مسيرة التقريب بين المذاهب الاسلامية في بلاد الشام

مسيرة التقريب بين المذاهب الاسلامية في بلاد الشام

 

 

مسيرة التقريب بين المذاهب الاسلامية في بلاد الشام

 

أ.د. وهبة مصطفى الزحيلي([1])

 

الحمد لله الذي وحد الأمة الإسلامية في أصولها وأنشطتها ومنطلقاتها، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين محمد بن عبدالله الذي صاغ هذه الوحدة صياغة محكمة خالدة، وعلى آله وصحبه الذين كانوا أوفى الناس عهداً لمدرسة الوحي الإلهي والنبوة ورضي الله عنهم أجمعين وبعد:

 

 تقرير عن مسيرة التقريب:

 هذا تقرير موجز عن مسيرة التقريب في بلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين) وهو في الواقع لا يختلف بحال عن ظاهرة التقريب في البلاد الإسلامية المختلفة مثل مصر والسودان والدول الأفريقية وبلاد المغرب، والبلاد غير العربية مثل تركيا وإيران والهند والباكستان وإندونيسيا وماليزيا وأفغانستان، والجاليات الموزعة في القارات الخمس ولا سيما أمريكا وأوروبا وآسيا.

 كل هذه البلاد على الرغم من تباعد حدودها أحياناً، وتجاورها أحياناً أخرى أصبحت ولله الحمد تدرك إدراكاً جازماً أن الإسلام دين لا يتجزأ، وأن أصوله وفروعه ومواقعه النظرية والتاريخية والجغرافية والثقافية والتربوية واحدة، وأن منهج الوحدة الفكري والتطبيقي هو الاتجاه السائد والمهيمن على الساحة الإسلامية، وإن وجدت جيوب ونزعات فئوية هزيلة تحاول تغذية الفرقة بين أتباع المذاهب، وإثارة النعرات المذهبية، والتورط في الاقتتال أو الاتهام، أو الانفعال المشوب بالعواطف الهوجاء، والذي قد ينجم عنه إما سفك بعض الدماء العزيزة، أو هدم أو إحراق بعض المواقع أو المساجد الإسلامية، وهذا الاتجاه الوعر المسالك والقاتم المظلم منشؤه: إما بعض آراء العلماء غير الناضجين، أو المواقف الزائغة لبعض العوام، أو التجاوب مع سموم ومساعي المستشرقين، وسياسات دول الشر والضلال والكفر من الغرب أو الشرق، لإضعاف بنية المسلمين، وتسهيل السيطرة على بلادهم وثرواتهم ومقدراتهم، وإپقائهم في حال ساخنة من البركان الساكن أحياناً والمتفجر أحياناً أخرى، لتمرير مخططات معسكر البغي والعدوان والاستعمار.

 وإنه لمع الأسف كانت ظاهرة التفرق والتباعد المذهبي والاتهام والمصنفات أو المؤلفات الساقطة أو المسمومة هي الرائجة أو الغالبة على الوسط الإسلامي ما قبل خمسين أو أربعين سنة، فتجد منحى الهبوط في مزلقة التكفير أو الطعن والدس، أو السب والشتم أو الإساءة لنجوم الإسلام في العهود الأولى التي لولا رجالاتها العظام المخلصون أهل التضحية والفداء، لما وجد الإسلام على الساحة الواقعية الكبرى أو الصغرى، ولا في المشرق أو المغرب أو الوسط.

 وفي تقديري أن هذه الظاهرة قد  أفل نجمها وانحسر ظلها، وحل محلها وعي مستنير في رحاب الصحوة الإسلامية في الثلاثين سنة الماضية، وأدرك الخاصة من أهل العلم، وبعض أو أغلب العامة أن هذا الاتجاه خطير، بل وعديم النفع، ويسيء إلى العقيدة والعبادة والأخلاق الإسلامية، ثم إنه يهدد المصلحة الإسلامية العليا، ويجرّ الأمة الإسلامية كلها إلى الدمار والخراب وفقدان الوجود والذات، ويقطع أوصال المسلمين، ويزرع الفرقة والشتات، والتمزق والضياع في كل ما يعملون أو يخططون، وهو ما يطمع إليه الأعداء المجرمون الذين يعملون الآن لتفكيك لبنات الإسلام تباعاً، ويمزقون شمل الدول الإسلامية واحدة بعد الأخرى دون استثناء، أخذاً بسياسة الانفصال واستغلال بعض السلبيات أو ألوان التخلف والقصور، ولاسيما تأليب الطوائف غير الإسلامية في بقاع وجودها، والتسلل أيضاً إلى الفئات الإسلامية لإثارة المشكلات والخلافات فيما بينها، عملاً بقاعدة: (فرق تسد) والفرقة ضعف وأيلولة للسقوط.

 أما بلاد الشام ولا سيما سورية بالذات فإنها واعية لهذه المخططات الإجرامية الاستعمارية، ولقد كانت سورية على ممر تاريخها الحديث ووجودها الآن أعمق نظراً وأكثر إدراكاً، وأبعد رؤية مستقبلية لقضية الوحدة الوطنية، وضرورة الحفاظ عليها، وتجاوز كل سلبياتها وعنعناتها ومزالقها، حتى إن المواطن السوري منذ فجر الاستقلال والتخلص من الاستعمار الفرنسي في السابع عشر من نيسان (إبريل) عام 1946م وإلى الآن لا يفكر بأية فوارق بين أتباع الأديان والمذاهب والطوائف، وهذه مفخرة لسورية الحديثة المتحررة والأبية.

 فلا نجد مثلاً في سورية أي تمييز بين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات، ولا بين أتباع المذاهب من سنة أو شيعة، ونجد انمحاق آثار التفرقة وخلَجاتها من كلا الفريقين. إن هذا النمو السياسي من القادة الحكماء، والحس الديني من الناس بمختلف فئاتهم، والانبعاث الحضاري والمدني من جميع المواطنين، جعل سورية وكذا بقية بلاد الشام ما عدا بعض المواقف المشبوهة الموالية للاستعمار في لبنان، في طليعة الدول العربية التي لا توجد فيها مشكلات طائفية أو مذهبية أو عنصرية.

 وهذا الوعي السياسي نجد مثيلاً واضحاً له في جمهورية إيران الإسلامية بدءاً من نجاح الثورة الإسلامية بجهود الإمام الخميني رحمه الله منذ ربع قرن.

 ويقترن هذا الوعي السياسي بالوعي الديني والمصلحي والوطني والقومي من أجل صدّ العدوان الاستعماري والاستكباري من دول الغرب بزعامة أمريكا، فلقد تحولت الاتجاهات والنوايا العدوانية القديمة لهؤلاء المستعمرين إلى سلوكيات واقعية خطيرة بالزحف العسكري الرهيب على ديارنا، وإعلان الحرب الوحشية الضارية على بلاد المسلمين بدءاً من تسليط الصرب المتعصب على البوسنة والهرسك وكوسوفو، والشيوعية الإلحادية في روسيا والصين على الجمهوريات والأقاليم الإسلامية كالشيشان، والسيخ، والهندسية أو الهندوكية الحاقدة، في كشمير وغيرها، ثم تلاها تكتل قوى الغرب وعلى رأسهم بريطانيا الأفعى، وتحالف الصليبية المتطرفة في أمريكا مع الصهيونية، وشن حرب الإبادة في فلسطين وأفغانستان والعراق، وتهديد إيران وسورية، ثم بقية الدول العربية حتى الموالية لتلك الدول المعتدية.

 لا يعني التقريب بحال من الأحوال صهر المذاهب الإسلامية المختلفة، وإنما الوصول إلى تقارب وجهات النظر المختلفة في الآراء الدينية، وتوحيد المواقف والأفكار والسلوكيات والمناهج، ليكون المسلمون صفاً واحداً أمام العدوان الخارجي من دول الكفر والشر، التي تتخذ من مظلة ما سموه بالإرهاب ذريعة لقتل وإبادة المسلمين في ديارهم، ونهب ثرواتهم، واستعبادهم غيرهم، والتسلط على مصادر النفط وبقية المعادن، والهيمنة على كافة الأنشطة الاقتصادية من خلال العولمة واتفاقية الجات أو التجارة الحرة، وتمكين شركاتهم الرأسمالية الكبرى من استنزاف خيرات الشعوب الأخرى ولا سيما المسلمين منهم لنهب ثرواتهم النفطية وغيرها.

 

 وإن من أهم ظواهر مسيرة التقريب في بلاد الشام ما يأتي:

 أ_ تبادل الود وتفعيل أوجه التعاون بين علماء الأمة الإسلامية من سنة وشيعة، ودفن كل مظاهر التوتر والخلاف والتعصب المذهبي، وهذا واضح الآن.

 ب – منع نشر أو طبع كل الكتب التي  تسيء لأتباع المذهب الآخر، وعدم السماح بإلقاء أي حديث في وسائل الإعلام أو إلقاء بعض المحاضرات في المراكز والأندية الثقافية التي تمس أوضاع الخلاف، وهو اتجاه الدولة في سورية وغيرها من بلاد الشام.

 ج – استنكار كل محاولات التضليل والتكفير التي  توجه لبعض أتباع المذاهب، لمنع إثارة الفتن، وتخطئة الكاتبين في هذا اللون من التأليف وذلك ما نلمسه في كتاباتنا وغيرها، فنحن لا نقر اتهامات التكفير التي يطلقها شذاد المفتين من أهل السنة، كما لا نقر الحملة الظالمة في كتابات بعض الشيعة على أعيان الصحابة الكرام.

 وكذلك منع كل ما يسيء للتاريخ الإسلامي، ويجدد شبح المنازعات، ويجدد الصراع بين المسلمين بسبب أحداث التاريخ القديم، مما يوجب علينا دفن كل تلك الآثار التي تحرض على الفرقة، أو تؤجج شعلة الفتنة، أو تضرم النار بيننا، وتنبش بعض وقائع التاريخ التي تهدم ولا تبني، وتفرِّق ولا تجمع، وهو اتجاه الفئة المتعصبة التي تسيء للإسلام.

 د – التشجيع في مجال المقارنة العقدية والفقهية ولاسيما في صعيد الدراسات الجامعية التخصصية على منهج بيان آراء الآخرين بموضوعية مجردة واحترام وتقدير لها، وتبيان الأدلة والبراهين التي أدت لنشوء الرأي المخالف منا أن منهم، وظهور القضايا بمظهرين مختلفين، وإشاعة روح الحوار البنّاء والنقد العلمي المجرد من غير تشنيع، ولا تجريح، ولا هجوم، لأن العالم المنصف بحق هو الذي يسمو فوق الخلافات، ولأن الإعذار في الاختلافات هو سمة المسلم الناصح، وهو صاحب القلب الكبير الصافي والخالي من الحقد والبغضاء وحظوظ النفس الأمارة بالسوء والغيور على مستقبل الإسلام والأمة الإسلامية.

 هـ – النشاط الثقافي المشترك بين  كبار علماء السنة والشيعة في رمضان وغيره من المناسبات الإسلامية، على الصعيد الرسمي، كإلقاء بعض المحاضرات من فخامة الرئيس محمد خاتمي في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، وإسهام نخبة متميزة من علماء السنة في أسابيع الوحدة الإسلامية المتكررة في كل عام في طهران، والنشاط الثقافي القوي للمستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق، مثل المسابقات القرآنية في رمضان، والمحاضرات العامة في مناسبات أئمة آل البيت، وإصدار المجلات ونشر البحوث المقارنة.

 وكذلك على الأصعدة الثقافية الأخرى غير الرسمية كالمحاضرات التي تلقى في مقام السيدة زينب بدمشق والجامعات والمراكز الثقافية بدمشق من علماء الشيعة والسنة، وحضور أتباع الفئتين وهم جمهور غفير. وفي هذه المناسبة نقدر تقديراً عالياً نشاط مجمع التقريب في إيران، بعد مصر.

 وتنعقد ندوات حيوية وحساسة مهمة في القنوات الفضائية بين علماء السنة والشيعة في سورية ولبنان تعالج قضايا الساعة وتبين تكامل الفريقين.

 و- على مستوى الصعيد الشعبي: نجد تقارباً واضحاً وتفاهماً جديداً بين أهل السنة والشيعة في أمور كثيرة منها:

 التركيز على وحدة العقيدة بين الفريقين، وأن أصول الإيمان المقررة في القرآن والسنة النبوية متحدة قولاً وعملاً، وكذلك إعلان وحدة العبادة في أداء الصلوات المفروضة، بغض النظر عن الوسائل كالأذان وصيغته وأداء الجمعة والجماعة، وكيفيات الممارسة والأداء، لأن المهم تطبيق أركان الإسلام.

 ومن هذه الظواهر: المشاركة في تلقي الثقافة والعلوم المختلفة في كل من الحوزات العلمية في دمشق وطهران وتوابعها، ووجود جامعة المذاهب الإسلامية في طهران، وكذا تدريس أصول المذاهب المختلفة في كليات الحقوق من الجامعات السورية.

 ويظهر الوفاق العملي بين أتباع السنة والشيعة في انعدام أي نزاع أو تصادم أو توتر بين الفريقين في بلاد الشام وكذا في إيران، بل وفي الاحترام المتبادل، ووجود الزواج القائم بين أهل السنة والشيعة دون إنكار من الجانبين.

 ومن هذه الظواهر الإيجابية: وجود التعقل وبعد النظر في الابتعاد عن إثارة أسباب الاختلاف بين السنة والشيعة، وترك كل فريق على النهج الذي اختاره، واحترام مصادر الاجتهاد لدى كل فريق.

 وحظر كل ألوان  الاتهامات والطعون الموجهة للشيعة التي يروجها العوام وبعض المنتمين للعلم، والتركيز على بيان الوجهة الصحيحة فيها وتأويلها تأويلاً مقبولاً مثل ظاهرة عصمة آل البيت (على وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم) والأئمة الاثني عشرية الذين هم غير أنبياء بمعنى الاستقامة التي تبعدهم عن التورط لفي كبائر الإثم، وكذلك مسألة الإمامة وأفضلية الإمام علي على بقية الخلفاء الراشدين بحسب تصور واعتقاد الشيعة، ومخالفة جماهير أهل السنة لهم في ذلك، علماً بأن القضية أصبحت في ذمة التاريخ، ولا جدوى ولا فائدة في عصرنا وغيره من إثارتها، أو تخطئة جمهور الصحابة أو اتهامهم بما يتنافى مع صريح القرآن، علماً بأنه لو ثبت وجود نص نبوي ينص على إمامة سيدنا علي بن أپي طالب(رض)، لتمسك هو بنفسه به في مواجهة غيره.

 ومنها أيضاً محاولة النيل أو الغض من شأن بعض  أمهات المؤمنين لاسيما اللائي نص القرآن الكريم صراحة على تبرئتهن وصونهن، أو التشنيع على بعض رواة الحديث.

 ومن هذه المثيرات قضية التقية وأنها لا تعني الكذب أو التآمر أو الخيانة، وإنما (التحفظ من إضرار الآخرين بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق في رأي من يتحلى بها) وبخاصة أن مبدأ التقية مع الأعداء مقرر مشروعيته والأخذ به في صريح القرآن الكريم في قوله سبحانه: (إلا أن تتّقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) (آل عمران/ 28).

 ومن الأمثلة الحساسة: زواج المتعة وضرورة فهمه على أساس اشتراط توافر سبعة شروط فيه عند الشيعة خلافاً لما يفعله عوام الفساق، وأن الشيعة ما يزالون يقولون ببقاء مشروعيته، خلافاً لأهل السنة الذين يعتقدون بنحو جازم نسخه وإبطاله، وإن كان على أصل الإباحة أو العفة قبل تحريمه الصريح في القرآن والسنة.

 ومنها قضية عودة المهدي المنتظر، وأنها ثابتة شرعاً مع اختلاف أهل السنة والشيعة في تحديد أوصافه ومقوماته وتاريخ ظهوره.

 ومثل ذلك قضية البداء لله (عزوجل) الذي يعني عند الشيعة الإمامية الإظهار بعد الإخفاء، وليس الظهور بعد الخفاء، مع تنزيه الله تعالى عن النقص وعلم ما لم يكن يعلم به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لأن علم الله تعالى ثابت في الكليات والجزئيات والحاضر والمستقبل، لكن إظهاره يكون بحسب مقتضى الحكمة منه تبارك وتعالى.

 ز- تفويض الحساب لله تعالى: على الرغم من وجود الاختلافات السياسية وبعض الاختلافات المذهبية الاعتقادية أو الفقهية، فإن أهم ما يريح كل مسلم ومسلمة التسليم المطلق لله تعالى في محاسبة الخلائق في الدار الآخرة، فهو سبحانه كما قال: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (الانبياء/ 47). فإن كان هناك خطأ عمدي فيحاسب أصحابه.

