتاب، والخبر) ([67]).

 

ثامناً: لا يجوز احراق نحل العدو ولا تغريقه لما روي مكحول أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أوصى أبا هريرة بأشياء قال: (إذا غزوت فلا تحرق نحلاً، ولا تغرقه)، وروى مالك أن أبا بكر قال ليزيد ابن أبي سفيان نحوه؛ ولأن قتله فساد فيدخل في عموم قوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها)، الآية؛ ولأنه حيوان ذو روح فلم يجز إهلاكه ليغيظهم، كنسائهم، ويجوز أخذ شهده…

 

تاسعاً: لا يجوز عقر دواب العدو ولو شاة لنهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قتل الحيوان صبراً، وقول الصديق (رضي الله عنه) ليزيد بن أبي سفيان في وصيته (ولا تعقرن شجراً مثمراً، ولا دابة عجماء، ولا شاة إلا لمأكله)، (أو من دواب قتالهم) فلا يجوز عقرها لما تقدم إلا حال قتالهم فيجوز بلا خلاف؛ لأن الحاجة تدعو الى ذلك؛ إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به الى قتلهم وهزيمتهم، وهو المطلوب …

 

عاشراً: يحرم قطع الشجر والزرع، وما يتضرر من إزالته (لكونه مما ينتفع به علفاً للدواب، أو استظلالاً، أو أكلاً لثمره، أو تكون العادة لم تجر بينهم وبين العدو لما فيه من الإضرار، وما عدا هذا مما لا ضرر فيه، ولا نفع لهم به سوى غيظ الكفار، والإضرار بهم فيجوز إتلافه؛ لقوله تعالى: (ما قطعتم من لينة) الآية؛ ولما روي ابن عمر (رضي الله عنه)ما: أن النبي حرق نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة، فأنزل الله الآية، ولها يقول حسان بن ثابت (رضي الله عنه):

 

وهان على سراة بني لؤي      حريق بالبويرة مستطير

 

حادي عشر: حرم القرآن الكريم حروب التشفي والانتقام قال تعالى:

 

(ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) ([68]).

 

يقول العلامة أبو محمد عبدالحق بن عطية الأندلسي رحمه الله في بيان معناها وسبب نزولها: (نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون ان يستطيلوا على قريش، وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه عام الحديبية، وذلك سنة ست من الهجرة، فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة للكفار، فقيل للمؤمنين عام الفتح، وهو سنة ثمان: لا يحملنكم ذلك البغض، أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم).

 

ثاني عشر: يستنكر الإسلام الحروب التي لا تخدم غرضاً مشروعاً، وإنما هي من قبيل الإفساد في الأرض، وطلب العلو، والاستكبار، فقد صرح القرآن بالثناء على المؤمنين الذين ليس من طبعهم التعالي، والفساد في الأرض، قال تعالى:

 

(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين)([69]).

 

موجز القول: (إن تعاليم الإسلام في شأن نظام الحرب … ينفذها المسلمون على أشد ما يكون التنفيذ دقة، فلا يخونون، ولا ينهبون، ولا يخرّبون عامراً، ولا يعذبون اسيراً، ولا يقتلون رهينة، ولا رسولاً، ولا يقابلون ذلك بالمثل، بوازع من تقوى الله، ولا يفرضون العقوبات، وطريقتهم في التنفيذ ورعاية هذه الحقوق، والحريات للأعداء إنما تنبع عن إيمانهم بوجوب اتباع أوامر الله، واجتناب نواهيه تحرجاً من الوقوع في الإثم …)([70]).

 

هذه نبذة مختارة تسلط بعض الأضواء على عالمية، وخصائصها، وعلى الجوانب المهمة في فقه العلاقات الدولية في الإسلام، قد كانت موضع التنفيذ، والتطبيق لدى القيادة الإسلامية أيام النصر والازدهار منذ قرون وأجيال، وقد كان الإسلام يمثل العالمية بحق وجدارة، والخير للإنسانية جمعاء، ليس قاصراً على أمة دون أمة، أو جيلاً دون آخر، او سعياً وراء مصلحة ذاتية، او اقليمية محدودة، وإنما الهدف الأول والأساس إخلاص العبادة لله جل وعلا، وإسعاد البشر، والاستمتاع بحياة آمنة مطمئنة في ظل عقيدة الوحدانية.

