في الدولة ووظائفها وفصل السلطات رؤية قانونية إسلامية

في الدولة ووظائفها وفصل السلطات رؤية قانونية إسلامية

 

 

في الدولة ووظائفها وفصل السلطات  رؤية قانونية إسلامية

 

الشيخ مصطفى ملص

عضو تجمع علماء المسلمين ـ لبنان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 من الحقائق الراهنة، أن القواعد القانونية، أو القوانين التي تتضمنها، لا تبرز إلى الوجود إلا ضمن نطاق المجتمع السياسي، الذي يضفي عليها صفة الإلزامية.

والمجتمع السياسي، هو المجتمع الذي تظهر فيه السلطة السياسية، وهي سلطة تختلف بطبيعتها القانونية عن سائر السلطات القائمة في المجتمعات غير السياسية كالعشيرة، والقبيلة(عندما لا تكون مستقلة) والسلطة الدينية، وسلطة الجمعية إلى آخر ما هنالك من السلطات التي تخضع لغيرها، وهي تكتلات لا تتكون ولا تستطيع ان تقوم إلا إذا كانت خاضعة لسلطة خاصة بها.

وكما أنه لابد لكل مجتمع قانون، فكذلك لابد لكل مجتمع من سلطة تقوم بقيادته، وهذه الحقيقة تؤلف واقعة علمية اجتماعية لاشك بوجودها في جميع المجتمعات البشرية بدون استثناء، إذ مهما بلغت درجة تطور المجتمع فالسلطة تبرز فيه متجسدة بشخص أو هيئة أو بالمجتمع بأسره(1).

___________________________

1 ـ الوسيط في القانون الدستوري العام ـ د. ادمون رباط ـ الجزء الأول ص 145 ـ 146.

ـ(400)ـ

وهذا الطرح يتوافق عليه المسلمون مع غيرهم. وقد عبروا عنه بصيغ منها ما أورد الماوردي عن وجوب عقد الإمامة لمن يقوم بها إجماعاً(1).

ويرى الإمام الخميني v ان مجموعة القوانين لا تكفي لإصلاح وإسعاد البشر، فإنه يحتاج إلى السلطة السياسية التنفيذية لذا فإن الله عز وجل، جعل في الأرض ـ إلى جانب مجموعة القوانين ـ حكومة وجهاز تنفيذ وإدارة. الرسول الأعظم كان يترأس جميع أجهزة التنفيذ في إدارة المجتمع(2).

لمحة نظرية حول ظاهرة نشوء الدولة:

ان ظاهرة نشوء الدولة، من الظواهر المختلف فيها اختلافا كبيراً، إلا أن الجميع متفقون على ان ظاهرة الدولة هي ظاهرة مستجدة في حياة الإنسانية. فهي لم تكن في عمر الإنسانية الأول حين كان الإنسان يعيش حالة فردية أو شبه فردية، أو حينما كان الإنسان يعيش حياة اجتماعية بدائية بسيطة، وقبل ان يدخل مرحلة المجتمع السياسي(3).

وجهد ارباب الفكر السياسي في تحديد الخطوات الأولى لنشوء الدولة، وحاولوا أيجاد التفسير المنطقي والملائم لها، وقد انقسموا في ذلك إلى مذاهب مختلفة إلا ان النظرية التي حازت احتراماً لا بأس به هي النظرية التي جاء بها جان جاك روسو وهي نظرية العقد الاجتماعي.

أما الماركسيون فقد ذهبوا إلى أن الدولة هي أداة القمع في يد السلطة الحاكمة، وهي ليست وليدة الحقيقة الأخلاقية كما يقول هيجل.

واعتبر انجلز بأن الدولة الحديثة تمثل القوة التي تتحكم اقتصاديا بالطبقة

___________________________

1 ـ الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للمارودي ص 5.

2 ـ الحكومة الإسلامية، الإمام الخميني v ص 230.

3 ـ المذهب السياسي في الإسلام تأليف صدر الدين القبانچي ص 71 إصدار وزارة الإرشاد الإسلامي.

ـ(401)ـ

المسحوقة(1). وزعم انجلز أيضا ان الدولة هي ضرورية فقط في بعض المراحل التاريخية للمجتمعات البشرية، ولكن بزوال الاستغلال، والطبقات، والفروقات بين الناس فإنه لا تبقى حاجة لوجود الدولة(2).

ومن النظريات المتعلقة بنشوء الدولة، ما تفترض ان تكون الدولة قد قامت على أساس تعقيد الحياة المدنية، ومنها ما يفترض ان تكون قد قامت على أساس العقيدة الدينية وبادر إلى إقامتها دعاة الدين أنفسهم.

وهناك افتراض يرى ان الدولة قد قامت إشباعا لنزعة أصيلة في النفس الإنسانية التي تملك استعدادا كامنا للميل إلى السيطرة والتفوق على الآخرين فكانت الحكومة من وحي هذا الميل، وتعبيرا عنه(3).

ويرى السيد محمد باقر الصدر: ان الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء، ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال، من تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل، يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح(4).

أركان ومقومات الدولة:

يذهب معظم فقهاء القانون الدستوري إلى أن أهم عناصر الدولة هي ثلاث الشعب، والإقليم، والسلطان.

______________________________________________________

1 ـ القانون الدستوري العام والأنظمة السياسية ـ حسن منلا ص 17 ـ طبعة 1986.

2 ـ المصدر السابق الجزء الأول: ص 18.

3 ـ اقتصادنا، للشهيد السيد محمد باقر الصدر ص 86 ـ 87.

4 ـ الإسلام يوقد الحياة، السيد محمد باقر الصدر، ص 13، صادر عن دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1410 هـ 1990 م.

ـ(402)ـ

ولن ندخل في بحث عنصري الشعب والإقليم، لاقتصار موضوعنا على العنصر الثالث وهو السلطان وقد يعبر عنه بالسلطة العامة.

ولعل السلطة السياسية، أي سلطة المجتمع السياسي تتميز عن باقي السلطات في المجتمع من حيث كونها السلطة الوحيدة التي تتصف بصفة الإلزام بحيث ان أفراد المجتمع لا يستطيعون التفلت منها، إلا باللجوء إلى الطرق القانونية الخاصة، التي ينص عليها القانون الصادر عن هذه السلطة عينها.

أما بقية السلطات، كالدينية، والرياضية، وغيرها من السلطات الاجتماعية فإنها سلطات اختيارية، لأن الفرد يتمتع بحرية الخضوع لها أو عدمه.

ان هذه السلطة الخاصة بالمجتمع السياسي هي التي شاع تسميتها في القانون الحديث باسم «السيادة»(1).

والسيادة لا يكون لها وجود إلا إذا تجسدت أما بشخص أو بهيئة أو بالمجتمع كله ونظرية السيادة هذه هي المستند التي تستند إليه كافة السلطات في الدولة في اكتساب شريعتها.

والسيادة هي اختصاص الدولة لوحدها، وهي سلطة تمارسها دون ان تكون خاضعة لأي سلطة أخرى أعلى منها، لأن السيادة تتنافى مع الخضوع.

ولسلطة هي اختصاص الدولة لوحدها، وهي سلطة تمارسها دون ان تكون خاضعة لأي سلطة أخرى أعلى منها، لأن السيادة تتنافي مع الخضوع.

ولسلطة الدولة(أي مبدأ لسيادة) قوة السيطرة في إقليمها، وتتخذ هذه القوة أشكالا مختلفة من إمكانية التنفيذ، فهي قوة قانونية نافذة، وهي قوة الحكومة والإدارة على اختلاف أنواعها ومراتبها، وقوة القضاء التي تقترن بها الأحكام الصادرة عن المحاكم.

