204 - ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام .
- 205 - وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد .
- 206 - وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد .
- 207 - ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد .
قال السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك وعن ابن عباس أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في ( خبيب ) وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم وقيل : بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم وهو الصحيح وروى ابن جرير قال : حدثني محمد بن أبي معشر وأخبرني أبو معشر نجيح قال : سمعت سعيدا المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي فقال سعيد : إن في بعض الكتب : ( إن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر لبسو للناس مسوك الضأن من اللين يجترون الدنيا بالدين قال الله تعالى : علي تجترئون وبي تغترون ؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران ) فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله فقال سعيد : واين هو من كتاب الله ؟ قال قوله الله : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } الآية . فقال سعيد : قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد ( أخرجه ابن جرير عن سعيد المقبري موقوفا ) وهذا الذي قاله القرطبي حسن صحيح .
وأما قوله تعالى : { ويشهد الله على ما في قلبه } فمعناه أنه يظهر للناس الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق كقوله تعالى : { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله } الآية . وقيل معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه وهذا المعنى صحيح واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس والله أعلم .
وقوله تعالى : { وهو ألد الخصام } الألد في اللغة : الأعوج { وتنذر به قوما لدا } أي عوجا وهكذا المنافق في حال خصومته يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه بل يفتري ويفجر كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر " . وفي الحديث : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " ( رواه البخاري عن عائشة مرفوعا ) .
وقوله تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } أي هو أعوج المقال سيء الفعال فذلك قوله وهذا فعله . كلامه كذب واعتقاده فاسد وأفعاله قبيحة . والسعي ههنا هو القصد كما قال إخبارأ عن فرعون : { ثم أبدر يسعى ... فحشر فنادى ... فقال أنا ربكم الأعلى } وقال تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية : " إذا أتتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار " . فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرث وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل : وهو نتاج الحيوانات الذي لا قوام للناس إلا بهما . وقال مجاهد : إذا سعى في الأرض إفسادا منع الله القطر فهلك الحرث والنسل { والله لا يحب الفساد } أي لا يحب من هذه صفته ولا من يصدر منه ذلك .
وقوله تعالى : { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم } أي إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله وقيل له : اتق الله وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالإثم أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا تعرف في وجوه الذي كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا . قل أفأنبئكم بشر من ذلكم . النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير } ولهذا قال في هذه الآية : { فحسبه جهنم ولبئس المهاد } أي هي كفايته عقوبة في ذلك .
وقوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } قال ابن عباس وجماعة : نزلت في ( صهيب الرومي ) وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل فتخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا : ربح البيع فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك ؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له : " ربح البيع صهيب " وروي عن أبي عثمان النهدي عن صهيب قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قالت لي قريش : يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك أبدا فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا : نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : " ربح صهيب ربح صهيب " ( رواه ابن مردويه عن صهيب الرومي ) مرتين وأما الاكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال الله تعالى : { إن لله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس فرد عليهم عمر بن الخطاب وابو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد }