من الخطوات العملية للوحدة الإسلاميّة

من الخطوات العملية للوحدة الإسلاميّة

 

 

من الخطوات العملية للوحدة الإسلاميّة

 

 

سماحة آية الله السيد محمّد باقر الحكيم

رئيس المجلس الأعلى للمجمع العالمي

للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا سيّد الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى آله الطيبّين الطاهرين وأصحابه المنتجبين. والسلام على السادة والسيدات الأفاضل الحاضرين في هذا الاجتماع المبارك ورحمة الله وبركاته.

في البداية أتقدّم بالتهنئة والتبريك لكلّ السّادة والسيدات بهذه المناسبة العظيمة، مناسبة ميلاد سيّد الكائنات سيّدنا ونبيّنا محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكذلك مولد حفيده الإمام الصادق عليه السلام. وأيضا أشكر للأخوة الأعزّاء القائمين على هذا الاجتماع إتاحتهم لهذه الفرصة، فرصة الحديث، الذي أٌحاول أنّ أذكر فيه بعض النقاط التي ترتبط بموضوع هذا الاجتماع المبارك (الوحدة الإسلاميّة).

شعار الوحدة كما يعرف السادة الأفاضل من الشعارات المحبّبة، ويوجد أيضا شعور عام لدى المسلمين بأهمّية قضيّة الوحدة الإسلاميّة ذلك أنّ المسلمين بشكل عام يشعرون أنّ نقطة الضعف الرئيسية في موقفهم تجاه أعدائهم

 

ـ(14)ـ

 

إنّما تتمثّل في هذا التشتّت والاختلاف، إضافة إلى نقاط أُخرى توجد في مجمل أوضاع جماعة المسلمين والأُمّة الإسلاميّة، ولذلك يعيرون قضيّة الوحدة هذه الأهميّة.

وموقفنا تجاه موضوع الوحدة يكون تارة من خلال تأكيدها بالشعارات والكلام والاجتماعات، وهذا شيء حسن في نفسه حيث إنّنا بحاجة إلى ثقافة الوحدة وثقافة التقريب بين المسلمين، ولعلّ من أفضل الأساليب لتحقيق هذه الوحدة والسير في طريقها هو عقد مثل هذه الاجتماعات التي يتداول فيها علماء المسلمين وقادتهم ومفكّروهم مختلف القضايا المرتبطة بموضوع الوحدة الإسلاميّة وقضايا المسلمين المهمّة والأساسيّة، وأُخرى يكون من خلال المواقف والسعي لتبيين المناهج والأساليب العمليّة.

وسوف أُحاول في هذا الوقت القصير أنّ أتناول هذا الموضوع من خلال بعض القضايا العمليّة التي ينبغي أنّ نخطّط لها بشكل حقيقي ونعطيها شيئا من الوقت حتّى يمكن أنّ نحقّق هذا الأمر وننتهي به إلى أهدافنا.

القضية الأولى: مسألة الاحترام المتبادل بين المسلمين، فإنّ أحد الأساليب الأساسيّة والرئيسة للفرقة والخلاف بين المسلمين هي أنّ بعضهم لا يحترم الآخر في رأيه وعقيدته وشعائره، بل أحيانا ينسحب هذا الأمر من عدم الاحترام للآخرين إلى العدوان، وعدم الاحترام للعرض والمال والنفس، بحيث يكون الموقف العام لهم تكرار ذلك كما نشاهد ذلك في بعض المناطق التي يعيش فيها المسلمين بشكل مشترك، فمثلا الآن في الهند والباكستان يقوم المسلم أحيانا بقتل أخيه المسلم لمجرّد وجود الاختلاف المذهبي فيما بينهما فضلاً عن عدم احترامه لرأيه وتصوّراته وأفكاره، وهذه القضيّة من القضايا الأساسيّة التي يجب أن نهتمّ بها ونخطّط لإيجاد حالة الاحترام بين المسلمين بعضهم لبعض.

 

ـ(15)ـ

 

 

وفي تصوّري، أنّ هذا الأمر يبدأ أوّل ما يبدأ من علماء المسلمين وقادتهم، عندما يحترم بعضهم رأي بعض فضلاً عن القضايا الأخرى التي هي أوضح من قضية الرأي، عندئذٍ يمكن للإنسان المسلم العادي - إذا صحّ التعبير - الذي يتّبع هؤلاء العلماء والقادة أنّ يحترم أخاه المسلم في المجالات المختلفة، ومنها قضيّة الرأي.

