مساعي النبي الأعظم صل الله عليه وسلّم وآله وأصحابه الغر الميامين في وحدة الأمة الإسلامية

مساعي النبي الأعظم صل الله عليه وسلّم وآله وأصحابه الغر الميامين في وحدة الأمة الإسلامية

 

مساعي النبي الأعظم صل الله عليه وسلّم وآله وأصحابه الغر الميامين في وحدة الأمة الإسلامية

 
(أو فصل المقال فيما بين المذاهب الإسلامية من الاتصال )
 
 
الشيخ عبد القادر قحة

استاذ جامعة – الزيتونة - تونس

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله
يقول الله سبحانه وتعالى : Pوَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عظيم.O (سورة آل عمران آية 105.)
ويقول سيدنا محمد ص : " تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي." وفي رواية ثانية زيادة:"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي وعترتي آل بيتي عضوا عليهم بالنواجذ ." أي بالأضراس الأربعة كناية عن التمسك بهذه الأصول وإتحاد المسلمين حولها لأنها تمثل القوّة التي بواسطتها ينجحون ويفلحون، وتكون لهم كلمة واحدة تجمعهم ولا تفرقهم بين بعض أمم الغرب والشرق التي تخاصم المسلمين وتعادي الاسلام لقوته وسمعته العطرة بمبادئه القيمة منذ العصور الوسطى إلى يوم الناس هذا، وسيبقون على كراهيتهم مادام المسلمون على ما هم عليه من التشرذم والخلافات التي تزيد في إتساع الشقة بينهم، هذه الأمم المعادية للإسلام تتحد يوميا ضدّنا بشتى الحيل والوسائل والنفاق السياسي، ونحن عوض أن نتحد حيالهم من أجل مصالحنا ودفاعنا عن هويتنا وأصالتنا نزداد اختلافا ونعينهم على أنفسنا بسوء سلوكنا، وتركيزنا على مصالحنا الخاصة والآنية دون مصالحنا العامة التي حرضتنا عليها مقاصد شريعتنا الاسلامية الغراء، وتتلخص في محافظة المسلمين على الكليات الخمس وهي : " حفظ الدين، العقل، النفس، النسب، العرض، المال."
والملاحظ، أن المسلمين واقعون تحت وطأة الخلافات السلبية التي تفرق ولا تجمع لأن المحركين لها داخليا وخارجيا يعملون على تأجيجها لأجل مصالحهم الخاصة و إضعاف المسلمين وإلهائهم عن مصالحهم العامة. وعلينا نحن معشر المسلمين أن نكون جد منتبهين لهذا وأمثاله بالتذكير لبعضنا البعض بالمؤتمرات والندوات في أي مكان وزمان تدعونا الحاجة إلى الاجتماع للنظر في هذه الخلافات السلبية، وكيفية معالجتها، ودرء مخلّفاتها لنجعلها اختلافات إيجابية بناءه من قبيل الحكمة الإنسانية في علم الاجتماع حديثا، وعلم العمران البشري قديما، لعلامة المسلمين في كتابه :" المقدمة": " الإنسان مدني بالطبع." يعني أنه لا يستطيع أن يعيش منعزلا عن الناس، ولا بد له من اجتماع ضروري مع مواطنيه في المدن والقرى والأرياف، فتصطدم مصالحهم وتكون لها حلول جذرية من أهل الحل والعقد، وهم علماء المسلمين وصلحاؤهم ونخبهم وولاة أمورهم الصادقون والمخلصون لتبقى اختلافات طبيعية ضرورية، تعمل على إثراء الأفكار الخلاقة والتفكير الديني والإنساني، والازدهار الاقتصادي والثقافي والتنموي في المجتمعات الإسلامية، بواسطة هؤلاء المذكورين في المجالات الدينية والدنياوية، من تكنولوجيا واعلامية وتقنيات حديثة محيّنة وغيرها ... تجعل المسلمين مواكبين للعصر ومطبقين لحكمة الاختلافات الايجابية الواردة في القرآن الكريم وهي طبيعية في قول الله عزّ وجلّ : Pوَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَO ."(119)- (118) .سورة هود .
