كلمة الدكتور جلّول الجريبي

كلمة الدكتور جلّول الجريبي

 

 

كلمة الدكتور جلّول الجريبي

 

وزير الأوقاف والشؤون الدينية للجمهورية التونسية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأسعد الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

سماحة آية الله الشيخ محمّد علي التسخيري الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية!

حضرة معالي الأستاذ أحمد مسجد جامعي وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية!

حضرات العلماء الأجلة أيها الملأ الكريم!

 

سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

كل عام وأنتم وسائر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بألف خير. ليست الصدفة قد جاءت بهذا اللقاء لأن العلماء يقولون من أمر بصدفة فهو جاهل. إذا ان هو إلا حرص وترتيب من قبل إخوة أعزاء أخص بالذكر والشكر سماحة آية الله الشيخ محمّد علي التسخيري الأمين العام للمجمع

 

 وسماحة الشيخ النعماني حفظهما الله وجزاهما عنا خير الجزاء. أتاحا لي هذه الفرصة أن أحضر إلى هذا البلد الشقيق. والأصل في زيارة رسمية بدعوة من أخي العزيز زميلي وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة ولكن أبى سماحة الشيخ أمين المجمع إلا أنّ يشرفني في هذا اللقاء وأنا سعيد بذلك، وان يتيح لي هذه الفرصة لكي أسهم في هذا المحفل العلمي المتميز في هذا المؤتمر العالمي الذي يعقده كل عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بالتعاون مع رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية بالجمهورية الإسلامية الإيرانية. تعقد هذه الندوة ويعقد هذا الملتقى السنوي بمناسبة عزيزة على كل المسلمين تيمناً بذكرى مولد خير الورى النبي المصطفى (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم) الذي أذن ميلاده بميلاد القيم ومباديء ومثل بدلت وجه العالم تبديلا وغيرت مجرى التاريخ تغييراً.

 

اسمحـوا لي حضــرات العلمــاء الأجلة حضرات الحضور الكرام … ــ بصيغة التذكير ــ ان أزف هذه المشاعر إلى أخواتي وأخوتي في هذا البلد الشقيق والى رئيسهم فخامة الرئيس محمّد خاتمي أعانه الله وسدد خطاه واستسمحكم كذلك في أن أشير إلى ان هذا التلازم الذي لم ينفك منذ خمس عشرة سنة لأن هذه الدورة للمؤتمر هي الدورة الخامسة عشرة، هذا التلازم الذي لا ينفك بين احياء هذه الذكرى العطرة وعقد هذا المؤتمر لا شك أن في ذلك دعوة ضمنية خفية ومعلنة. كي يكون الدرس الأكبر من احياء هذه الذكرى هو الوقوف أمام هذا الحدث التاريخي العظيم اجلالاً وإكباراً وان يتخذ ذلك الحدث منطلقاً على دوائر البحث والتمحيص ومعرفة أين نحن من نبينا الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وأين نحن من رسالته الطاهرة النقية ومن قيمها السمحاء الزكية.

 

لست في حاجة إلى التفصيل ولا إلى التعليل في ما تضمنته الرسالة المحمدية من دعوة للمسلمين متأكدة وملحة وصريحة للتقارب والتلاقي والتحقق والتآخي والوحدة والاجتماع وفي مقابل ذلك ما في هذه الرسالة المحمدية من دعوة إلى التحذير والتنبيه لما من شأنه ان يكرس التباغض والتحاسد والتذمّر والافتراق في صفوف المسلمين.

 

إن الإسلام تجاوز بهذه الدعوة الدائرة الضيقة دائرة المجتمع الإسلامي ليصل بها إلى دائرة إنسانية قاطبة.. هذه الإنسانية التي ينظر إليها الإسلام على أنها وحدة لا تفرق بينها الأعراق ولا الأجناس ولا الألوان ولا الأوطان.

 

ذلك أن أصلها واحد ومآلها واحد ووصل الرحم بين أفرادها وبين مجموعاتها واجب على الجميع.

 

اختار هذا الملتقى من الموضوعات ما ليس أهونها ولا أيسر على النظر والفكر بل انه نشد من هذا الاختيار تدارس راهنٍ لم يعد بالإمكان ان يتجاهل، وقصد أن يتبادل العلماء الاجلاء ان يتبادلوا الرأي في وفدٍ وكل يوم قائم ماثل. وقد تعلّقت همّة منظمي هذا الملتقى كما تتعلق كل عام بمبحث في هذه السنة هو من أعظم المباحث وهو في نفس الوقت من أوكد هذه المباحث في الماضي وفي الحاضر وبالخصوص في المستقبل.

 

إنّ تطرّق التفكير إلى إشكالية (الأصالة والمعاصرة) قد بات اليوم بشكل متأكد من أعزّ الواجبات، على العالم لا ينفك يشهد الأفعال الغيرية والاختلاف هي الأفعال تتدافع أمام العين ويشاهد تأثيرها في ضرب من التزين والتسارع.

 

بات اليوم من البديهي ان نتحدث عن ثورة اتصالية وما حققته من الإجابة أحببنا أم كرهنا عن تنوع المضامين الثقافية. الواردة علينا من طوع أو قسر.

 

وقد أكثر ذلك من تجدد الرؤى وفي تجدد التصورات بالنظر إلى ما اعتدنا عليه وما ألفناه نضع في كل ذلك موضع الاعتبار هذه النقلة النوعية التي تشهدها المنظومة الكونية وأنّه ليس بالمتاح الاعراض عن هذه النقلة وعن تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة وأن ذلك أصبح من المتأكد أردنا أم لم نرد.