وإذا لم نتمكّن أنّ نحقّق هذا الأمر، فلا يمكن أنّ نحقّق الوحدة، لأنّ الاختلاف في الرأي بين المسلمين شيء موجود ولا يمكن إلغاؤه بل لا يصحّ ذلك في بعض الأحيان. أمّا عندما يكون هناك احترام للرأي فيمكن أنّ يتّحد المسلمون في موقف واحد في قضاياهم الكبرى والمصيريّة.

كما حصل هذا الاتحاد في الصدر الأوّل للإسلام عندما اختلف المسلمون في الآراء، بل اختلفوا أيضا في تفسير قضايا أساسيّة ومهمّة، مثل قضيّة الخلافة، فبعض المسلمين كان يرى أنّ الشخص الأحقّ بهذه الخلافة هو علي عليه السلام، وبعضهم يرى بأنّ الخلافة إنّما هي لأبي بكر الصدّيق، هكذا كانوا يختلفون في الرأي، لكن مع ذلك تمكّنوا من خلال احترام بعضهم لبعض من ناحية، واحترامهم للمصالح العامّة ولقضيّة الوحدة كقضيّة أساسيّة ومهمّة أنّ يتفاهموا وأن يكونوا كتلة واحدة وقويّة فتحوا بها البلاد ونشروا الهداية على الأرض وتمكّنوا من تحرير وجودهم السياسي من سيطرة القوتين العظيمتين في ذلك العصر، قوّة الفرس والروم، بل تمكّنوا من التغلب على تينك القوّتين.

هذه القضيّة - قضيّة الاحترام المتبادل - من القضايا الأساسية التي ينبغي أنّ تؤخذ بنظر الاعتبار وتطرح بشكل رئيس.

 

ـ(16)ـ

القضيّة الثانية: قضيّة المشتركات بين المسلمين حيث يوجد في واقع المسلمين اتّجاهان رئيسان يعيشهما المسلمون بشكل يومي: اتّجاه يحاول أنّ يؤكّد القضايا الجزئيّة وقضايا الخلاف ويتناولهما بالبحث والدرس والمناقشة، فيكتب الكتب بذلك وينشر المنشورات ويؤسّس المؤسّسات ويرسل الدعاة ويقوم بمختلف الفعاليات في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من أجل تأكيد هذه القضايا الاختلافيّة.

وفي مقابل هذا يوجد اتّجاه آخر، وهو اتّجاه تأكيد المشتركات الإسلاميّة، والقضايا الرئيسة التي يعتقد بها المسلمون أو يهتمّون بها، وهذه المشتركات لا شكّ في أنّها أهمّ من تلك الأمور الجزئيّة التي يختلف فيها المسلمون، هذا الاتجاه هو الاتجاه الذي نحتاج أنّ نتبنّاه إذا كنّا ندعو إلى الوحدة الحقيقيّة، ونريد أنّ نحقّق هذه الوحدة، فلا بدّ أنّ يكون هنالك قرار وتصميم وإرادة لدى كلّ المؤمنين والعلماء والقادة بالالتزام بهذا القرار حتّى يمكن تحقيق هذه الوحدة، أما إذا كنا نتحدّث عن هذه الرغبة عند المسلمين فقط، ثمّ - عندما ننصرف إلى مواقعنا - تكون ممارستنا اليومية بشكل يتناسب مع اتّجاه التجزئة والتفاصيل، ومن ثمّ فنحن - من حيث أردنا أم لم نرد - سوف نكون من دعاة التفرقة ولو بدون هذا العنوان وهذا الشعار.

والقضية الثالثة: التي تحظى بأهميّة خاصّة وهي من القضايا المطروحة منذ اليوم الأول للتاريخ الإسلامي وحتّى يومنا الحاضر، وحتّى في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت مطروحة بشكل أوضح وما زالت هذه القضية قائمة ومطروحة وهي قضية الحرّية الفكريّة في المجتمع الإسلامي، هل للإنسان المسلم حرّية - من الناحية العمليّة - في الفكر والسياسة أو لا ؟

والفكر عندما يكون تجريديّاً ومعلقاً بين الأرض والسماء، وعبارة عن نظريّات ومفاهيم وأفكار مجرّدة قد لا يكون اهتمام للناس عادة بهذا الفكر.