وقد كرّس الرسول محمد ص منذ بعثته بالرسالة الإسلامية العظيمة كلّ جهوده لتبليغها إلى الناس كافة، بدءا من كفّار قريش وأهل الكتاب في الحجاز والقبائل العربية ثم الأمم الأخرى ودعوة المسلمين في مكة إلى توحيد صفوفهم والصبر على ما لاقوه من عنت وتعذيب ومتابعة مستمرة ومصادرة أملاك، وتقتيل وتعنيف وحرب أعصاب مواسيا إياهم على التمسك بدين الحق، والمشركون على دين الوثنية والباطل. فكان المعذبون من المسلمين صابرين مصابرين، ملتجئين إلى الله الواحد الاحد ليخفف عنهم الكرب داعين متضرعين قائلين: " أحد ، أحد، أحد." فكانت لهم بلسما وتخفيفا لما يقاسون، حتى صدقت فيهم القاعدة القائلة في علم النفس:" العذاب إذا اشتّد إنقلب إلى لذّة الإيمان " ، والعكس بالعكس بالنسبة للمشركين المعذبين لهم: " اللذة إذا اشتدت إنقلبت إلى ألم" فكانوا يتلذذون ويتشفون فيهم بصفوف من التعذيب في القائلة الرمضاء، فيقابلهم المسلمون بصبر أيّوبع فيستغربون ويتألمون بدلا عنهم ألما نفسيا، أشد مما يتوقعونه لهؤلاء المؤمنين الصادقين، وما ذلك إلا لوحدتهم القلبية التي غرسها فيهم النبي الكريم ص والذي استمر على دعوته التوحيدية والوحدوية عندما هاجر من مكة هو أصحابه ر ض إلى المدينة، فآخى بين المهاجرين والأنصار ر ض وجعلهم إخوة في الله متحابين متّحدين، وتجاوز بدعوته هذه إلى أهل الكتاب من يهود ونصارى، فعقد معهم حلفا مجتمعيا وطنيا يوجب عليهم جميعا وعلى المسلمين التعايش السلمي في كنف عقائد بعضهم البعض باحترام وحرية في ممارسة شعائرهم الدينية وهم جميعا يد واحدة على من يهاجهم من العرب المشركين وغيرهم لحماية أمنهم واطمئنانهم واستقرارهم سواء أكان العدو يهاجم المسلمين فحسب أو أهل الكتاب فحسب حماية لمصالحهم الدينية والثقافية والاقتصادية. وكان المسلمون صادقين ورسولهم ص في تطبيق هذه المعاهدة والحلف الوطني رغم خيانة بعض أهل الكتاب، ولكن الله سبحانه وتعالى نصر المسلمين على هؤلاء الخائنين، باتحاد كلمتهم واتفاقهم. إذ الأمة التي :" تنشأ على التطبّع بالرأي الصحيح، والتخلّق بأخلاق الأخوة والمساواة وحب الحرية وتوقير العدل، لأمّة خليقة بأن تعرف مزيّة الوحدة فتكون متحدة متوافقة وتصبح كالجسد الواحد تراه عديد الأعضاء والمشاعر ولكنّه متّحد الإحساس، متّحد العمل. فإنّ الناس إذا كانوا سواء متحابين انتفت عنهم دخائل الفساد بينهم، ولم ينظر أحد منهم للآخر نظر التحقير، وصارح بعضهم بعضا بالحق والنصيحة، فصاروا لا محالة كالجسد الواحد،" كما قال النبي ص : " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.")رواه أبو نعيم في الحلية والبخاري في صحيحه.)
(محمد الطاهر بن عاشور. كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ص 133-134 . الشركة التونسية للتوزيع، الدار العربية للكتاب تونس 1979).
ولن تتحقق هذه الخصال الواردة في الحديث النبوي الشريف إلا باستئصال جرثومة الضغائن والحقد والحسد وما شاكلها من الأمراض القلبية ...
ولمّا كان هذا الأمر من الصعوبة بمكان وليس مستحيلا حثّ الله تعالى المسلمين على الاتحاد ونبذ الخلافات السلبية والمدمرة للجامعة الإسلامية والاستعاضة عنها بالاختلافات الايجابية البناءة للجامعة الاسلامية قائلا :Pوَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَة اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِإِخْوَاناًوَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاكَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَO ."آل عمران103 .
وذمّ الله الخلافات السلبية فقال مبيّنا لهم أنّه لولا أن جعل اختلافاتهم لمصلحتهم لقضي بينهم :Pوَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَO؟".(يونس 19) ولذلك ألهم الناس فطريا أن تكون اختلافاتهم ايجابية منذ بعثة آدم ع إلى محمد ص، فآمن البعض من الامم المبلّغة لهم الرسالة وكفر بعضهم: Pكَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍO."(البقرة 213). وكان دور هؤلاء الأنبياء عليهم السلام أن وحّدوا صفوف الأمم الإسلامية حول مبادئهم السماوية وقيمهم الثابتة كما قال الرسول ص :"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ المرصوص يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا."وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ .رواه البخاري عن أَبِى موسى. حيث استعمل فيه رسولنا محمد ص صيغة خبر عن حالة المسلمين كما يجب أن تكون فأصبح كأنه حصل فعلا فأخبر عن وقوعه، معضدا إياه ومؤيده بشريعة اجتماع المسلمين في أفضل المناسبات والأحوال، فشرع الجماعة للصلوات الخمس لأهل المحّلة الواحدة ( الحي الواحد) وقد قال ص :"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد."أخرجه الدارقطني، والحاكم ، والبيهقي عن علي رض مبالغة في فضل الجماعة مبالغة حملت بعض أهل العلم على ظن عدم صحة صلاة جار المسجد في غير المسجد. ثم بمشروعية الجماعة ووجوب شهودها مرة في كل أسبوع لصلاة الجمعة لأهل المصر الواحد أو ماهو كالمصر من فسطاط ( فساطيط : بيوت من شعر )، متسع من المصر. وكالربض من مدينة تونس ( أي مجموعة أحياء في المدينة. ثم بمشروعية الاجتماع الأكبر مرة في كل سنة للحجيج يحضره طوائف من كل بلاد الاسلام، ليطالع بعضهم أحوال إخوانهم في الأقطار ويبلغوا قومهم إذا رجعوا إليهم بما شاهدوه وسمعوه من أحوال الأقطار النائية عنهم ." لعلّهم يحذرون من أجل ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. ووضع الرسول الكريم ص نواة الوحدة اللغوية للأمة الإسلامية حتى ولو اختلفت لغاتهم وهي العربية، وإنّ لم يتوفّر لهم ذلك فقد شرّع لهم لغة التفاهم بينهم بتعلّم شيء من القرآن الكريم ولو كان جزءا يسيرا لقوله تعالى: " فاقرؤوا ما تيّسر منه ." المزمل20 . وهذا مدعاة لتشجيع المسلمين على تعلّم القرآن الكريم وحفظه أو بعضه و فهمه، ثم بالإقبال على تعلّم اللغة العربيّة التي حافظ عليها القرآن العزيز. " وإنّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ." فصلت 41-42 . وهي لغة نوّه بها القرآن كعامل وحدة بين المسلمين إلى جانب آياته البيّنات :Pوَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين*نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍO ." الشعراء 192-195وهذه كلّها أسباب لانتشار اللغة العربية بين الامة الاسلامية فمنهم منتعلّم القليل منها ، ومنهم من نبغ فيها وألّف في قواعدها حتى أصبحوا أيمة في علوم اللغة وآدابها العربية. (محمد الطاهر بن عاشور- أصول النظام الاجتماعي في الاسلام ص 134-135). وقد شهد المستشرقون بذلك فقال المستشرق الألماني (فوك) : " القرآن حافظ على اللغة العربية ."
وقد وضع الإسلام قيما ثابتة للمسلمين تزيد في أواصر وحدتهم وتقويها داخل جامعتهم الإسلامية وهي عبارة عن آداب معاشرة من إفشاء السلام والتعاون على المصاعب والمصائب، وإجابة دعوة المواكب، وعيادة المرضى ومواساة المنكوبين لأنّ رسولنا محمدا ص اعتبر "تبسّمك في وجه أخيك صدقة وإماطة الأذى عن الطريق صدقة والكلمة الطيبة صدقة." ومن ثمّ فإنّ التخلّق بسجيّة الاتحاد قولا وفعلا وعملا هو من الأسس التي بنى عليها الإسلام شخصية المسلم، فيتفانى جميع المسلمين في خدمة مصالحهم ابتداء من المصلحة الفردية فالعائلية فالوطنية ثم المصلحة العامة للأمّة الاسلامية. فيتوفقون بإذن الله تعالى إلى ترشيد أعمالهم، مستنيرين بنصائح دينهم الاسلامي الحنيف، ومنه قوله ص : "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا" وَأشار إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ". أخرجه أحمد (2/277 ، رقم 7713) ، ومسلم (4/1986 ، رقم 2564). وأخرجه أيضًا: البيهقي (6/92 ، رقم 11276.) عن أبي هريرة.