وهذه العناصر المكونة للدولة، لم يختلف المسلمون فيها عن سواهم، وقد

___________________________

1 ـ الوسيط في القانون الدستوري العام. د. ادمون رباط ـ الجزء الأول ص 147 ـ 148.

ـ(403)ـ

اعتبروا ان عناصر الدولة هي: الأمة ودار الإسلام، والإمامة أو الخلافة التي قد يعبر عنها بالأمر، وعنصر الإمامة أو الخلافة أو الأمر هو عنصر السلطان، الذي ينبثق عنه مبدأ السيادة.

ومن خلال تعريف عدد من الفقهاء والمسلمين نتبين ما أشرنا إليه.

فقد عرف المارودي الإمامة بأنها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا(1).

وعرفها ابن خلدون بأنها حمل العامة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به(2).

ويرى الإمام الخميني v ان الحاكم، أي الولي الفقيه، الذي يتولى إمامة الأمة يملك من أمر الإدارة والرعاية ما يملكه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام فهو يملك أمر الحكم، والقضاء، والفصل في المنازعات، وتعين الولاة، والعمال، وجباية الخراج، وتعمير البلاد(3).

وقرر ابن حزم ان إقامة الدولة واجبة، بالعقل والبديهة، لأن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى عليهم من الأحكام في الأموال، والجنايات، والدماء... وسائر الأحكام كلها ومنع الظلم، وأنصاف المظلوم، وأخذ القصاص، على تباعد أقطارهم، وشواغلهم، واختلاف آرائهم، فلا تصح إقامة الدين إلا بالاستناد إلى واحد أو اكثر من واحد(4).

ويعتبر الإمام الغزالي ان وجود السلطان هو الضمان من الفتن، وانه بغيابه يعم

___________________________

1 ـ الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي ص 3.

2 ـ مقدمة ابن خلدون، ص 180.

3 ـ الحكومة الإسلامية، للإمام الخميني v ص 49.

4 ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل الجزء الرابع ص 87.

ـ(404)ـ

الهرج والمرج، وأن الدين والسلطان توأمان: الدين أساس، والسلطان حارس، وما لا أساس لـه فمهدوم ومالا حارس لـه فضائع(1).

وينتهي الماوردي إلى أن من مقومات الدولة: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح(2).

والذي أردناه من الإسهاب في أيراد فقهاء السياسة المسلمين بيان انهم يرون فيما تقوم به الدولة من أعمال إنّما يختصر في إثبات سلطانها على الأرض والإنسان.

ويأتي توضيح ذلك كتبه د. فتحي الدريني من أنه لا يمكن تحقيق وحدة الأمة في مجتمع سياسي منظم، واقعا، وبما يستلزم ذلك من وجود سلطة قائمة على القوة والمنعة، لحفظ كيان الأمة وسيادتها في الداخل، باستقامة أمرها، واستتباب إلا من فيها، وإقامة العدل الشامل فيما بينها، صونا للنفوس والأموال والأعراض، وقطع دابر الفوضى، والتظالم وتعزيز تلك السيادة في الخارج أيضا، على الصعيد الدولي بتحصين الحدود، وحماية أجوائها وسواحلها، ومياهها، وسد ثغورها بالجند المرابط؛ أقول: لا يمكن تحقيق ذلك عملا، إلا بالدولة(3).

ونخلص إلى القول: أنه بدون مبدأ السيادة، لا معنى لوجود الدولة بمفهومها السياسي، أساسا. وكل السلطات التي تمارسها الدولة إنّما يعود أساسها لفكرة السيادة التي تتمتع بها.

مصدر السيادة في الفقه الدستوري:

عندما نستعرض آراء الفقهاء في المصدر الذي تنبثق عنه السيادة نجد اختلافا بين

___________________________

1 ـ الاقتصاد في الاعتقاد. للإمام الغزالي ص 105 ـ 106.

2ـ راجع كتاب الدكتور فتحي الدريني المسمى خصائص التشريع الإسلامي في السياسية والحكم الصادر عن مؤسسة الرسالة ـ بيروت صفحة 336 وما بعدها.

3 ـ المرجع السابق: ص 329.

ـ(405)ـ

من يقول ان الإله هو مصدر السيادة وبين من يعتبر ان الأمة أو الشعب هو المصدر، على اختلاف أيضا في الفهم والتأويل.

فأنصار الحكم الملكي الاستبدادي يعتبرون ان مصدر سلطة الملوك، هو الله، وانهم إنّما يحكمون بتفويض الهي، وتظهر هذه النظرية من خلال المرسوم الذي أصدره الملك لويس الخامس عشر سنة 1770، والذي جاء فيه ما نصه: «لا نملك تاجنا إلا من الله... والحق بوضع القوانين إنّما يعود إلينا وحدنا، بدون مشورة ولا إشراك»(1).

وخلال الحروب الدينية في أوروبا في القرن السادس عشر، بدأت مقولة ان الشعب هو صاحب السيادة، وان الشعب يمنح هذه السيادة أو يتنازل عنها للملك، وله الحق في مراقبته، ونزع السيادة، وان الشعب يمنح هذه السيادة أو يتنازل عنها للملك، وله الحق في مراقبته، ونزع السيادة منه. وهنا كانت بداية التحول نحو الملكية الدستورية، ثم خرج جان جاك روسو بفكرة العقد الاجتماعي، واستنتج ان صاحب السيادة هو الشعب بأسره، وبدون تفريق بين أفراده، لأن الشعب يضم كل الذين رضوا بالعقد الاجتماعي، بإنشائه، وبقائه على مدى الدهور، وذلك انحدارا من آبائهم وأجدادهم(2).

وقد اختلف فقهاء الإسلام كما اختلف سواهم حول مصدر السيادة فمنهم من قال ان الله هو مصدر السيادة حيث اعتبر السيد محمد باقر الصدر ان الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً، وهذه الحقيقة الكبرى، تعتبر أعظم ثورة شنها الأنبياء ومارسوها في معركتهم من أجل تحرير الإنسان من عبودية الإنسان.

ويرى السيد الصدر ان هذه السيادة لله تعالى، دعا إليها الأنبياء تحت شعار «لا اله إلا الله»، تختلف اختلافا أساسيا عن الحق الإلهي، الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة، قرونا طويلة من أجل السيطرة على الآخرين(3).

___________________________

1 ـ الوسيط في القانون الدستوري العام. د. ادمون رباط ـ الجزء الأول ص 291.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر. ص 17 ـ 18.

ـ(406)ـ

وبين من يرى ان الأمة هي مصدر السيادة في الدولة، ممثلة بأهل الحل والعقد(1).

ومن يرى ان الأمة لا يمكن ان تكون مصدر سلطة الإمام(أي الدولة)(2).

يخرج الدكتور فتحي الدريني بما مفاده، ان السيادة في الإسلام تستند أساسا إلى نصوص، قررت تلك السيادة لشرع الله، ويتولاها عملا، من تختارهم الأمة، عن طريق الشورى لممارسة نيابة عنها(3).

ويعتبر ان التشريع السياسي الإسلامي ولا فقهه يعرفان شيئاً أسمه «مشكلة السيادة أو سند الحكم».

والحقيقة ان في ما ذهب إليه الدكتور الدريني، فهما متطوراً، فالسلطة والسيادة لشرع الله والأُمة، هي المخولة أمر هذه السيادة. وعليها ان تحافظ عليها، وتحفظها، وان لا تسمح لأحد باغتصابها، ممارسة، أو ادعاء.

السلطات المنبثقة عن مبدأ سيادة الدولة

ان مبدأ السيادة يتضمن قيام الدولة الوجبات الملقاة على عاتقها في حماية المجتمع والحفاظ على مصالحه، وتقديم الحلول لمشاكله ولابد لذلك من ان يتجسد في وظائف معينة يقوم بها أفراد وهيئات، بمعنى ان السيادة كسلطة عامة في الدولة، أو كقوة معنوية قانونية ملزمة، ينبغي ان توزع على هيئات تقوم كل منها بممارسة الدور المناط بها.

وإذا كانت العصور القديمة قد شهدت اجتماع السلطات جميعها في يد شخص واحد، أو هيئة واحدة، فإن تطور الفكر السياسي والدستوري قد أدى إلى التسليم بعدم

___________________________

1 ـ راجع نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، الكتاب الأول، الحياة الدستورية، ص 239، تأليف النقيب د. ظافر القاسمي.

2 ـ راجع المذهب السياسي في الإسلام ـ صفحة 220.

3 ـ خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم. د. فتحي الدريني، ص 184 ـ 185.

ـ(407)ـ

صوابية ذلك الأمر، وبضرورة ان توزع السلطة على هيئات متعددة.

وقد استقرت الآراء في معظم الدول، إلا القليل منها، جرى تقسيم السلطات في الدولة إلى سلطات ثلاث هي:

1 ـ السلطة التشريعية.

2 ـ السلطة الإجرائية، أو التنفيذية.

3 ـ السلطة القضائية.

أولا ـ السلطة التشريعية ومهماتها:

ان السلطة التشريعية في المفهوم الحديث عند الغربيين هي السلطة التي تسن القوانين، وتضع التشريعات، وقد يكون من مهماتها، انتخاب الرئيس العام للبلاد، وتعيين أو تسمية رئيس الحكومة، ومراقبة أداء السلطة الإجرائية ومحاسبتها، وسحب الثقة منها مجتمعة، أو من بعض أعضائها، وقد يكون لها مهام أخرى يحددها القانون، وتختلف من دولة إلى أخرى.

والسلطة التشريعية في المفهوم الغربي حينما تقوم بأعماله، فإنها يجب ان تقوم بها وفقا لأحكام الدستور، مع العلم ان تعديل هذا الدستور، قد يكون من صلاحية هذه السلطة منفردة، أو بالاشتراك مع غيرها.

وفي مفهومنا الإسلامي فان السلطة التشريعية قد تتفق مهامها في بعض النواحي، مع المفهوم الغربي، وتختلف في النواحي الأخرى.

ان التشريع الإسلامي يرتكز على قاعدة ان المشرّع هو الله تعالى. أي ان القرآن الكريم، هو مصدر التشريع الأول، مع المصادر الأخرى، المنبثقة عنه أو المستندة إليه.

وهو المصدر الذي يستمد منه الدستور، وتشرع على ضوئه القوانين، وان إحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق، تعتبر بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية، جزءاً ثابتاً

ـ(408)ـ

في الدستور، سواء نص عليه صراحة أم لا.

وان أي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستوريا، ويظل اختيار البديل المعين من هذه البدائل، مر كولا إلى السلطة التشريعية.

وكذلك في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة في تحريم أو إيجاب يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة، ان تسن من القوانين ما تراه صالحا، على ان لا يتعارض مع الدستور...(1).

وكل الحالات التي تركت الشريعة للمكلف اختيار أو اتخاذ الموقف، فإن من حق السلطة التشريعية ان تفرض عليه موقفا معينا، وفقا لما نقدره من المصالح العـامة على ان لا يتـعارض ذلك مـع الدستور(2).

ان هذه المفاهيم يجمع عليها المسلمون سلفاً وخلفاً، وقد لا تجد لها معارضا على ما نعتقد.

أما من ناحية بقية المهام التي تقوم بها السلطة التشريعية، أي في ما عدا ما هو متعلق بالتشريع وسن القوانين، فهي لا تتعارض مع المفاهيم الإسلامية، فيمكن لهذه السلطة ان تمارس الرقابة والمحاسبة للحكومة، وتسمي رئيس الحكومة، وتمنح الثقة للحكومة وتحجبها عنها الخ...

السلطة التنفيذية أو الإجرائية ومهامها:

تتولى السلطة الإجرائية تنفيذ أحكام القانون، وتتولى إدارة مرافق الدولة أما مباشرة

___________________________

1 ـ الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر، ص 18 ـ 19.

2 ـ المصدر السابق، وراجع كتاب خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم ص 346 ـ 347.

ـ(409)ـ

وأما بالواسطة، عبر أيجاد مؤسسات عامة مستقلة، أو تابعة لأحد أجهزة الدولة. وربما كان لبعضها كما في فرنسا صلاحية وضع التشريعات، وهي تقوم بذلك وفقا لأحكام الدستور والقانون، أو بما لا يتعارض معه، كما قد يكون من حق السلطة الإجرائية عقد الاتفاقات الدولة ومنح الامتيازات، وإقامة الصلات، وقطع وشن الحروب.

والسلطة الإجرائية أو الحكومة في نظر الإسلام، خاضعة للنقد النزيه، والتوجيه والتقويم، ورئيسها فرد عادي ليس لـه من الأمر شيء، إلا القيام بمهام التنفيذ، وإقامة العدل الكامل وحفظ الأمن ورعاية الصالح العام، وهو مسؤول أمام الأمة صاحبة المصلحة الحقيقية، بحكم كونه نائباً عنها، في القيام على وظائف الدولة، ومهامها الجسام، فضلا عن مسؤوليته أمام الله تعالى فالحكومة في الإسلام حكومة مدنية عادية، غير انه محكومة بشرع الله تعالى.

وهي خاضعة في تنصيبها وتوليتها مقاليد الحكم، وفي تصرفها وتدبيرها السياسي في الأمة، لتوجيه الصفوة المختارة، وأهل التخصص والكفاءات العلمية المتنوعة، وأولي الأمر، والخبرة، والبصر بشؤون الحياة. وهم من يطلق عليهم أهل الاختيار، أو أولو الأمر، أو أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة، ومنهم الفقهاء، والمجتهدون المتخصصون في التشريع والاجتهاد في الرأي(1).

السلطة القضائية ومهامها:

ان من أول مهمات السلطة القضائية الفصل في النزاعات مهما كان منشأها. وفض الخصومات سواءاً كانت بين الأفراد أو بين الأفراد والجماعات أو بين هؤلاء وبين الدولة وأدارتها، نهما كانت طبيعة المنازعات والخصومات تجارية، أم مدنية أم جزئية

___________________________

1 ـ خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم. د. فتحي الدريني. ص 343 ـ 344.

ـ(410)ـ

أم إدارية أم دستورية، وذلك وفقا للأنظمة المرعية ويعتقد ان مهمات السلطة القضائية، قد أصبحت واضحة أشد الوضوح نظرا لوضوح وصراحة القوانين التي تحد الصلاحيات الخاصة بالمحاكم واختصاصاتها وفي بعض البلدان قد يوكل إلى السلطة القضائية، مهمة الأشراف على الانتخابات وإعلان النتائج، وكذلك بقبول الطعون المقدمة من قبل المتنافسين والبت فيها وتحديد الفائز، أو إلغاء العملية الانتخابية كليا أو جزئيا.