آخراً وليس أخيراً:

يعقد علماء القانون الدولي مقارناتهم بين العلاقات الدولية في الإسلام وبين القانون الدولي الوضعي، مسجلين اولية القانون الدولي الإسلامي، وعالميته منذ إقامة الدولة الإسلامية في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي قبل ما يزيد على أربعة عشر قرناً، يقول في هذا الصدد أستاذ القانون الدولي الأستاذ الدكتور مفيد شهاب في دراسة قيمة له في هذا المجال:

 

(إن القانون الدولي فرع حديث النشأة، وأنه لم يأخذ طابع العالمية إلا ابتداء من القرن العشرين، كما أنه مازال حتى اليوم ينمو، ويتطور تبعاً للظروف، والمستجدات التي تطرأ على العلاقات بين الدول، وأخيراً باعتباره قانوناً وضعياً، لا يهتم كثيراً بالتكوين الأخلاقي للدول ـ وبالتالي للشعوب ـ التي تطبق، أو ينطبق عليها أحكام هذا القانون.

 

فإذا استعدنا ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، أي قبل نشأة فكرة القانون الدولي بأحد عشر قرناً نجده قد جاء للإنسانية كلها بآخر سماوية، وبالتالي أكمل تشريع إلهي، وما أسرع أن تقبلته العقول، واطمأنت اليه النفوس، ووجدت فيه الشعوب نظاماً يحقق لها العدالة والمساواة، ويمنحها الأمن والاستقرار …

 

والواقع أن القانون الدولي لم يصبح عالمياً بحق إلا بعد انشاء الأمم المتحدة، وبصفة خاصة بعد حسم مشكلة العضوية بها في سنة 1956م؛ لذلك فإن النظام السياسي الذي أقامه المسلمون في المدينة تحت قيادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اتسم منذ اللحظات الأولى بطابع العالمية، والدبلوماسية معاً، قد تجلى ذلك واضحاً في الرسائل التي بعث بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى رؤساء العالم حينئذ…

 

كذلك كان للمعاهدات التي وقعها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع القبائل العربية، أو اليهود نماذج عالية من السياسة الحكيمة التي تحفظ لجماعة المسلمين حقوقها، وترد عنهم كيد المعتدين، وفي هذا المجال ينبغي أن نتأمل معاملة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لمبعوثي أعدائه، وحاملي رسائلهم وممثليهم السياسيين، وهي معاملة يحق لنا أن نقول فيها: إنها سديدة ومستقيمة، فالإسلام فوق ما يكفله له من صيانة، وأمن على الأرواح يمنحهم نوعاً من الحصانة الاجتماعية التي تضمن لهم حرية العودة الى أوطانهم متى شاؤوا، ولا يدع سبيلاً الى احتجازهم في بلاد المسلمين بحجة أنهم من الأعداء…

 

يلي ذلك طريقته عليه الصلاة والسلام في الاستماع لهؤلاء المفاوضين، وحسن استعداده للتفاهم، او التعاقد معهم، والقرآن الكريم يحض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على قبول مبدأ الصلح متى وجد من العدو ميلاً إليه (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ([71]).

 

وفي مجال المقارنة بين القانون الدولي في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية: (ينبغي عند اجراء مثل هذه الدراسات أن نأخذ في الاعتبار:

 

أن مهمة الشريعة الإسلامية هي في الدرجة الأولى مهمة حضارية، آمرة وشاملة، في حين أن مهمة القانون الدولي مهمة تنظيمية، قائمة على الاتفاق، ولا يتعدى أثرها نطاق المتفقين، فالشريعة الإسلامية تتضمن أحكاماً مصدرها القرآن الكريم … والسنة النبوية المطهرة، كما تتضمن المصادر التي تكفل لها النمو، والتطور الدائمين كي تتلائم مع عنصري الزمان، والمكان، … وهي تهدف ـ كما نعلم ـ الى إيجاد تنظيم يشمل المعمورة وشعوبها على أساس أخلاقي يتميز بالسمو والامتياز مما لم يتسن لأحكام القانون الدولي بلوغه حتى الآن.

 

ومن الجدير بالذكر أن الأحكام الإسلامية لم تكن غايتها على الإطلاق ان تنظيم مجتمعاً مغلقاً، بل إن أحكام الإسلام تهدف أساساً الى تنظيم العلاقات في مجتمع مفتوح الأبواب، يشمل كل شعوب الأرض دون تمييز … يضاف الى ذلك أنها تهدف الى ايجاد تنظيم للجماعة الإنسانية كلها على أساس العدل والشورى، والمساواة في ظل حياة كريمة يسودها الأمن والاستقرار…)([72]).