وقوله ص :"لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"رواه ابن حجر في فتح الباري بشرح صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ بن مالك رض . وقال الله تعالى : P إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمونO." الحجرات 10.
ومن ثمّ تتحّد آراء المسلمين ومساعيهم من أجل منفعة الكلّ مهما كانت مستوياتهم العلمية و المادية، لأنّهم جميعا درع حصين في مواجهة خصومهم داخليا وخارجيا كما قال الرسول الكريم محمد ص :"المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ."رواه أبو داود والنسائي، ورواه ابن ماجه عن ابن عباس.وبذلك لا يخترق اتحاد المسلمين عدو قريب أو بعيد يحاول تفريقهم وزرع الفتنة والشقاق والنفاق بينهم كما قال تعالى : "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين." الأنفال 46 . وذهاب الريح يعني الفشل والهزيمة لا قدر الله لان معنى قولهم : ( الريح لفلان، أو للأمة الإسلامية يعني النصر لهم إن شاء الله تعالى .) ولهذا نهى النبي محمد ص عن الاختلاف ولوكان في فهم معاني القرآن الكريم، حتى لا تتسرّب الفرقة بينهم فقال صلى الله عليه وسلّم: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه."أخرجه أحمد ، وصححه البخاري ورواه النسائي وأبويعلى في مسنده. والرجوع في هذا الاختلاف يكون بتفسير المأثور المروي عن الرسول محمد ص وصحابته الميامين الأبرار رض .
ومن تمام وحدة المسلمين، محافظتهم على قيمهم الاسلامية الثابتة مهما تباعدت بهم الاقطار ونأت بهم ألأوطان لأنها تجمع كلمتهم وترّص صفوفهم باعتماد هذه السجايا الكريمة مثل: ألمؤاساة وهي مشتقة من آساه وواساه إذا ساعده وأسعفه وأصله الإسعاف بالعلاج والدواء للمريض وتستعمل ماديا ومعنويا لرفع همّة المتصدّين لكلّ معروف، لأنّها من مقتضيات الفطرة والأخوة الإسلامية التي تدعوا إلى مساعدة عامة المسلمين بعضهم بعضا داخليا وخارجيا في جميع الميادين إذ من الفطرة الإنسانية انفعال النفس برقّة ورحمة عند مشاهدة مظاهر الضعف والحاجة والشعور بألم المحتاج والسعي باندفاع إلى تخليصه من آلامه بكل الوسائل الممكنة . وتظهر هذه المعاني الجليلة في مؤاخاة رسولنا محمد ص بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم حتى كان الأنصار في قمة الاستجابة لهذه الدعوة النبوية الكريمة والسامية بمواساتهم لإخوانهم المهاجرين فاقتسموا معهم أموالهم وتنازلوا لهم حتى عن بعض زوجاتهم، لأن بعض المهاجرين تركوا زوجاتهم في مكّة ولم يهاجرن معهم بسبب الشرك والمشركين أو البقاء على الكفر، أو عدم القدرة على الهجرة خوفا من أعداء المسلمين ومن قطّاع الطرق. ويقول الله تعالى في هذا المعنى : Pلِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَO . "الحشر 8-9. ولن يتخلّف عن هذه المكرمة إلا ذووا النفوس المريضة بالأنانية وتضخم الذات والشعور بالكبر نتيجة أخطاء تربوية في البيئات الثلاث العائلية أو المدرسية أو خارج الأسرة بمخالطة رفقاء السوء، وعلاجه بالصبر على التذكير واعتماد الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أجدى وأنفع وألين والدعاء الصادق والصاعد من الحناجر المؤمنة أمثال : " اللهم اهدنا واهد بنا واهد عنّا. يا حيّ يا قيّوم برحمتك نستغيث. اللهم آمين يارب العالمين."
وإلى جانب المواساة نجد خلالا زكية تدعو المسلمين إلى الإتحاد كالعدل وهو الإنصاف من النفس قبل أن ينصفها ويحكم عليها الآخرون فقد قال ص : "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني."(عن أبي يعلى شداد بن أوس وذكره السخاوي في المقاصد الحسنة عن الحاكم في المستدرك والعسكري والقضاعي وهو صحيح على شرط البخاري. ورواه الترمذي في سننه وحسّنه).أي حكم عليها وحاسبها على تقصيرها والقيام بواجباتها . وروى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال :"قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال :" قل آمنت بالله ثم استقم" لأنّه بعد الإيمان بالله تعالى واطمئنان النفوس به تأتي استقامة الأعمال وحسن التصرّف فتثبت نتيجتها قوى الإنسان على اتيان الأوامر واجتناب النواهي ، تطبيقا لقوله عزّ وجلّ:" فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ." هود 112 .
وقد جمع الرسول ص بين الخلال الزكية كمدخل لاتحاد أخيار المسلمين، ولذلك جمع بين العدالة والمروءة ليكون حكما عدلا على المسلم نفسه وعلى ألآخرين بحيث يستحي المتصف بهما وبغيرهما من السجايا الفاضلة أن يعمل في سرّه ما يستحي منه في جهره . وفسّر الفقهاء هذا السلوك الحسن بأنّه اجتناب " مافي فعله خسّة، تغضّ من فاعله وتذمّه عند الناس ." ولهذا يقول الرسول ص : " مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ ، وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ ، فَهُوَ مَنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ ، وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ ، وَحُرِّمَتْ غَيْبَتُهُ " . حديث صحيح.
ويقول شاعر الحماسة المعلوط السعدي القريعي :
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا           فمطلبها كهلا عليه شديد
(محمد الطاهر بن عاشور ، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ص 132.)
ويقول شاعر آخر :
إذا المرءلم يدنس من اللؤم عــر                  ضــه فكل رداء يرتديه جميل.
يضاف إلى هذه المكارم الأخلاقية الداعية إلى اتحاد المسلمين، الحرية المسئولة والتي تنحصر في الحكمة ألإنسانية" تنتهي حرّيتي عندما تبدأ حرّية غيري، وتبدأ حرّيتي عندما تنتهي حرّية غيري." ذلك أن مفهوم الحرية لا يعني أن أفعل ما أريد حتى ولو اعتديت على حرية غيري ومصالحهم داخليا أو خارجيا أو هما معا .
وقد روي عن عمر رضي الله عنه : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا."
والحرية إنّما تتمثل في قول كلمة الحق المسئولة والمعبّرة عن ضمائر حية مسلمة ومؤمنة تحّب الخير للأمّة الإسلامية أفرادا وجماعات وأوطانا بواسطة النخبة ووسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية. وهي السبيل إلى الإتحاد الإسلامي المنشود وقيام الجامعة الإسلامية . يضاف إلى هذا المساواة في الحقوق والواجبات وقد قال رسول الله ص : " المسلمون تتكافأ دماؤهم... " (ذكرناه سابقا). وقال أيضا ص : " أمّتي مباركة لا يدرى الخير في أوّلها أو في آخرها ." (أخرجه الحافظ السيوطي في الجامعين الصغير والكبير في أحاديث البشير النذير.)
وقال ص في خطبة حجة الوداع سنة (10 هـ/632 م)يوم الجمعة في عرفات 9 من شهر ذي الحجة الحرام :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ , وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ , أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ , وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، وَلا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلا بِتَقْوَى اللَّهِ."وقال أيضا في نفس الخطبة : " اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كأنّ رأسه زبيبة مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّه وسنّة رسوله ِ ".وغير هذا كثير وخاصة ما روي في باب العدالة عن إنصاف ولاة أمور المسلمين من أنفسهم وخاصة ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه عندما سقط سيفه الشهير بذي الفقار فالتقطه يهودي ولمّا علم علّي رض بوجوده عنده طالبه باسترجاعه. فادعى اليهودي أنّه سيفه صنعه عند أحد الحدادين على نمط ذي الفقار. فلم يجبره علي وهو خليفة المسلمين على ردّه، وإنّما اشتكاه إلى قاضي المسلمين (شريح) وهو الذي عيّنه في منصب القضاء وحضر المتهم اليهودي والمدعي علي عند القاضي واقفين أمامه، فخاطب شريك القاضي، عليا قائلا : " يا أمير المؤمنين ما هي بيّنتك على أنّ السيف لك ؟ فأجاب علي وهو مغتّم : مهلا أيها القاضين لا تخاطبني بأمير المؤمنين بل باسمي مجردا، حتى لا يظن المتهم أنك تحابيني عليه، فييأس من عدلك ، ليس لي بينة أيها القاضي سوى علامة سيفي المعروف بذي الفقار ."فقال القاضي: " بارك الله فيك في ما قلت، وأنت محق في ما نبهتني إليه، أما علامة سيفك فالمتهم يدعي أنه صنع سيفه على شاكلة سيفك عند حداد ولذلك فبيّنك غير كافية يا علي و أحكم حينئذ بالسيف للمتهم."
فانبرى اليهودي يقول:" يا سبحان الله خاصمني أمير المؤمنين عليا فوقف معي موقف المدّعي والمدّعى عليه، وطلب من القاضي ألا يشعرني بأنه يحابيه علي، فنعم دين الاسلام هذا. ونعم العدل فيه، أشهد أن لا إلاه إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. يا علي يا أمير المؤمنين ، السيف سيفك سقط منك فالتقطته، خذه هو لك وأرجو أن تعفو عني ويسامحني الله في دعوى الباطل. فقال علي رض : " وأنا أهديه لك إكراما لإسلامك وأسامحك أمام الله عزّ وجل وإن شاء الله سيعفو عنك، لأن الإسلام يجبّ ما قبله."
إنّ هذه الخصال الحميدة هي المحور الذي تقوم عليه الوحدة الإسلامية، فبفضلها يحسن المسلمون التعامل مع بعضهم البعض، معتمدين مبدأ التسامح كصيغة لتقريب شقة الاختلاف بينهم، لأنها اختلافات فرعية بين آرائهم ومذاهبهم، وهي من أصول كل مذهب من مذاهبهم، وليست من أركان الإسلام. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ص قال : " رحم الله رجلا سمحا إذا باع ، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى."وإنه لمن دواعي الفخر والاعتزاز أن نجد صدى هذه الدعوة الكريمة في جمعيات ومنظمات إسلامية تدعو إلى ( فصل المقال فيما بين المذاهب الإسلامية من الاتصال). ومنها ( المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب في إيران) لأن الإسلام هو دين الفطرة السليمة والفطرة تعني التوحيد وهو الأساس الذي قامت عليه الأديان السماوية وخاتمتها الإسلام، ولذلك قال الله تعالى: " إن الدين عند الله الإسلام." آل عمران 19.) وقد قصر جمع من المفسرين : " فخر الدين الرازي وابن كثير والبيضاوي ومن تبعهم من نقلة كلامهم ، الدين على عقيدة الاسلام وهي التوحيد فهو الموصوف بالفطرة ." ( محمد الطاهر بن عاشور أصول النظام في الإسلام ص 15) وفيها يقول المولى عزّ وجل :" فأقم وجهك للدين حليفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ." الروم 30 .
وعليه فمادامت حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقّق فإن الإسلام دين الحنيفية السمحة قائم على الفطرة وثبوت الحقائق لا نسبيتها كما يقول السوفسطائية من قدامى في العهد اليوناني ومحدثين في العصر الحديث لأجل مصالح خاصة ما أتى الله بها من سلطان .
والفطرة الإسلامية تقوم على تلك القيم السامية التي عرضناها وحللناها فيما سبق على أنها من أسس وحدة المسلمين لأن الاسلام ما أوحي به كالدين الخاتم لسيد الخلق والوجود محمد ص إلا لإسعاد المسلمين وإرشادهم إلى ما فيه صلاح حالهم في الدنيا والآخرة .وهو إلهام منه سبحانه وتعالى لعباده، أنّ خلاصهم في إتحادهم و جامعتهم الإسلامية عن طريق التمسّك بهذه السجايا الكريمة، التي جاء بها الإسلام، من أخوة، ووفاء وعدل وإنصاف للآخرين ، ومساواة وحرية وتسامح وتضحية وإيثار ... وهي صبغة الله، وفطرته السليمة، التي ركّزها في عباده، وجاءت في محكم تنزيل الله تعالى إذ يقول : " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون." البقرة 138 ، والصبغة والفطرة يترادفان بنسبة كبيرة فالأولى من صبغ الثوب أعطاه لونا وصبغة بلون خاص يعرف به، واللفظة الثانية من فطر يفطر الامر ابتدعه واخترعه وأنشأه على حالة معيّنة. والفطرة جمع فطر تعني الابتداع والاختراع والإنشاء على صيغة خاصة وهي الصفة الطبيعية التي يتصف بها كل موجود في أول زمان خلقته كما أنّها الصفة الطبيعية التي خلق الله عليها البشر وألهمهم من خلالها قيمهم الثابتة التي ذكرنا بعضها في جميع الأديان السماوية عن طريق أنبيائهم ورسلهم ع في كتبهم المقدسة وختامها القرآن الكريم، وسنن أنبيائهم القولية والفعلية والتقريرية، فرسخت في عقولهم وأصبحت فطرة وصبغة طبيعيتين وملكتين يميّز بهما الإنسان بين الحق والباطل والضار والنافع والإيجابي والسلبي وذلك إذا كانت النفوس سليمة من مصائب غسل الأدمغة التي لوّثت بعض عقول الإنسانية عن طريق العولمة السلبية المفروضة بواسطة الإعلام المنحرف والتربية السيئة والسقيمة في بيئات المجتمع الثلاث (البيت والشارع والمدرسة) حيث قد تنعدم فيها القدوة الحسنة وهي الأسوة الطيبة من بعض الآباء والأمهات والأولياء والمربين وولاة أمور المسلمين. وفي هذا يقول الله تعالى : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا."الأحزاب 21 وأسوة رسول الله محمد ص التي نقتدي بها هي سنّته القولية والفعلية والتقريرية، وهي الفطرة والصبغة التي لقّنه إيّاها المولى عزّ وجل عن طريق جبريل عليه السلام وأمرنا بإتباعها وألهمنا إياها فطرة وصبغة للتمييز بين المنافع والمضار. إضافة إلى ما ورد لها من تدعيم في القرآن الكريم : " وإنّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد." فصلت 41-42 .
ومبلّغ هذا الكتاب العزيز هو محمد ص وهو المثال والقدوة الحسنة كما جاء وصفه السابق القرآن الكريم، واللاحق في قوله تعالى : " وإنك لعلى خلق عظيم." القلم 4وقوله : "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ." الانبياء 107.
وإذا أردنا أن نحاول تفسير الفطرة والصبغة في نطاق القيم الإسلامية والإنسانية الثابتة نستطيع أن نقول أن الله عزّ و جل لمّا خلق العقول الإنسانية أودعها برمجة عظيمة عامة تشبه برمجة الحاسوب العامة. لكن البرمجة الإلهية للعقول البشرية ليس لها حدّ في خزن المعلومات والتصرّف فيها بذكاء يختلف من شخص إلى آخر وتفوق ذاكراتها في عملية حفظ المعلومات طاقة الحاسوب المحدودة . وعليه فإن البرمجة الإلهية العامة للعقل الإنساني تضمنت هذه الفطرة والصبغة السليمة الملهمة للعباد طريق الخير في مقابلة طريق الشر وفيها يقول الله تعالى : "وهديناه النجدين."البلد 10 . ويقول أيضا : " ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها ."الشمس 7-8 . يعني ذلك كأننا نشير إلى نظرية فلاسفة اليونان القديمة وبعض فلاسفة المسلمين القائلة : " العلم تذكر والجهل نسيان." يعني أن النفس الإنسانية تنزل ببعض المعارف العامة منذ كانت روحا في الأزل، فلما تولد تنسى بالمكابدة في الحياة، فلما تتعلم فهو تعلم من جديد وهي تتذكر ما جهلته من معارف قبل وجودها. وإخواننا الشيعة الاثنا عشرية في الله والإسلام يرون أن الإمام يولد عالما وعندما يريد أن يعرف يكون علمه (نقرا في الأذن ونكتا في القلب ويرى بعض فلاسفة الإسلام ومنهم بن سينا أن النفس تولد كالصفحة البيضاء غير عالمة ثم تتعلم لتملأ صفحتها أي ذاكرتها بالمعارف وجاء ذلك مثلا في قصيدته عن النفس الإنسانية في أوّل بيت شعري منها يقول فيه :
نزلت إليك من المحل الأرفع             ورقاء ذات تدلّل وتمنّع
وذكر القرآن الكريم أن النفس تولد غير عالمة ثم تتعلم بواسطة الحواس والعقل عن طريق تلك البرمجة الإلهية العامة من فطرة وصبغة فتميز بين المصالح والمضار ويقول الله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمّهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون."النحل 78.وبهذا المنهج القائم على التربية السليمة يدرك المسلمون القيم الثابتة في دينهم الحنيف وهي سجايا زكية ترشدهم إلى التعامل في ما بينهم من أجل إتحاد كلمتهم في كل زمان ومكان ليدافعوا على مصالحهم بكل شجاعة وبلا هوادة . مع العلم أن المسلمين العالمين بهذه الغايات السامية، والعاملين لأجلها بصبر ومثابرة هم قلة في الأمة الإسلامية وكلّ أمم العالم ممن عرفوا بعقلاء الإنسانية وهم موصوفون بالقلة الغالبة فهم ضمير البشرية، ووجودهم قد لا يغير كثيرا في انحراف جل الإنسانية أو بعضها ولكنه يبقى جرس الإنذار والمنبه إلى المزالق الخطيرة للأفراد والجماعات قمة وقاعدة للاحتياط والاستعداد في مواجهة ما يعكّر صفو تعاون المجتمعات والأوطان والأمم.