 ويبني عليه أن على أهل السنة والشيعة قاطبة أن يفوضوا الأمر في  الحساب على الأخطاء لله (عزوجل)، سواء ما يمس عدالة الصحابة أو الطعن ببعهضم أو قضية الخلافة أو الإمامة أو ما يتعلق بالقضايا الاجتهادية حيث يكون للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد، مادام المجتهد يبذل أقصى جهده للوصول إلى الحق والصواب، ومادام ناضج العلم متمكناً من الاجتهاد، حسن النية، عدل السلوك تقياً لم يعرف عنه التورط في الزلات والأخطاء الفاحشة، حتى يكون صلاحه مساعداً له في توفيقه للحق والهدى والرشاد. ومبدأ أهل السنة هو: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نلطخ بها ألسنتنا، وأن ماحدث بين الصحابة هو لون من الاجتهاد، لأن الصحابة في رأينا عدول.

 ج – محبة آل البيت: يشترك أهل السنة والشيعة في تعظيم آل البيت ومحبتهم ومودتهم، لقول الله تعالى: (قل لا اسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (الشورى/ 23). قال قتادة: قال المشركون: لعل محمداً فيما يتعاطاه يطلب أجراً، فنزلت هذه الآية ليحثهم على مودته ورعاية قرابته. وورد في الأثر: (أدبوا أولادكم على ثلاث خصا: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل الله، يوم لا ظل إلا ظله، مع أنبيائه وأصفيائه) ([2]). ولا تصح الصلاة المفروضة أو النافلة إلا بالصلاة والسلام على النبي وآله الأطهار.

 وهذه بارقة أمل وأساس التقاء في تحقيق الوفاق بين أهل السنة والشيعة، وإن قصَر الشيعة مفهوم آل البيت على أصحاب العباءة (علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام) ووسّع أهل السنة المجال وقالوا: الأصح أنهم من حرمت عليهم الزكاة وهم آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس([3])، ويدخل أمهات المؤمنين مع آل البيت، لقوله تعالى في الآية الواردة في شأنهم ومطلعها: (يا نساء النبي..) وآخرها: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الأحزاب/ 33).

 ط – الإسهام بتدبيج المقالات والبحوث المقارنة في المجالات الإسلامية الشيعية والسنية في سوريا ولبنان لتقريب وجهات النظر، وتخفيف حدة العصبيات والتشنجات المذهبية، والمطالبة اللحوحة ببناء جسور التعاون والتسامح والحوار.

 هذه نماذج من مسيرة التقريب بين المذاهب في سورية وغيرها من بلاد الشام، وكلها نماذج عملية تجعل الفوارق الاجتماعية بين أهل السنة والشيعة تكاد تكون معدومة.

  

ملاحظات على استراتيجية التقريب بين المذاهب الاسلامية:

 لم يتضمن كتابكم الكريم المشروع المقترح لهذه الاستراتيجية، على الرغم من التنويه بأن دراسة الاستراتيجية مرافقة للخطاب، وربما سقط ذلك سهواً، وعلى أية حال أتطلع في هذه الدراسة إلى ما يأتي وإن لم يصلني المشروع المقترح:

 1ـ العمل على تعميم ثقافة الحوار واللقاء والتفاهم بين السنة والشيعة، وتجفيف منابع التعصب بينهما، وإضاعة روح التسامح والتوادد، وحسن الظن، وشحن النفوس المؤمنة بأصالة الثقة والطمأنينة، وتجنب كل ما يؤدي للفرقة والكراهية، واتباع ما تقرره مصادر التشريع الإسلامي الأساسية.

 وغض النظر عن الموروثات العتيقة وما شحنت به كتب الفريقين، وتداولته الألسن، وسرى أثره إلى العوام والجهلة الذين يضخمِّون الأمور في الغالب، ويتعاطون ممارسات مستقبحة وتصرفات شائنة تبعد كل فريق عن الآخر.

 ومصاب الأمة هو في تصرف هؤلاء الجهلة والعوام، والتورط بالكلمات النابية، والإثارات الشائنة، حتى في أثناء تلقين الموتى، والتبرؤ حينئذ من الصحابة وسبهم والطعن فيهم.

 كذلك فإن سطحية طلاب العلم من كلا الفريقين وتعجيل الحكم على الآخرين، وعدم التعمق في فهم آراء الآخرين، وتبادل الاتهامات والتكذيب، وعدم التماس الأعذار في تقدير مواقف الآخرين، كل هذا يؤدي لتجسيد الفرقة وتقوية الخلاف.