 

إن الحديث عن خصائص القانون الدولي في الإسلام واسع جداً يضيق استيفاء الحديث عنه هنا، فضلاً عن المقارنة والمقابلة، وما اشتمل عليه من تسامح، ومعان أخلاقية وإنسانية رفيعة.

 

ما من شك أن قانون العلاقات الدولي في الإسلام مصدر عز وفخار، ورفعة للمسلمين، يتضاعف الشعور به لو كان المسلمون في موطن القوة والغلبة بين القوى العالمية؛ فإن تطبيق الشريعة الإسلامية في المحيط الدولي يتطلب عزاً، وكرامة، وهيبة، والهيبة اليوم للقوي المتسلح بسلاح العلم، والتقدم فكراً، وامتلاكه إمكانات مادية، وقوى بشرية واعية، فإذا ما توافر هذا للأمة الإسلامية، ووحدت صفوفها، ومواقفها حينئذ يكون لمبادئها، وقيمها المتسامحة، المرنة حق الفخر والاعتزاز على الأمم بماض مجيد، وحاضر مشرف، ومن ثم يكون أثره الكبير في التأثير على الوسط الدولي، بدون ذلك فإن التحدث عن تلك القيم هو ضرب من التغني بالماضي وأمجاده، لا مكان له اليوم في القاموس الحضاري الحديث؛ إذ لا يغني هذا عن واقع مهزوم، وروح متقاعسة عن اللحاق الجاد للأمم المتقدمة([73]).

الهوامش:

([1]). ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، (تونس: الشركة التونسية للتوزيع)، ص 89.

([2]). سورة فاطر/ آية 24.

([3]). ابن عطية، أبو محمد عبدالحق الاندلسي، المحرر الوجيز، الطبعة الأولى، تحقيق عبدالله الانصاري، والسيد عبدالعال السيد ابراهيم، (قطر: طبع على نفقة الشيخ خليفة آل ثاني، عام 1407 هـ)، ج12، ص 239.

([4]). سورة البقرة/ آية 213.

([5]). ابن عطية، المحرر الوجيز، ج2، ص 208.

([6]). تقديم وتحقيق محمود النواوي ومحمد أبو الفضل، ومحمد خفاجي، (مكة المكرمة: مكتبة النهضة الحديثة، عام 1376هـ) (باب خاتم النبيين) رقم 18، ج3، ص 148.

([7]). سورة البقرة/ 146.

([8]). ابن عطية، المحرر الوجيز، ج5، ص 155.

([9]). سورة آل عمران / آية 82.

([10]). سورة المائدة / آية 15 ـ 16.

([11]). سورة آل عمران / آية 19.

([12]). سورة آل عمران / 83 - 85.

([13]). سورة الأنبياء / آية 104 ـ 108.

([14]). سورة النحل / آية 125.

([15]). سورة الإسراء / آية 52.

([16]). سورة الحج / آية 24.

([17]). أحمد، محمود حسن، العلاقات الدولية في الإسلام، الطبعة الأولى، (دمشق: دار الثقافة العربية للنشر والترجمة والتوزيع، عام1996م)، ص 200.

([18]). سورة الأنبياء / آية 107.

([19]). سورة التوبة / آية 128 ـ 129.

([20]). البقاعي، برهان الدين أبو الحسن ابراهيم بن عمر، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، الطبعة الثانية، (القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، عام 1413 هـ / 1992م) ج9،ص56.

([21]). الطبرسي، أبو الفضل علي بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، (بيروت: دار مكتبة الحياة، 1380 هـ / 1961م) ج11، ص170.

([22]). سورة البقرة / 109.

([23]). سورة النمل / 13 ـ 14.

([24]). الصاوي، أمينة، وعبدالعزيز شرف، جارودي والحضارة الإسلامية، الطبعة الثانية، (جدة: دار القبلة للثقافة الإسلامية، 1405 / 1984م) ص 42.

([25]). سورة المؤمنون / آية 12 ـ 17.

([26]). سورة الحجرات / آية 13.

([27]). سورة التين / آية 1 ـ 8.

([28]). سورة النساء / آية 19.

([29]). سورة الزخرف / آية 84.

([30]). سورة الأنعام / آية 102، الصاوي، أمينة، جارودي والحضارة الإسلامية، ص 49.

([31]). سورة النساء / آية 152.

([32]). ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 78، 87.

([33]). سورة المجادلة / آية11.

([34]). سورة الزمر / آية9.

([35]). الصاوي، أمينة، وعبدالعزيز شرف، جارودي والحضارة الإسلامية، ص50.

([36]). سورة الاسراء / آية 70.

([37]). مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 63 و64.