 

إنّ الحضارات اليوم وغداً على وجه الخصوص كأنما تجد نفسها في حال من التخاطب والتنادي لم تكن مهيئة لها ولم تحسب لها حسابها.

 

إنها اكتشفت نفسها في حال من الاضطرار إلى ضرب من التفكير لم تتعوّد عليه وضرب من النظر لم تقف ولم تستعد لها. هو التفكير باعتبار آخر وبالنظر إليه معه أو ضده له أو عليه. استئناساً به أو نفوراً منه ثقة به أو ريبة في أمره.

 

بدأت هذه الحضارة تسائل نفسها هل بالإمكان ان يتواصل وجودها على ما اكتنفته من الوثائق التقليدية التي عاشتها بالأمس بحيث تبقى حضارة على ما كانت عليه نظاماً من التصورات ومن المعتقدات والأفكار والرؤى التي تؤلف في حد ذاتها نسقاً من الإجابات المكتملة عن كل الأسئلة المعروضة في سفر الوجود.

 

إنّ الوضع الذي آنت إليه حضارة اليوم هو وضع يتسم بعدم الكفاية والاكتفاء والحاجة المتأكدة إلى التعرف على الآخر بما يستوجبه ذلك من استبداعات غير المنتظره في الفكر وفي السلوك على حد سواء.

 

لقد غيّرت ظاهرة العولمة لمفاهيم متعارفة واستبدلت مصطلحات متداولة من ذلك الحديث عن سيادة على الوطنية عوضاً عن السيادة الوطنية واستحضار مفهوم للهوية يقوم على الأخذ والعطاء وعلى الفعل والبناء بدلاً عن هوية الاكتفاء والانتفاع بدعوة الانتماء والاحتماء.

 

من ذلك أيضاً الشعور بأن الحداثة أي المعاصرة صارت تسع علينا شئنا ام أبينا فهي تدخل بيوتنا وهي تتداول في أسواقنا وهي تؤكد بشكل أو بآخر في نسق حياتنا. بعد أن كنا نسعى إليها كلما أردنا وقصدنا فنتخيّر منها ما انتقينا ونغلق أبوابنا ونوافذنا وأسماعنا وأبصارنا وسائر حواسنا على ما فيها من غير رغائبنا واحتياجاتنا.

 

وهنا تشفع لي محبتكم لتونس لأشير في خفض وفي عجلة إلى أنكم في ما آتيتموه من التفكير والتمحيص في هذه القضية الهامة، قضية العلاقة بين الأصالة والمعاصرة إنّما كنتم تتنادون معرفة اخوانكم التونسيين في كسب هذه المعادلة دون التفريط في مقوم التجدد والأصالة.

 

فتونس التي كانت عبر التاريخ رائداً حقيقياً في إثبات التراكم المعرفي الإنساني الحضاري باعتبارها نقطة التلاحم والتلاقي بين الشعوب والأديان ومركز التفاعل والتواصل بينها في حركة أخذ وعطاء لم تتوقف من ما اكسبها مخزوناً حضارياً ثرياً هيئها لإشاعة أُصول الفكر الحديث في إفريقيا وأوروبا وما وراء البحار وجعلها تتمثل ذاتها وتستوعب الوافد عليها بوعي ومسؤولية هي اليوم تتخذ خطاب الأصالة والمعاصرة منظومة فكر ووجود متكاملة لتجعل منها مقوّماً أساسياً للشخصية الوطنية المتجددة في عمقها الإسلامي الحاضر وفي وجودها القائم والمنطلقة إلى صناعة مستقبلها بديناميكية وانفتاح في آن.

 

انها بقدر اعتزازها بأصالتها وانتمائها الحضاري بقدر سعيها إلى التفتح وحفظها على اعتراف بالاختلاف والتعدد وكسب أسباب المعاصرة، لذلك نُراها تنزل الإسلام المنزلة الرفيعة بالمشروع الحضاري الذي ارتكز في تأسيسه إلى المصارحة مع الذات والتأكيد على الهوية وهو ما ترجمته القيادة السياسية من خلال النهوض رسمياً بمسؤولية تأمين أسباب رفعة الدين والسهر على شؤونه وتيسير إقامة شعائره والأخذ بدعائمه. كل ذلك في إطار فهم عميق يؤسس للشخصية الحرة والمسؤولة القادرة على الجمع بين المقاصد النبيلة والفرائض الشريفة لهذا الدين الحنيف وما يعطيه الاجتهاد الخلاق فيها من إمكانات التلاؤم السليم مع الحياة ومستجدات العصر.

 

إن تونس بجغرافيتها وتاريخها وانخراطها الدائب لمسيرة التحديث والمعاصرة لم تعرف الانغلاق على النفس أو الانكفاء على الذات بل ظلت على الدوام بوابة مفتوحة على العالم تنحت لنفسها كياناً مخصوصاً وثقافة متميزة أساسها التفتح والوسطية والاعتدال والاجتهاد والتجديد بما يحقق الجمع بين الحفاظ على الأصل والتوق إلى الأفضل استلهاماً من مقولة رئيسها السيد زين العابدين بن علي من أن الانخراط في العولمة لا يعني التفسّخ والذوبان كما ان التمسك بالهوية لا يعني التقوقع والانغلاق على الذات وتكريساً لمشروعها الحضاري اختار لها وجعل من الأصالة والحداثة منظومة متكاملة تقطع مع كل إيهام بالتناقض والتضارب وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

فرب همة أيقظت امة مع جزيل الشكر لسماحة آية الله الشيخ التسخيري على إتاحته لهذه الفرصة وتجديد الشكر لكم على الإنصات مع تجديد التهنئة لكم وشكراً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.