 

ـ(17)ـ

 

ولكن عندما يتحوّل هذا الفكر إلى واقع يؤثّر في حياة الناس ويؤثّر في تركيبة المجتمع وفي ترتيب المواقف المختلفة لهؤلاء الناس ! عندئذٍ تصبح هذه القضيّة قضيّة مهمّة جداً.

فهل للإنسان المسلم حرّية فكريّة ؟ بمعنى أنّه عندما يرى موقفاً انحرافيّاً بحسب فهمه أو موقفاً لا ينسجم مع المصلحة الإسلاميّة العامّة من الحاكم أو من أيّ جماعة أُخرى قائمة في المجتمع، هل لـه الحرّية في أنّ يقول كلمته ويتحدّث في هذا المجال ويعطي رأيه، أو أنّ الإنسان المسلم ليس لـه هذا الحقّ ويجب أنّ يُقمع ويطارد ويحاصر إذا قال هذه الكلمة، وتحدّث بهذا الحديث الذي يراه الحاكم باطلا أو يراه الآخرون كذلك؟ هذا الأمر في الواقع العملي من القضايا الأساسيّة.

ولعلّ من الميزات التي تميّز بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم - ونحن نعيش في مثل هذه الأيام ذكرى ولادته الشريفة - هذه الميزة، فإنّ حركة النفاق بالرغم من أنّها كانت حركة باطلة بنصّ القرآن الكريم وكان القرآن الكريم ينتقدها علناً إلاّ أنّ الرسول الأعظم لم يتّخذ ضدّها إجراءً عمليّاً قمعيّاً وإنّما اكتفى بفضحها ومناقشة أعمالها وتصرّفاتها ومنطلقاتها.

نعم عندما أصبحت هذه الحركة في بعض مقاطعها تهدّد الكيان الإسلامي زمن الحرب والقتال كما في معركة الأحزاب، وجدنا القرآن الكريم يهدّدها باتّخاذ الإجراءات التأديبيّة ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثمّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾(1).

___________________________

1 - سورة الأحزاب: 60.

ـ(18)ـ

وبالرغم من أنّ المجتمع الإسلامي كان في بداية نشوئه وبداية تأسيسه وتكالب قوى الكفر عليه من كلّ مكان، فإنّه حتّى في مثل هذا الظرف الحساس لم يعرف عن رسول الله أنّه قمع إنساناً مسلماً، مع أنّ كثيراً من هؤلاء المسلمين كانوا من المنافقين حيث إنّ القرآن كان يتحدّث عنهم ورسول الله يعرفهم، ولكن مع ذلك أُعطيت الحرّية العملية لهم بهذه الدرجة، وهكذا في الصدر الأول للإسلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن كانت تتميّز أحيانا بعض الأدوار عن الأخرى ببعض الإجراءات التعسفيّة والتي كانت تلقى استنكاراً من قبل عامّة المسلمين، ولكن هذه الحرّية كانت واضحة جدّاً في زمن أمير المؤمنين عليه السلام حيث إنّه واجه حركات سياسية وآراء فكرية عقائدية عامّة لم يتصدّ لمحاربتها عملياً بالقمع إلاّ بعد أن تطوّرت إلى حركة سياسية مسلّحة قتلت واعتدت على المسلمين.

ولكن نلاحظ بعد هذا التاريخ أنّ المسلمين واجهوا تطوراً في هذه القضية وبدأت حالة القمع بالنسبة إلى المواقف السياسية، أو الأفكار التي كانت تنعكس على حالة موقف سياسي أو عقائدي مجرّد من الحكم.

 

وهنا يوجد خطان ومنهجان في العالم الإسلامي:

منهج يقول بضرورة التسليم المطلق للحاكم والاكتفاء بالنصيحة الهادئة، الخجولة، وأحيانا تكون هذه النصيحة على شكل شعارات تطرح لا مضمون لها ولا طعم في كثير من الأحيان.

واتجاه آخر يقول: إنّ للإنسان المسلم الحقّ في أنّ يمارس هذه الحرّية وأن تحفظ جميع حقوقه المدنية والسياسية في الإطار الإسلامي.

هذه القضية (قضيّة الحرّية) من القضايا الأساسية في مسألة الوحدة.

 

ـ(19)ـ

 

فإذا أردنا حقيقة أنّ نوجد وحدة بين المسلمين فلا بدّ أنّ ندعو إلى هذه الحريّة حتّى يمكن لهذا الإنسان المسلم الذي يملك رأياً في مقابل الرأي الآخر - الرأي الظالم، أو الرأي الحاكم حتّى ولو لم يكن ظالما - أنّ يتعايش مع الإنسان المسلم الآخر في مجتمع واحد.

أمّا إذا كان المنهج هو منهج القمع، أنّ يقمع هذا الإنسان ويطارد فسوف تتحوّل حالة القمع - بطبيعة الحال - إلى ردّ فعل لدى هؤلاء الناس المظلومين الذين يملكون آراء بطبيعة الحال، و تتطوّر هذه الحالة إلى صراعات ونزاعات واقتتالات وحوادث شهدها التاريخ الإسلامي في مختلف عصوره.

ونحن الآن نعيش في عصر الدعوة إلى الحريّة وفي عصر حقوق الإنسان - حيث تقدّم هذا الإنسان بشكل كبير في رشده وفهمه للحياة والحضارة بالرغم من تخلّفه وانتكاسه الأخلاقي والعملي - نحتاج إلى أنّ نرفع هذه الدعوة، وهذا الشعار ونطرح النظريّة الإسلاميّة في هذا المجال ونجسّدها عملياً.

وهنا لا بدّ لنا أنّ نفهم أيضا عندما يتحدث المتحدّثون عن الإنسان الأصولي والإنسان غير الأصولي، فنحن وإن كنّا ندرك أنّ الذين يتحدّثون عن ذلك لهم أغراض وأهداف أخرى، وهم يريدون بذلك أنّ يقسّموا المسلمين إلى قسمين، وكأنّ الإسلام ينقسم إلى قسمين، ولكن في نفس الوقت لا بدّ أنّ نعرف أنّ هناك حقيقة وواقعاً في العالم الإسلامي يعبّران عن وجود صنفين من الناس في العالم الإسلامي: هناك جماعة من المسلمين يرفضون القمع والممارسات القمعية ولهم آراء في هذه الحكومات وإدارتها للمجتمع الإسلامي ومن ثمّ يتحدثون في مواجهة حكوماتهم ومواجهة الظالمين ويطرحون آراءهم بشكل واضح وصريح، وهناك جماعة من المسلمين يرون السكوت والتسليم المطلق للحاكم.

 

ـ(20)ـ

 

هذان الاتّجاهان حقيقيان وواقعان وقائمان في العالم الإسلامي لا يمكن أنّ ننكرهما أو نتجاوزهما، ولا بدّ أنّ نتعامل معهما تعاملاً واضحاً من خلال منطق الوحدة.

وبهذا الصدد لا بدّ أنّ نرجع إلى المصادر الإسلاميّة ونرى ما هو رأي الإسلام بهذا الأمر، ولا بدّ أنّ نكوّن رأياً واحداً وموقفاً واحداً تجاه هذه القضية. هذه أيضا من القضايا المهمّة.

هناك قضيّة أُخرى تتعلّق بموضوع الوحدة، هي قضية الاتهامات والشبهات التي تثار حول هذا المذهب أو ذاك من مذاهب المسلمين، فما هو الموقف منها ؟

القرآن الكريم أمرنا باتّباع العلم، ونهانا عن اتّباع الظنّ ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كلّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾(1) ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إنّ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحقّ شَيْئًا﴾(2).

والمسلمون بحاجة إلى التزام منهج واحد يتّفقون عليه لمعرفة الحقائق حتّى يمكنهم من خلاله أنّ يصلوا إلى الوحدة، وهذا المنهج هو منهج العلم، وعلى هذا الأساس عندما نواجه في حياتنا الإسلاميّة تهمة منكرة أو شبهة مؤذية عن أُمة من الناس أو جماعة من المسلمين أو مذهب من مذاهبهم، لا بدّ لنا - قبل ترتيب الأثر عليها عمليا - أنّ نذهب ونحقّق في هذا الأمر حتّى نصل إلى الحقيقة ونعرف الموقف منها، أمّا الاعتماد على الظنون والشبهات والشكوك، فهذا المنهج مرفوض وخطير ومدمّر ويؤدّي بنا إلى الفرقة والتمزّق.

نحن نحتاج إلى اعتماد (منهج قرآني)، منهج يعتمد العلم والدليل والبرهان والحجّة، ويعتمد وسائل الإثبات الصحيحة التي يمكن إثبات الوقائع من خلالها.

