9 - يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا .
- 10 - إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون .
يقول تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرأ من أشراف يهود بني النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إلى خيبر منهم ( سلام بن أبي الحقيق ) و ( سلام بن مشكم ) و ( كنانة بن الربيع ) خرجوا إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلّم ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة فأجابوهم إلى ذلك ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها وقائدهم ( أبو سفيان ) صخر بن حرب وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر والجميع قريب من عشرة آلاف فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق وذلك بإشارة سلمان الفارسي Bه فعمل المسلمون فيه واجتهدوا ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم التراب وحفر وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة كما قال الله تعالى : { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن معه من المسلمين وهم نحو من ثلاثة آلاف فأسندوا ظهورهم إلى سلع ووجوههم نحو العدو والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الخيالة والرجالة أن تصل إليهم وجعل النساء والذراري في آطام المدينة وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلّم وذمة وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم ( حيي بن أخطب ) فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد ومالأوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعظم الخطب واشتد الأمر وضاق الحال كما قال الله تبارك وتعالى : { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه قريبا من شهر الإ أنهم لا يصلون إليهم ولم يقع بينهم قتال ثم أرسل الله D على الأحزاب ريح شديدة الهبوب قوية حتى لم يبق لهم خيمة ولا شيء ولا توقد لهم نار ولا يقر لهم قرار حتى ارتحلوا خائبين خاسرين كما قال الله D : { يا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا } قال مجاهد : وهي الصبا ويؤيده الحديث الشريف : " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " .
وقوله تعالى : { وجنودا لم تروها } هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف فكان رئيس كل قبيلة يقولك يا بني فلان إلي فيجتمعون إليه فيقول : النجاء لما ألقى الله D في قلوبهم من الرعب روى مسلم في صحيحه عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا عند حذيفة بن اليمان Bه فقال له رجل : لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قاتلت معه وأبليت فقال له حذيفة : أنت كنت تفعل ذلك ؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة " فلم يجبه منا أحد ثم الثانية ثم الثالثة مثله ثم قال صلى الله عليه وسلّم : " يا حذيفة قم فأتنا بخبر من القوم " فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم فقال : " ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي قال فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد قوسي وأردت أن أرميه ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم : لا تذعرهم علي ولو رميته لأصبته قال : فرجعت كأنما أمشي في حمام فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت فأخبرت رسول الله A وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائما حتى الصبح فلما أن أصبحت قال رسول الله عليه وسلم : " قم يا نومان " ( أخرجه مسلم في صحيحه ) .
وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال : ذكر حذيفة Bه مشاهدهم مع رسول الله A فقال جلساؤه : أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا فقال حذيفة : لاتمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعودا وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا وقريظة لليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه فجعل المنافقون يستأذنون النبي A ويقولون : إن بيوتنا عورة وما هي بعورة فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ويأذن لهم فيتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله A رجلا رجلا حتى أتى علي وما علي من جنة العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي قال فأتاني A وأنا جاث على ركبتي فقال : " من هذا ؟ " فقلت : حذيفة قال : " حذيفة ؟ " فتقاصرت الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم فقمت فقال : " إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم " قال : وأنا من أشد الناس فزعا .
وأشدهم قرا قال : فخرجت فقال رسول الله A : " اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته " قال : فوالله ما خلق الله تعالى فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئا قال : فلما وليت قال A : " يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني " قال : فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد فإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل الرحيل ولم أكن أعرف أبا سفيان قيل ذلك فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار فذكرت قول رسول الله A : " لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني " قال : فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون : يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم بها ثم خرجت نحو النبي A فلما انتصفت في الطريق أو نحوا من ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين فقالوا : أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم فرجعت إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف فأومأ إلي رسول الله A بيده وهو يصلي فدنوت منه فأسبل علي شملة وكان رسول الله A إذا حزبه أمر صلى فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يرتحلون وأنزل الله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } ( أخرجه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة ) ولأبي داود : وكان رسول الله A إذا حزبه أمر صلى ( أخرجه أبو داود في سننه ) وقوله تعالى : { إذا جاءوكم من فوقكم } أي الأحزاب { ومن أسفل منكم } تقدم عن حذيفة Bه أنهم بنو قريظة { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } أي من شدة الخوف والفزع { وتظنون بالله الظنونا } ظن بعض من كان مع رسول الله A أن الدائرة على المؤمنين وقال محمد بن إسحاق : ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق حتى قال ( معتب بن قشير ) : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلا الغائط وقال الحسن في قوله D : { وتظنون بالله الظنونا } ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمدا A وأصحابه يستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون وعن أبي سعيد Bه قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقول فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال رسول الله A : " نعم قولوا : اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا قال : فضرب وجوه أعدائه بالريح فهزمهم بالريح ( أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الإمام أحمد بمثله )