وتجدر الإشارة هنا إلى ان القضاء الإسلامي لم يعرف في تاريخه القيام بمثل هذه المهام وكان اختصاصه منحصرا في الفصل في الخصومات.

ملاحظة ورأي:

هل هذا التقسيم الحالي للسلطات هو التقسيم الأمثل والنهائي؟ بالتأكيد لا يمكن الزعم بذلك الامر حلياً إذ قد تطرأ ظروف أو دواع تحدث معها سلطات جديدة، غير المعروفة حاليا، ويكون لها دور أو وظيفة تؤديها في المجتمع.

ويوجد حاليا من يضيف إلى السلطات الثلاث سلطتين أخريين، اعتبرهما مستقاتين عن بقية السلطات وكانتا موجودتين في الدولة الإسلامية، وهما: السلطة المالية وسلطة المراقبة والتقويم(1).

ان هاتين السلطتين في الدساتير الحالية مدموجتان، إحداهما في السلطة التشريعية وهي سلطة المراقبة والتقويم حيث توكل هذه المهمة إلى المجلس النيابي.

أما السلطة المالية فهي ضمن أجهزة السلطة الإجرائية، حيث تتولى هذه السلطة بواسطة البنوك المركزية، إدارة العملية المالية للدولة لجهة إصدار العملة وإيجاد مصادر

___________________________

1 ـ راجع الإسلام وأوضاعنا السياسية للشهيد عبد القادر عودة، ص 329 ومايليها.

ـ(411)ـ

تمويل، كما ان الدوائر المالية تتولى الجباية.

ان تطور الحياة الاجتماعية السياسية، سيؤدي إلى إضافة سلطات جديدة، أو إلى فصل مصالح تزداد أهميتها عن السلطات القائمة، لتصبح سلطات مستقلة، ضمن الضوابط القانونية والدستورية التي ستوضع لها، وخصوصا في الدولة الإسلامية الحديثة.

ومن خلال التطور الذي أصاب حقلي الإعلام والتربية فإننا نرى ان كلا منهما سيصبح في يوم من الأيام سلطة مستقلة قائمة بذاتها لها قانونها ونظامها الخاص.

 

السلطة الإعلامية:

لقد اصبح الأعلام في عصرنا الحاضر، ضرورة من أهم الضرورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقد احتل دورا متقدما في التأثير على حياة الشعوب وسلوكياتها، واصبح لـه تحكم وتأثير حتى في المسار السياسي للدول والشعوب.

وفي العالم الغربي وكثير من دول العالم، بدأت تطلق على وسائل الأعلام تسمية «السلطة الرابعة»، نظرا للضغط الذي تشكله في المجتمع، وعلى السلطات فيه، مما يجعلها أشد تأثيرا من أية سلطة من السلطات الثلاث.

ومن هنا نرى أن على الدولة الإسلامية ان تضع تنظيماً يؤسس لتحويل الاعلام إلى سلطة يتم من خلالها إدارة عملية الحوار في المجتمع الإسلامي عبر تحويل وسائل الاعلام إلى منابر سياسية وثقافية وفكرية، تتخاطب من خلالها كل القوى الحية والمؤثرة في المجتمع، من أجل الارتقاء بالمجتمع نحو سمو الرسالة التي يؤمن بها.

ـ(412)ـ

السلطة التربوية:

ان الدور الذي احتلته العملية التربوية، والأهمية التي تحظى بها، قد حولها إلى أهم وأخطر عملية جماعية تتم في الهيئة الاجتماعية وقد استطاع الغرب من خلال تنظيم العملية التربوية التي استوردتها بلادنا وطبقتها وفقا لتوجيه واضعيها، ان تحقق قدرا كبيرا من الفصل بين انساننا وماضيه، وتراثه وفكره وقيمه الاجتماعية والأخلاقية، وأوجدت شرخا بين الطالب ومحيطه، وربطته بآليات وتقنيات معقدة، تنتهي به ليكون مجرد آلة، يمكن التحكم بها واستخدامها على الشكل الذي تريده القوة المسيطرة على زمام الأمور في العالم.

وبما ان عملية التربية هي العملية التي يتم من خلالها صياغة الإنسان المسلم ليؤدي الدور الذي خلق من أجله، فهذا يعني ان ضبط هذه العملية هو السبيل الوحيد، من أجل ان لا يقع الإنسان في اغتراب عن ذاته.

من هنا نرى ان عملية التحويل هذه لا يمكن ان تتحقق ما لم تتحول الهيئة التربوية إلى سلطة مستقلة كل الاستقلال، عن باقي السلطات في الدولة، ولنا في تجربة الحوزات العلمية التي اتصفت دائما بالاستقلالية عن السلطة الحاكمة، أي كانت هذه السلطة، مثل واضح، بل نستطيع القول ان الحوزة العلمية بقيادة مراجعها الكبار، كانت دائما سلطة مستقلة. ونرى ان من مهام السلطة التربوية المقترحة القيام بما هو آت:

1 ـ الأشراف على المساجد والنوادي الحسينية وتوابعها.

2 ـ ربط التعليم الابتدائي بالمسجد بحيث تحول المساجد إلى مناهل يتلقى الطفل المسلم فيها لغته الأولى الأساسية، ولغة القرآن، وعلم الحساب.

3 ـ تنقية العلوم أو المناهج من كل الحشو الذي لا يحقق مصلحة للطالب ولامته.

4 ـ إنشاء الجامعات والحوزات العلمية وربطها بمراكز العلم الرئيسية في العالم الإسلامي مثل النجف وقم والأزهر الشريف ومكة والمدينة والزيتونة وغيرها، وجعل

ـ(413)ـ

التعليم متناسبا مع الأساليب الإسلامية التي تهيء العلماء الحقيقيين وليس حملة الشهادات الفارغة من المضمون العلمي.

5 ـ تخريج القضاة والدعاة وحملة العلوم الإنسانية النافعة.

6 ـ الفصل بين العلوم والدراسات الإنسانية وبقية العلوم المهنية والتقنية وجعل هذه الأخيرة مرتبطة بوزارة أو وزارات مختصة. وجعل العلوم التقنية والمهنية في المرحلة الثانية من حياة الطلب الدراسية.

ان هذه الأعباء الكبيرة والخطيرة والضخمة جدا، تحتاج إلى سلطة مستقلة لتنفذها،لتحدث ثورة علمية في العالم الإسلامي.

نظرية الفصل بين السلطات

قابلية السلطة للتجزئة:

ان السلطة في حقيقتها ليست إلا مظهرا لإرادة المجتمع ومشيئته، والحديث عن تجزئة السلطة(بمعنى السلطان) هو كلام فيه تجوز لأن تجزئة السلطان عملية تتنافي مع جوهره، فالسلطان لا يتجزأ ولا يقبل التجزئة في طبيعته الأساسية، أي بما هو تعبير عن المشيئة.

ويتجسد السلطان في قدرة الدولة على العمل باسم الشعب عن طريق من يعينهم دستورها من الأعضاء لتطبيق قوانينها، وتنفيذ مقرراتها، وأيا تكن الصفة التي يتصف بها هؤلاء الأعضاء، ومهما تكن الطبيعة القانونية التي يتصفون بها فإن ما يصدر عنهم من أعمال ليست في النهاية إلا تجسيدا لمشيئة الدولة، وهذه المشيئة لا تتجزأ أسوة بكل مشيئة أخرى.