___________________________

1 - سورة الإسراء: 36.

2 - سورة النجم: 28.

ـ(21)ـ

فمثلاً، من جملة القضايا التي تثار بشكل واسع حول مذهب أتباع أهل البيت عليهم السلام هي مسألة تحريف القرآن، مع أنّنا عندما نرجع إلى الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ومع قطع النظر عن الأدلّة الأخرى (وهي كثيرة)، نجد أنّ أهل البيت عليهم السلام يضعون القرآن الكريم في موضع رفيع لا يكاد يلحق به شيء آخر وفي مختلف شؤون حياتهم.

فالقرآن الكريم هو بعد الله تعالى في القدسيّة، ولا يمكن أنّ يقبل أيُّ خبر أو حديث عن رسول الله أو عن أهل البيت عليهم السلام إذا كان معارضا للقرآن الكريم، أو كلّ حديث يكون مخالفاً للقرآن الكريم «فهو زخرف باطل لم نقُله» كما ورد في تعبيراتهم.

فقد روى الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنّ عَلَى كلّ حقٍّ حَقيقَةً وعَلى كلّ صَوابٍ نوراً، فَما وافَقَ كِتابَ اللهِ فَخُذوُهُ ومَا خَالَفَ كِتَابَ الله فَدَعُوه». وقد رواه البرقي في المحاسن والصدوق في الأمالي بسندهما عن النوفلي والسكوني(1).

في رواية أخرى للكليني صحيحة السند عن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: خطب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بمنى، فقال: «أيُّها الناسُ ما جاءكُم عَنّي يُوافِقُ كِتابَ اللهِ فَأَنَا قُلتُه ومَا جَاءكَمُ يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ فَلَمْ أقُلْهُ»(2).

كما أنّ القرآن الكريم تردّ لـه جميع الشروط والعهود والمواثيق والالتزامات التي

___________________________

1 - وسائل الشيعة 18: 78.

2 - وسائل الشيعة 18: 79.

ـ(22)ـ

يقوم بها الإنسان المسلم بحيث إنّ أيّ شرط خالف القرآن الكريم يكون مرفوضاً ومردوداً كما ورد في الحديث الشريف عنهم عليهم السلام.

ففي حديث عن الصادق عليه السلام «المُسْلِمُونَ عِندَ شُروُطِهم إلاّ كلّ شَرطٍ خَالَف كتاب اللهِ عزّ وجل فلا يجوز»، وفي حديث آخر: «وإن كان شرطا يخالف كتاب الله عزّ وجل فهو ردّ إلى كتاب الله»(1).

كما أنّ أهل البيت عليهم السلام يرون أنّ حكم كلّ شيء في الإسلام والدين لـه أصل في القرآن الكريم، وعلى هذا الأساس يمكن أنّ نرجع في موارد الاختلاف إلى القرآن الكريم لحلّ هذه الاختلافات، لأنّ حكمها لـه أصل في القرآن، فهم يعتقدون بهذا، وتوجد روايات تؤكّد أنّ كلّ شيء من الفقه والدين لـه أصل في القرآن الكريم.

فقد روى الكليني بسند صحيح عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام، قال: «إنّ الله تَباركَ وتَعالى أَنزلَ في القُرآن تِبيانَ كلّ شَيءٍ حتّى واللهِ ما تَرك شَيئاً يَحتاجُ إليه العبادُ، حتّى لا يَستطيعُ عبدٌ أنّ يقولَ لو كَان هَذَا أُنزِلَ في القُرآن؟ إلاّ وَقَد أَنَزلهُ اللهُ فِيهِ»(2).

وفي حديث آخر معتبر عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول «مَا مِنْ شَيءٍ إلاّ وفيهِ كِتَابٌ وَسُنّة»(3).

ولم يقصدوا من ذلك وجود التفاصيل، وإنّما يقصدون وجود الأصل الذي يمكن الرجوع إليه ومصداق ذلك ما ورد في قولـه تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فإنّ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إنّ

___________________________

1 - وسائل الشيعة 12: 353، حديث 2 و 4.

2 - الكافي 1: 59، حديث 1.

3 - الكافي 1: 59، حديث 4.

 

ـ(23)ـ

 

كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(1).

أو كما ورد في قولـه تعالى ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(2).

وهذا النوع من المضمون يؤكّده أهل البيت بهذا البيان العام الذي يربطون به كلّ الدين بالقرآن الكريم، هذه النقطة أيضاً من النقاط المهمّة جداً، وإذا أردنا أنّ نصل إلى الوحدة بشكل حقيقي فعلينا أنّ نركّز على هذه النقطة وأن تُبحث من قبل علماء الإسلام حتّى نصل إلى أفكار واضحة فيها.

ونقطة أخيرة أختم بها حديثي حول الوحدة، وهي نقطة الرجوع إلى الأصول المشتركة التي يتّفق عليها المسلمون وهي الكتاب الكريم والسنّة النبويّة وأهل البيت عليهم السلام الذين يمثّلون الثقل الآخر بنصّ الحديث المتواتر لدى المسلمين، فنحن في الواقع نحتاج إلى الرجوع إلى هذا الأصول.

وليس معنى ذلك التخلّي عن المذاهب الإسلاميّة، فإنّ المذاهب على كلّ حال حقيقة قائمة في الأُمّة الإسلاميّة وكانت نتيجة دراسات وجهود علمية كبيرة جداً.

صحيح إنّ الجهود العلمية قد اختلطت أحيانا بالجهود الطائفية والحالات النفسية والتعصّب المقيت، ولكن توجد أيضا كميّة هائلة من الجهود العلميّة بذلت في الخطوط المذهبية المختلفة وهي جهود قابلة للتقدير والاحترام، فإذا تمكّنا من أنّ نثقّف أنفسنا، بل نربّي أنفسنا - بتعبير آخر وأدق - ونربّي أمّتنا على أنّ كلّ شيء نختلف فيه، نرجع فيه إلى الأصلين الرئيسين، (الكتاب الكريم) الذي

___________________________

1 - سورة النساء: 59.

2 - سورة النحل: 89.

 

ـ(24)ـ

 

ثبت لدى المسلمين بنصّه، وإن وجد الاختلاف في تفسيره وفهمه، و(السنّة النبوية) الشريفة التي لا يشكّ المسلمون بأنّ هناك كمّية كبيرة جداً من هذه السنّة قد وصلت إليهم، إنّ كان قد يختلف بعضهم مع الآخر في صحّة هذا الكم أو ذاك، لكن في أصل الاعتماد والاستناد إلى السنّة لا يوجد اختلاف بين المسلمين.

وفي رأيي، إذا تمكّنا أنّ نرسّخ هذا المبدأ في اتّجاهاتنا وأبحاثنا العلمية وأن نرجع إلى الأصول عندما نختلف، ولا نتعامل مع مسلّمات المذاهب وكأنّها أصول لا يمكن تجاوزها كالقرآن الكريم أو كالسنّة النبوية الشريفة، بل على أساس أنّها اجتهادات في فهم القرآن الكريم والسنّة واجتهادات في فهم ما ينسب إلى أصحاب المذهب نفسه.

وقد قلت آنفا إنّ أهل البيت يرون أنّ يعرض كلّما ورد عنهم من أخبار وأحاديث على القرآن الكريم لأنّه هو الأصل، وما يخالف القرآن الكريم زخرف باطل لا بدّ من رده، وكذلك لا بدّ أنّ يعرض ما ورد عنهم على السنّة النبوية الشريفة الثابتة لأنّها هي الأصل.

وإذا اتفق المسلمون على هذا الأمر وأصبحوا - كلّما اختلفوا في قضية من هذا القضايا المذهبية - يرجعون فيها إلى الأصل أمكنهم أنّ يحلّوا بذلك كثيراً من مشاكلهم واختلافاتهم.

وبذلك تكون حركة الاجتهاد والتأمل والتفكير حركة دائبة ومستمرة، ويمكن الوصول من خلالها إلى آراء موحّدة أو مواقف موحّدة على الأقل، وحتّى عندما نختلف يكون أصل الاحترام المتبادل والاتفاق على الأصول هو الذي يجمعنا.

نسأل الله سبحانه وتعالى أنّ يحقّق هذا الأمل والهدف الكبير للمسلمين وأن

 

ـ(25)ـ

 

ينصرهم في جميع مواقعهم، وأن يسدّد خطى علمائنا الأعلام وقادتنا الكرام، وخصوصاً قائد الثورة الإسلاميّة آية الله السيد الخامنئي حفظه الله تعالى، وأن يحفظ هذه الدولة المباركة ويرعاكم ويتقبّل منكم أعمالكم.

والحمد لله ربِّ العالمين.