 2- أن تكون هناك مواقف عملية لعلماء التقريب ومكاتب وفروع في الأقطار والبلدان الإسلامية، لتعميم أفكار التقريب، وأن يكون هناك غض للنظر عن الماضي بما له وما عليه، وضرورة وجود تنازلات فعلية بحيث تكون الأحكام الشرعية أقرب لروح الشريعة ومقاصدها العامة وصون سمعة المسلمين من الإساءة والتلوث بأفكار مستهجنة، علماً بأنه لاتوجد مشكلة من أهل السنة الذين يحترمون منطلقات الشيعة. ومن المفيد الإكثار من مؤتمرات التقريب في موضوعات مختارة ومفيدة كل عام والحوار فيها.

 3- إن مجلة التقريب بين المذهب تحتاج لتوسيع الانتشار والتوزيع لها، وعقد نافذة من النقاش في مختلف المسائل، وتمكين المتحدث والناقد من حرية التعبير دون فرض وجهة نظر معينة، فلقد جربت التعامل مع محرري بعض المجلات الشيعية، فوجدتهم يرفضون كل رأي يخالف رأيهم أو مذهبهم أو توجههم، ويبادرون إلى تخطئة الكاتب، مما يحدث عقدة وتجافياً وترك الإسهام في مقالات أو بحوث أخرى، بل إنه لا يعجبهم ما يقوله بعض المحاضرين مما يخالف رأيهم، فمنبر الكتابة والمحاضرة يتميز بأنه منبر حر.

 4- يجب تقديم كل ما يحقق ويحفظ وحدة الأمة ويصون عزتها وكرامتها، ويجنّد كل طاقاتها وإمكاناتها لرد العدوان، وزج الطاقات كلها من أجل قمع العدوان المعتدين المستكبرين من الكفرة والظالمين الذين عقدوا العزم على قتل المسلمين جماعة إثر جماعة، كما يحدث في كل مكان ولاسيما في العراق وأفغانستان وغيرهما.

 ولابد من إمداد جنود المقاومة والدفاع عن الأوطان بكل ما هو ممكن من المال والسلاح والرجال والتوجيه والتخطيط والتعاون لحمايتهم من الشرور، وعدم انتشار أو انتقال البلاء المستطير للشعوب الإسلامية الأخرى شعباً بعد شعب، وإشعار الناس أن المسلمين أمة واحدة فعلاً، لا سنة ولا شيعة.

 كما يجب التنديد ببعض الفتاوى الضالة كاعتبار العمليات الفدائية عمليات انتحارية لا استشهادية، وتحريم القتال مع المقاومة في العراق، فأي هدية أو خدمة أفضل من ذلك لتقديمها لجنود الاحتلال وقادتهم الظلمة العتاة الفجرة. كذلك نبذ كل فتاوى التكفير من فريق لآخر.

 5- لابد من إصدار ميثاق يمنع كل أوجه النشاط والدعوة إلى الانتقال من مذهب إلى آخر، على عكس ما نشاهده الآن من نشر مذهب الشيعة في القرى والأرياف والبلدان السورية، والاعتماد في ذلك في الدرجة الأولى على بذل الأموال والمكافآت المادية مقابل التشيع،  وهذا ينافي أپسط وجوه التقريب والتقارب، وهو عكس ما يطمح إليه جميعاً من زرع المحبة والثقة، لا النفور والبغضاء، وإلا كانت الأوضاع ذات ظاهر وباطن، فليس الشيعة قلائل حتى يكثر جمعهم، وليس أهل السنة أصحاب العدد الأوفر والأكثر يضرهم انتقال مئات من السنية إلى الشيعة.

 هذا ما أصرح به، وإلا كان كل عملنا ومنهجنا في فراغ، ونعمل في الخفاء خلافاً لما هو واقع في العمل والتطبيق.

 وليكن الشعار الأساسي المصون ألا وهو: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون). (الأنبياء/ 92) هو السائد نظرياً وعملياً، والحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام قبل وجود المذاهب والفرق وتشعب المسلمين إلى أحزاب وجماعات متنافرة.

  

[1] - أستاذ بجامعة دمشق – كلية الشريعة .

 [2] - أخرجه صاحب الفردوس وابن النجار عن على رضي الله عنه، لكنه كما ذكر السيوطي ضعيف، والضعيف يعمل به في فضائل الأعمال.

 [3] - سبل السلام 1/193.