ولكن لهذا السلطان الوحداني بجوهره وظائف، لابد للدولة من أجرائها وأعضاء

ـ(414)ـ

لابد لها من العمل بواسطتهم في مزاولتها لهذه الوظائف فللدولة وظائف مختلفة يزداد عددها، وتتوطد قوتها بتقدم الدولة وتطورها. كما ان لها أعضاء يتولون هذه الوظائف بالإضافة إليها.

وهذه الوظائف، هي النشاطات التي تتولاها في مختلف الميادين التي إليها سلطان الدولة، من سياسة، واقتصاد، واجتماع، وثقافة، إلى ما هناك من الأوجه المتعددة، العائدة للحياة العامة، التي تلتحق تباعا بالدولة المعاصرة بقدر تطورها، وازدياد مسؤولياتها، واشتداد حاجة المجتمع إليها(1).

ويرى الدكتور ادمون رباط في مؤلفه الوسيط في القانون الدستوري، ان إطلاق تعبير «الفصل بين السلطات» هو تعبير خاطئ، والتعبير الصحيح كما يراه هو «الفصل بين الوظائف» أي وظائف الدولة.

ولكن استعمال تعبير الفصل بين السلطات قد شاع وانتشر وثبت في جميع كتب الفقه الدستوري. لذلك وان كنا نميل إلى رأي الدكتور رباط فإن التعبير قد اصبح مصطلحاً لذلك سنستعمله على هذا الأساس.

 

نشوء مبدأ الفصل بين السلطات:

بدأ الحديث عن مبدأ الفصل بين السلطات أو وظائف الدولة منذ زمن بعيد جدا، فقد ذهب أرسطو، الفيلسوف اليوناني المعروف في كتابه «السياسات»، إلى القول بأن كل نظام دستوري يكون مشتملا على ثلاث سلطات أساسية، وأنه لابد لهذه السلطات من ان تكون منسجمة، فيما بينها، ليستقر الحكم ويأتي بثماره(2).

وتطرق إلى المسألة عدد كبير من الفلاسفة المتقدمين مثل: مارسيليو دي بادونا،

___________________________

1 ـ الوسيط في القانون الدستوري العام، د. ادمون رباط ـ الجزء الثاني ص 503 ـ 504.

2 ـ كتاب السياسات لأرسطو، ترجمة الأب برباره، بيروت، ص 223 طبعة 1957.

ـ(415)ـ

واراسم Erasme، والفرنسي جان بودان Jean Bodim، واضع فكرة السيادة للدولة، والايـرلندي جـوناثـان سـويفت Jonathan Swift. وكذل غروسيوس Grotius وفولف Wolf وبومندورف Puffendorf من مدرسة قانون الطبيعة والبشر(1).

 غير ان ما تناول المسألة كان أفكارا مبعثرة، ولم تصل إلى حد تصبح معه نظرية واضحة إلا مع جون لوك John Locke، الإنجليزي في مؤلفه عن الحكومة المدنية.

Tow treatises on Government الصادر سنة 1688.

وتوضح المبدأ بشكل كامل مع مونتسكيو في كتابه روح الشرائع الصادر سنة 1748 حيث أبان وظائف الدولة الأساسية، فأظهر ما يسفر عن تمركز الوظائف في الشخص الواحد أو الهيئة الواحدة من الخطر على الحرية وذلك بقوله: «عندما تجتمع في شخص واحد أو في هيئة واحدة من الحكام، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية لم يعد ثمة حرية » وسيضيع كل شيء إذا ما احتفظت بالسلطات الثلاثة ذات الهيئة التي تتكون من الأعيان أو النبلاء أو من الشعب.

فصل السلطات في الدولة الإسلامية:

من خلال استقرائنا للوقائع المنقولة إلينا منذ عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، نجد ان فصل السلطات أو الوظائف كان قائما، عمليا، وان لم يظهر كمبدأ دستوري واضح.

فالتشريع في عهد الرسالة لم يكن إلا ما يأتي به الوحي عن الله عز وجل، ولم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يد فيه(قل إنّما اتبع ما يوحي الي) وكثيرة هي

___________________________

1 ـ الوسيط في القانون الدستوري العام. د. ادمون رباط ـ الجزء الثاني ص 513 ـ 514.

ـ(416)ـ

المسائل التي عرضت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولم يكن يبدي فيها رأياً حتى ينزل عليه الوحي بالجواب كقصة المجادلة، وأحياناً كان يبدي رأيا أو يتصرف تصرفا فيأتي الوحي مخالف لما فعله عليه الصلاة والسلام كقصة أسرى بدر.

أما سلطة التنفيذ فكانت بيده صلّى الله عليه وآله وسلم فقد اجتمعت في يده وظائف الدولة من حكم وقيادة وإدارة.

أما القضاء فقد كان عليه الصلاة والسلام يقضي بين الخصوم بنفسه، ملتزما النص التشريعي، أي القرآن الكريم. أما في المناطق البعيدة عنه فكان يعين لها القضاة المستقلين عن العمال أو الولاة، ويتبين ذلك من إرساله معاذ قاضيا إلى اليمن.

ومع انتقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وانتقال السلطة إلى الخلفاء ظل هؤلاء(رضي) يقضون بين الناس في مواضعهم بأنفسهم ويكلفون قضاة آخرين بالقضاء في الأماكن البعيدة، فقد عين أبو بكر الصديق شريحا قاضيا واستمر في منصبه إلى زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

أما التشريع فقد ظل مستقلا استقلالا تاما عن سلطة الخلفاء، حيث أدى الفقهاء مهمتهم في فهم النصوص، واعملوا قواعدهم الأصولية في استخراج الأحكام الشرعية. وقد شهد التاريخ الإسلامي وقائع متعددة حصل فيها الصدام بين الحاكم والفقيه منها ما حصل لأئمة أهل البيت، ولأبي حنفية ومالك والشافعي واحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وغيرهم كثير. وقد وقف العلماء والفقهاء، المواقف المشرفة التي حفظت كرامة العلم والعلماء، وأبو الخضوع لرغبة الحاكم رغم الترغيب والترهيب.

ورغم ما تميز به العلماء من استقلال في تأدية رسالتهم والقيام بواجبهم الشرعي.

إلا ان الأمر لم يرق إلى حد اعتبار الفقهاء سلطة تشريعية، كما هو معروف في العصر الحالي، لها نظامها الخاص كهيئة مستقلة أو ذات حصانة. ولم يكونوا يشكلون أي هيئة رغم ما عرف في الفقه الدستوري الإسلامي عن أهل الشورى وأهل الحل والعقد.

ـ(417)ـ

أهل الشورى:

أهل الشورى تعبير اسلامي أول ما أطلق على الخمسة الذين سماهم عمر بن الخطاب لينتخبوا خليفة لـه من بعده، ولم يعرف لهذه الهيئة التي سميت أهل الشورى دور بعد اختيارهم لعثمان بن عفان بالطريقة التي اختير بها أميراً للمؤمنين.

وبعد مقتل عثمان أجمع جمهور الصحابة على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ليكون أميراً للمؤمنين بعد عثمان وفي رواية منسوبة لمحمد بن الحنفية ان بعض الناس دخلوا على علي عليه السلام في بيته بعد مقتل عثمان فقالوا: ان هذا الرجل قتل، ولابد من إمام للناس.

قال علي عليه السلام: أو تكون شورى.

قالوا: أنت لنا رضا.

قال: فالمسجد اذن يكون عن رضا من الناس.

فخرج إلى المسجد فبايعه من بايعه، وبايعت الأنصار علياً إلا نفراً يسيراً...»(1).