وصريح القرآن الكريم يعترف بهذه القلة الفاعلة وخاصة في قوله تعالى:" وإنّ كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ."ص 24
وهؤلاء من القلة الفاعلة التي تذكّر وتؤثر في غيرها قربا وبعدا لأنّ " الذكرى تنفع المؤمنين." الذاريات 55 ثم إن الله تعالى الذي "فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد."القصص 85 .
وهو على كل شيء قدير. ولكن كيف يمكن لهذا الأمل أن يتحقق في ظل ما يشهده أهل الحل والعقد من المسلمين وعقلاء الإنسانية من تغييب عن مواقع القرار والإصلاح في العالم ؟
إنّ الحلّي كمن في قيام منظمات إنسانية تدعو إلى إحياء القيم البشرية التي يشترك فيها أحرار العالم مع المسلمين الصادقين الذين عليهم أن يدركوا أن مكارم الاخلاق هي السبيل الواضحة والصراط المستقيم نحو وحدتهم الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها متعاونين في ذلك مع عقلاء الإنسانية ليحققوا هذه القيم السامية التي جاءت في الكتب المقدسة وخاتمتها القرآن الكريم من عدالة ومروءة وإنصاف من النفس ووفاء ومواساة وحرية وشورى ثابتة تقابلها الديمقراطية المتحولة حسب مصالح الأمم. والملاحظ أن الديمقراطية لن ترقى إلى المأمول مهما حاولوا تلميع صورتها في وسائل الإعلام داخليا وخارجيا، إلى مستوى الشورى في الإسلام وفي كل الديانات السماوية لأنها تعمل على حماية حقوق الإنسان بواسطة أهل الحل والعقد وعقلاء الأمم لا بواسطة انتخابات يدعون أنها ديمقراطية ونزيهة وشفافة والحال أنه يخالطها زيف كثير عند أمم العالم بواسطة أصحاب النفوذ والأحزاب المتطاحنة على السلطة بإغراءات الناخبين وأطماع شتى . وأحسن وسيلة في الإسلام هي أن يختار أهل الحل والعقد ونخب الأمة وأهلا لاختصاص فيها والمستشارون دينيا ودنيويا، ولاة أمور المسلمين وإطاراتهم حسب رأيي وإن كان ولا بد من انتخابات عامة فلا بأس، ولكن لا بدّ أن تتدّعم باعتماد أصوات فضلاء الأمّة فهم الذين يرجحون الكفّة عندما لا يحصل المنتخبون على الأغلبية الساحقة .
وهذا ما يجب أن يطبق في الانتخابات العالمية وخاصة في الدول العظمى أو دول العالم الثالث لأن التعويل على هذا الأسلوب يعمل على نجاح ولاة الأمور الأكفاء والإطارات المخلصة والنزيهة والعادلة في إدارة دفّة السياسة في العالم وهي التي تعمل على حماية مصالحها ومصالح الأمم والمجتمعات الأخرى في حدود الإمكان والاستطاعة وبأقصى ما يمكن من احترام حقوق الآخرين. وقد جاء في الأثر عن نبينا محمد ص أن " الإنسان أخو الانسان أحب أم كره " وبذلك سيصبح العالم عبارة عن شركة وشراكة إنسانية كبرى، يحصل فيها كل وطن على منافع ومصالح بقدر مشاركته المادية والمعنوية. إنّه حلم وتفاؤل وما ذلك على الله بعزيز.