([38]). المستصفى من علم الأصول، وبذيله فواتح الرحموت، الطبعة الأولى، (مصر: المطبعة الأميرية، سنة 1322 هـ) ج1، ص 287.

([39]). العيبة ـ ها هنا، مثل، والمعنى: أن بيننا صدوراً سليمة في المحافظة على العهد الذي عقدناه بيننا، وقد يشبه صدر الإنسان الذي هو مستودع سره، وموضع مكنون أمره لاعيبة التي يودعها متاعه، وصون ثيابه، وقوله (لا إسلال ولا إغلال) فإن الإسلال من السلة وهي السرقة، والإغلال: الخيانة، يقول: إن بعضنا يأمن بعضاً في نفسه، وماله فلا يتعرض لدمه، ولا لماله سراً، ولا جهراً، ولا يخونه في شيء من ذلك، تعليق الأرنؤوط، شعيب وعبدالقادر، زاد المعاد، ج3، ص299، هامش 1.

([40]). ابن القيم، شمس الدين أبو عبدالله محمد، زاد المعاد في هدي خير العباد، ج3، ص 299.

([41]). سورة الفتح / 1 - 3.

([42]). ابن هشام، ابو محمد عبدالملك بن أيوب الحميري، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وزملاؤه، (بيروت: دار الكتب العلمية)، ج4، ص560.

([43]). ابن هشام، السيرة النبوية، ج4، ص607.

([44]). ابن القيم، زاد المعاد، ج4، ص687، 688.

([45]). الجعوان، محمد بن ناصر بن عبدالرحمن، القتال في الإسلام أحكامه وتشريعاته دراسة مقارنة، الطبعة الثانية، (الرياض: مطابع المدينة، عام 1403 / 1983م)، ص 62.

([46]). سورة الإسراء / آية 15.

([47]). سورة التوبة / آية 29.

([48]). السرخسي، محمد بن أحمد، شرح كتاب السير الكبير، تحقيق صلاح الدين المنجد، (معلومات النشر: بدون) ج1، ص75.

([49]). سورة المائدة / آية 67.

([50]). العمراني، أبو الحسين يحيى بن أبي يحيى بن أبي الخير بن سالم الشافعي اليمني، البيان في مذهب الإمام الشافعي، الطبعة الأولى، اعتنى به قاسم محمد النوري، (جدة: دار المنهاج، عام…) ج12، ص301.

([51]). الجميلي، خالد رشيد، أحكام الأحلاف والمعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون، (بغداد: دار الحرية للطباعة، عام 1407 هـ / 1987م) ص5.

([52]). سورة الإسراء / آية 34.

([53]). ابن القيم، زاد المعاد، ج5، ص88.

([54]). شهاب، مفيد، القانون الدولي والشريعة الإسلامية (مقال من كتاب: الإسلام ومستقبل الحوار الحضاري، أبحاث ووقائع)، (مصر: وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، عام 1418 هـ / 1998م) ص334.

([55]). السرخسي، محمد بن أحمد، شرح كتاب السير الكبير، ج1، ص 133.

([56]). السرخسي، شرح السير الكبير، ج1، 283.

([57]). البهوتي، منصور بن يونس، كشاف القناع عن متن الإقناع، (الرياض: مكتبة النصر)، ج3، ص104.

([58]). البهوتي، كشاف القناع، ج3، ص 105.

([59]). السرخسي، شرح السير الكبير، ج1، ص 358.

([60]). ابن القيم، زاد المعاد، ج3، ص421.

([61]). البهوتي، كشاف القناع، ج3، ص 104.

([62]). ابن القيم، ج3، ص303 - 304.

([63]). ابن القيم، زاد المعاد، ج3، ص644.

([64]). سورة الأنفال / آية 39.

([65]). سورة البقرة / آية 191 ـ 194.

([66]). سورة البقرة / آية 191 ـ 194.

([67]). انظر: البهوتي، كشاف القناع، ج3، صص48، 49، 50، 51، 53، 57، 61.

([68]). سورة المائدة / آية 2.

([69]). سورة القصص / آية 83.

([70]). منصور، علي، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، ص342.

([71]). سورة الأنفال / آية61.

([72]). الإسلام ومستقبل الحوار الحضاري أبحاث ووقائع المؤتمر العام الثامن للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية المنعقد بالقاهرة، ص323، 331، 335.

([73]). انظر: ضميرية، عثمان جمعة، (أصل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين)، مجلة البيان، السنة السابعة عشرة، العدد 180، شعبان 1423 هـ / اكتوبر ـ نوفمبر 2002، ص13.