ويتبين من رد أمير المؤمنين عليه السلام أنه عرض عليهم الشورى فأبوا واعتبروا ان الأمر قد آل إليه بالإجماع والرضا منهم، ثم أصبح انتقال الخلافة يتم بولاية العهد أو بالاستيلاء أو بالقوة والقهر ما سمي بالشورى.

أهل الحل والعقد:

أهل الحل والعقد، ترتيب دستوري اسلامي، ابتكره علماء السياسة الشرعية المسلمون، ولا يوجد نص عليه صريح لا في القرآن ولا في السنة.

___________________________

1 ـ نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، الكتاب الأول، الحياة الدستورية، ظافر القاسمي ص 242.

ـ(418)ـ

ويغلب على الظن ان هذا الترتيب الدستوري كان تطبيقاً، وتطويراً لنظام أهل الشورى الذي أحدثه عمر بن الخطاب، والذي لم يكتب لـه التطبيق كما إراده هو.

وبقي نظام أهل الحل والعقد في الحدود النظرية، يتنازله المؤلفون، والباحثون، وينقله الخلف عن السلف، ولا نرى لـه مجالا في واقع الحياة الإسلامية السياسية على اختلاف العصور.

ولم يعرف من هو أول من أطلق هذا التعبير(أهل الحل والعقد) ولكنه يرد في مباحث الأصول عند الحديث عن الإجماع، ويرد في كتب الفقه السياسي والدستوري عند بحث موضوع الإمامة العظمى أو الخلافة، واختيار الخليفة(1).

وتعددت الآراء فيمن يشكلون أهل الحل والعقد، وما هو عددهم.

فقد رأى البعض انهم الفقهاء الذين يمتازون بالحصافة، وعمق الدراية والإخلاص لدين الله ويقول ابن عباس ان من يتصفون بهذه الصفات هم أولوا الأمر.

ويقول الدكتور محمد رمضان سعيد البوطي: «إذا تبين لنا ان أهل الحل والعقد ليسوا إلا الفقهاء الذين بلغوا درجة الاجتهاد عرفنا من هم الذين يصنفون الناس، ويشيرون إلى أهل الحل والعقد من بينهم؛ ان القواعد التي دونها علماء الأصول، في باب الاجتهاد هي التي تعينهم وتعطيهم هذه الصفة(2).

أما الإمام محمد عبدو فيقول كما يروي عنه السيد محمد رشيد رضا: انه فكر في هذه المسألة فانتهى به الفكر إلى ان جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين، هم الأمراء والحكام ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة.

___________________________

1 ـ المصدر السابق ص 232 وما يليها.

2 ـ المصدر السابق ص 236.

ـ(419)ـ

ويضيف السيد رشيد رضا في تفسيره المنار قائلا: يجب ان يكون في الأمة رجال أهل بصيرة، ورأي في سياستها ومصالحها الاجتماعية، وقدرة على الاستنباط، يرد إليهم أمر الأمن والخوف، وسائر الأمور الاجتماعية والسياسية، وهؤلاء هم الذين يسمون في عرف الإسلام بأهل الشورى أو أهل الحل والعقد(1).

وتراوح القول بأقل عدد مقبول لأهل الحل والعقد بين شخص واحد، وثلاثة أشخاص وخمسة أشخاص، ولا مستند يعتمد عليه في كل تلك الأقوال إلا حوادث لا تنهض حجة من مثل هذا الأمر.

والذي نريد ان نصل إليه، ان هناك التباسا يقوم في أذهان العديد من المسلمين، إذ يعتقدون ان مجلس الشورى أو مجلس أهل الحل والعقد، لـه دور مساوٍ لدور المجالس التشريعية في العصر الحديث، والحقيقة ان دور أهل الشورى أو أهل الحل والعقد، في الواقع العملي في التاريخ الإسلامي، لا يتعدى دور مجلس الانتخاب للخليفة، وهو دور تلعبه المجالس التشريعية في الزمن الحاضر، ولكن ليس بكونها هيئة تشريع، وإنّما يتحول المجلس التشريعي عن قيامه بانتخاب رئيس الدولة، أو إثناء المدة الدستورية لانتخابه إلى هيئة انتخابية يتعذر عليها القيام بأي دور تشريعي والقانون اللبناني مثال على ذلك.

والمستفاد من عبارة أهل الشورى ان مهمتهم معاونة الخليفة بإبداء الرأي أو المشورة وهذا متوافق عليه عند أغلبية من كتب في المسألة، إلا أنهم اختلفوا حول إلزامية الشورى للخليفة أو الغمام فقال بعضهم ان الشورى ملزمة، وذهب الجمهور إلى ان الشورى غير ملزمة للإمام أو الخليفة، أي ان الخليفة حر في اتباع الرأي الذي يراه

___________________________

1 ـ تفسير المنار: الجزء الثالث ص 11.

ـ(420)ـ

ولو جاءت الشورى مخالفة لذلك الرأي(1).

والحقيقة ان السلطة التشريعية في القانون الدستوري المعاصر هي أبعد أثرا وأشد خطرا وأعظم صلاحية، من هاتين الهيئتين المعروفتين بأهل الشورى، أو أهل الحل والعقد.

السلطة التشريعية ومدى موافقتها للشرع الإسلامي:

ان السلطة التشريعية كما هي في الغرب، وكما اقتبستها عنه معظم دول العالم الإسلامي، ليست الصيغة المثلى التي تتطابق، أو تتوافق مع الشرع الإسلامي، ذلك ان مصدر السيادة في الدول الغربية المسماة ديمقراطية، هو الشعب، لذلك فإن نواب الشعب يقررون التشريعات التي يرونها مناسبة لمصالحهم دون التقدي بأي قيد سوى الدستور الذي يملكون حق تعديله. أما في الفهم الإسلامي فالله هو مصدر التشريع والسيادة لشرع الله والشعب مستخلف من الله عز وجل، لعمارة الأرض مؤتمن على السيادة والنواب أو الفقهاء، الذين يشكلون السلطة التشريعية، لا يستطيعون سن التشريعات التي تعارض الشرع الحنيف، الذين لا يملكون الحق في تعديله، وإنّما يخضعون إليه، وكل ما ورد فيه نص فان مهمة المتشرع تتوقف عند واجب العمل على فهم النص واستخراج أحكامه وفقا لقواعد أصولية ثابتة.

ومجلس التشريع الإسلامي هذا يجب ان يكون مستقلا عن أي سلطة أخرى مهما كانت في قراراته وأعماله. ويجب أن يكون مشكلاً من الفقهاء في العلوم الدينية الشرعية والدنيوية، التي لها علاقة بحياة الأمة وتطورها ويجب أن يكون لكل علم ممثلوه، أو

___________________________

1 ـ راجع في هذا الموضوع مؤلف الدكتور علي محمد لاغا المسمى الشورى والديمقراطية، بحث مقارن في الأسس والمنطلقات النظرية، توزيع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع(مجد) طبعة 1983، بيروت.

ـ(421)ـ

حملته ضمن هذا المجلس.

مجلس الأمة:

من الممكن ان يقترن مع هذا المجلس التشريعي الذي تحدثنا عنه، مجلس آخر تكون لـه الصفة التمثيلية للشعب، بكافة شرائحه، يمثل أعضاؤه كافة المناطق والقوى السياسية في المجتمع، ويسمى مجلس أهل الحل والعقد. ويتولى بالتعاون مع المجلس التشريعي في اجتماع أو هيئة يصيران فيها مجلسا واحدا يسمى حينئذ مجلس الأمة، يتولى كل الأعمال التي تقوم بها السلطة التشريعية، التي لا علاقة لها بالتشريع، مثل تعيين رئيس الحكومة ومنح الحكومة الثقة، ومناقشة الموازنة العامة، والخطط الحكومية، والموافقة على المعاهدات والاتفاقات الدولية، ومنح الامتيازات، ومسائل الثروة القومية.

السلطة القضائية ونظرية الفصل:

من المعروف ان مهمة السلطة القضائية الأساسية هي الفصل في الخصومات أياً كان منشؤها. غير ان الاختلاف لم يزل قائما بين العلماء، حول ما إذا كانت السلطة القضائية هي مستقلة عن السلطة الإجرائية، أو إنها تؤلف جزءاً منها. فالقائلون بأن السلطة القضائية هي جزء من السلطة الإجرائية يدفعهم إلى ذلك اعتبارهم ان كلا السلطتين، تهدف إلى تنفيذ القانون، مما يسبغ على السلطة القضائية طبيعة إجرائية، وهذا يؤدي إلى عدم إمكانية إنشاء سلطة قضائية مستقلة، قائمة بذاتها، منفردة عن السلطة الإجرائية. وفي هذه النظرية يكون سلطان الدولة مشتملا على وظيفتين أو سلطتين إجرائية وتشريعية.

والنظرية الحديثة تجد ان في السلطة القضائية، وظيفة تختلف بطبيعتها القانونية،

ـ(422)ـ

عن وظيفة السلطة الإجرائية، اختلافا جوهريا تبرز مظاهر على الأخص بهيئة الأعضاء الذين يتولون كلا منهما وهم الحكومة والإدارة للسلطة الإجرائية، والمحاكم في السلطة القضائية(1).

ومن الأدلة على الاختلاف بين السلطتين كيفية تشكيل الهيئة القضائية من قضاة متطلعين في علم القانون، والشكل الذي تتخذه المحاكم، والقواعد التي تطبقها والأصول التي تتبعها.

فالقضاء يبدو بشكل وحدة مستقلة بروحها ونظامها مما يجعلها مستحيلة الاندماج في الإدارة وإذا تنوعت هذه الوحدة بمحاكمها المختلفة من جزائية ومدنية وإدارية، فإن هذه المحاكم تبقى مؤلفة في تنوعها من أجزاء لا تتجزأ من السلطة القضائية(2).

ولكن هذه الشخصية الخاصة التي يتمتع بها القضاء، لم تكن حائلا دون ارتباطه بأصول تشكيله على الأقل بالسلطة الإجرائية، ذلك ان القضاء في الأنظمة الحديثة يبدو متصلا في أصول اختيار اعضائه بالحكومة، وعلى الأخص بوزارة العدل فيها مما يجعله في واقعه التأسيسي مصلحة من مصالح الدولة، وهي الحال القائمة في معظم الأنظمة الدستورية المعاصرة، حتى في الولايات المتحدة حيث أراد الدستور أن يكون القضاء سلطة مستقلة، بإنشائه المحكمة العليا، في حين أنه لم يجد بدا من ان ينيط برئيس الولايات المتحدة، أمر تعيين أعضائها، وبالكونغرس عن طريق القوانين التي يسنها.

القضاء في الإسلام ونظرية الفصل:

لم يكن القضاء مستقلا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولا في عهود

___________________________

1 ـ الوسيط في القانون الدستوري العام ـ د. ادمون رباط ـ الجزء الثاني ص 551 ـ 552.

2 ـ المصدر السابق: ص 553.

ـ(423)ـ

الخلفاء الأربعة فقد ورد ان النبي الذي كان يمثل السلطة التنفيذية بصفته رأس الدولة الإسلامية كان يقضي بين الخصوم بنفسه وكان يكلف غيره للقضاء في البلاد البعيدة عنه.

ومن قضائه صلّى الله عليه وآله وسلم في الأمصار علي ومعاذ .

ورد عنه قولـه «يختصم إليّ الرجلان فيكون أحدهما الحق بحجته من الآخر فأقضي لـه.

وورد أيضا قولـه لمعاذ بن جبل «إذا عرض لك قضاء فبما تقضي..»

وقولـه لعلي كرم الله وجهه: «إذا عرض لك الخصمان فلا تقضي لأحدهما حتى تسمع الآخر...»

وكان أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي يتولون القضاء بأنفسهم في مكان وجودهم ويرسلون غيرهم إلى بقية البلاد.

ويقال ان معاوية هو أول من استقضى ودفع القضاء إلى غيره(1).

وأول من أوجد منصب قاضي القضاة هو الخليفة العباسي المنصور الذي ولاه لأبي يوسف وكان لا يعزل قاضيا أو يوليه إلا بمشورته، ثم أعطى قاضي القضاة حق تولية القضاة من غير ان يرجع إلى الخليفة(2).

والجدير ذكره ان القضاة لم يكن لهم حق النظر في القضايا الجزائية، والحدود والقصاص، وكان ذلك من اختصاص الحاكم أو الخليفة مباشرة.

ومع ان تولية القاضي وعزله كان في يد الخليفة، فقد كان القضاة يدركون ان الإسلام يوجب عليهم إلا يجعلوا لأحد سلطانا عليهم في قضائهم، وان لا يتأثروا بغير الحق والعدل وان يتجردوا عن الهوى، وان يساون بين الناس جميعا ان الله يأمركم ان

___________________________

1 ـ عبقرية الإسلام في أصول الحكم، د. منير المجلاني، ص 342، دار النفائس بيروت.

2 ـ المصدر السابق: ص 343.

ـ(424)ـ

تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتهم بين الناس ان تحكموا بالعدل».

وتاريخ القضاء الإسلامي قاطع في ان القضاة كانوا دائما مستقلين في عملهم لا سلطان لأحد عليهم ولا يخضعون في قضائهم إلا للحق والعدل(1).

وقد قضى شريح على عمر بن الخطاب في خلافته، وقضى ضد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في خلافته. وكلاهما ترافع إليه وهو يعتقد أنه محق.

ومما يؤكد الطبيعة المستقلة للقضاء عن باقي السلطات في الإسلام، ان الإمام يعين القاضي بمجرد تعيينه نائبا عن الإمام، وإنّما نائبا عن الأمة لذلك لا يعزل القاضي من عمله بموت الإمام أو عزله.

روي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه لتشريح:

«يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي أو شقي».

وكان شريح هذا قد شغل منصب القضاء قرابة خمسين عاماً، وكان متملقا لمعاوية يمحه ويثني عليه، ويقول فيه ما ليس لـه بأهل، وكان موقفه هذا هدماً لما تبنيه حكومة أمير المؤمنين عليه السلام إلا ان عليا عليه السلام لم يستطع عزله، لأن من كان قبله قد نصبه، ولم يكن عزله بسبب ذلك في متناول أمير المؤمنين عليه السلام، إلا انه اكفتى بمراقبته وردعه عن الوقوع فيما يخالف الشرع(2).

وعلى هذا الأساس فإن القضاء يعتبر سلطة مستقلة في المفهوم العام عند المسلمين، لا يختلف عما هو متعارف عليه في أيامنا في الشرائع الدستورية الحديثة والأدلة التي أوردناها كافية وتعطي صورة واضحة على ذلك.

___________________________

1 ـ الإسلام واوضاعنا السياسية، الشهيد عبد القادر عودة ص 236.

2 ـ كتاب الحكومة الإسلامية، للإمام الخميني v ص 74.

ـ(425)ـ

السلطة الإجرائية ونظرية الفصل:

السلطة الإجرائية هي السلطة التي تتولى تنفيذ القوانين وإدارة الدولة، ولها في الحقيقة وظيفتان مختلفتان في طبيعتهما، يجريهما عضوان منفصلان في مصدر وجودهما وأساليب أعمالهما، وهما السلطة السياسية الحكومية التي تتولاها الحكومة المسؤولة. والسلطة الإدارية التي تمارسها الإدارة باستمرار ودوام، وأنه إذا كان للأولى دائرة من الإمكانية لإجراء أعمالها السياسية في الداخل والخارج، مستقلة عن قيود القانون ومعاملاته، فلم يكن على الثانية سوى التقيد في جميع أعمالها، وبدون استثناء بحدود القانون وأحكامه.

ومن هذا التفريق نشأت النظرية المعروفة بالقانون الإداري، وهي من ابتكار مجلس الدولة الفرنسي(1). فأصبح اختصاص الحكومة بإجراء الأعمال السياسية كالمعاهدات والاتفاقات الدولية وإقامة العلاقات وقطعها وحل البرلمان لا يخضع لرقابة القضاء الإداري. في حين ان أعمال الإدارة تظل خاضعة بكاملها للقانون وبالتالي لرقابة القضاء الإداري.

والحديث عن السلطة الإجرائية كسلطة مستقلة يعتبر من نافلة القول إذ إنها السلطة التي يخشى من خطرها على بقية السلطات وهي كانت على مر التاريخ تمارس طغيانها على السلطات الأخرى بل ان نظرية الفصل بين السلطات وإقامة التوازن قد وضعت للحد من طغيان السلطة الإجرائية.

وفي الدولة الإسلامية كان أمر استقامة السلطة الإجرائية الممثلة كما قلنا بالخليفة أو الحاكم أو السلطان متعلقا بصلاح الخليفة وتقواه، فمع الحاكم الصالح يسود العدل ومع الحاكم الطاغية يسود الطغيان.

___________________________

1 ـ الوسيط في القانون الدستوري العام ـ د. ادمون رباط، الجزء الثاني ص 547.

ـ(426)ـ

الأسباب الموجبة للأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات:

ان مبدأ فصل السلطات الذي عرفته الغربية في اواخر القرن الثامن عشر على يد المصلح والمفكر الفرنسي مونيسكيو، والذي وجدنا ان أرسطو، قد نبه إليه، وطبق عمليا في الشريعة الإسلامية ليس هدفا بحد ذاته وإنّما هو وسيلة، تتجنب بها الشعوب طغيان الحكام.

لقد عاشت الشعوب الأوروبية طغيان الحاكم الفرد وتسلطه واستئثاره بالسلطة دون ان يكون لـه رادع، من قانون أو ضمير، هذا الحاكم الذي كان يستند في طغيانه ومصادرته لحقوق الشعب وحريته إلى تفويض الهي مزعوم، يدعي به أنه ظل الله على الأرض.

لذلك سعى العقلاء والحكماء والمصلحون، إلى هذا التدبير، للحد من تعسف الحكام وجورهم. الذين كانوا يملكون حق وضع الشرائع وتنفيذها وتعديلها كلما دعت مصلحتهم لذلك. فنادى المصلحون والمفكرون بضرورة فصل التشريع عن التنفيذ بجعل كل وظيفة بيد سلطة تكون مستقلة عن الأخرى ـ غير خاضعة لتأثيرها.

وقد أدى القول بمبدأ فصل السلطات أو الوظائف في الدولة إلى القول بمبدأ آخر هو مبدأ رقابة السلطات، بعضها على الأخرى، وهو يعطي ضمانة للشعب، بأن كل سلطة وهي تمارس وظيفتها، تكون تحت مجهر النقد والتقويم وعين الملاحظة والمحاسبة. خصوصا وان الرقابة ليست رقابة نظرية، وإنّما هي رقابة مقترنة بصلاحيات المساءلة والمحاسبة، والتقويم، عبر إعطاء السلطة الإجرائية حق حل السلطة التشريعية وإعادة انتخابها، وعبر إعطاء السلطة التشريعية حق حجب الثقة عن السلطة الإجرائية الممثلة بالحكومة وإسقاطها.

ان الشريعة الإسلامية التي حملت في ثناياها، منذ يومها الأول مبدأ الفصل بين وظائف الدولة، دون ان يأخذ هذا المبدأ شكل النص الدستوري الواضح، لم يكن ذلك

ـ(427)ـ

مانعا من ممارسة هذا الفصل بين السلطات أو الوظائف، وخصوصا وظيفة التشريع التي كان أساسها القرآن الكريم، وبيان النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ثم الفهم الفقهي الذي مارسه علماء الأمة وأئمتها وفقهاؤها.

وكذلك وظيفة القضاء التي عرفت استقلالا عن إرادة الحاكم ورغباته، والتي خضع الحاكم لها عندما كان طرفا أو خصما، وأهم دليل على خضوع الحاكم ورضوخه لحكم القضاء المنفذ لنصوص الشريعة، حادثة فتح مدينة سمرقند في آسيا الوسطى، التي دخلها الجيش الإسلامي دخولا لم يكن متوافقا مع الأحكام الشرعية، في الفتح أو الحرب، حيث أخذ أهلها على حين غرة. فاشتكوا إلى الخليفة الذي أحال الأمر على القاضي الذي حكم لأهل سمرقند بمطالبهم وقضى حكمه بانسحاب الجيش الإسلامي إلى مواقعه التي كان فيها قبل دخوله المدينة واعتماد الأسلوب الشرعي في الفتح(1).

ولاشك في ان عددا كبيراً من الخلفاء أو الحكام، لم يكونوا يراعون أحكام الشرع وكانوا يمثلون حالة الطغيان، مستخفين بالشرع وأحكامه، ولكن الخروج على أحكام الشرع، لا يعني نقصا أو عيبا في أحكامه، إنّما قد يكون بسبب عدم وجود آلية منظمة ومعترف بها، وهذا ما يجب العمل لإيجاده في العصر الحاضر، وعلى فقهاء القانون الدستوري يقع عبء القيام بهذه المهمة، مستفيدين في ذلك من قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وما أوجدته من قواعد دستورية، ومن تجربة يجري خوضها في السودان، واحترام متزايد يحظى به الفقه الإسلامي بكل فروعه وتشعباته، خصوصا على صعيد المبادئ التي تتعلق بالدولة والدستور من قبل الأبحاث العلمية الفقهية والقانونية والدستورية، التي تشهدها الجامعات في العالم.

ويجب التنبه إلى ان صلاح حاكم في عصر من العصور ليس ضمانة للشعب، ذلك

___________________________

1 ـ نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، الكتاب الأول، الحياة الدستورية، ص 404.

ـ(428)ـ

إن الحاكم الصالح وغير الصالح إلى زوال. ولا يمكن إيجاد ضمانة ضد الطغيان والجور والعسف، إلا بإيجاد القواعد الدستورية الواضحة، وإيجاد المؤسسات الكفيلة بالسهر على تنفيذ هذه القواعد، وتأصيل كل ذلك في عقول وأذهان الشعب المسلم.

ملاحظة أخيرة، لقد تحدثنا في هذه المقالة عن السلطة الإجرائية بشكل عام، كحكومة سياسية وإدارة، ولم نتطرق إلى علاقة الإمام أو الخليفة، بهذه السلطة والدور الذي يناط به، وهل هو جزء من هذه السلطة أم ان لـه دورا أعلى؟ وهل هو رأس السلطة أم رأس الدولة؟