15 - لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور .
- 16 - فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل .
- 17 - ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور .
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى ثم أعرضوا عما أمروا به فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ شذر مذر كما سيأتي قريبا روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن وعلة قال : سمعت ابن عباس يقول : إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن سبأ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض ؟ قال صلى الله عليه وسلّم : " بل هو رجل ولد له عشرة فسكن اليمن منهم ستة والشام منهم أربعة فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان " ( رواه الإمام أحمد وابن جرير والترمذي وقال : حسن غريب قال ابن كثير : ورواه ابن عبد البر عن تميم الداري مرفوعا فذكر مثله فقوي هذا الحديث وحسن ) قال علماء النسب : اسم سبأ ( عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ) وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب ومعنى قوله صلى الله عليه وسلّم : " كان رجلا من العرب " يعني من سلالة الخليل عليه السلام وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مر بنفر من أسلم ينتصلون فقال : " ارموا بني إسرائيل فإن أباكم كان راميا " ( أخرجه البخاري ) فأسلم قبيلة من ( الأنصار ) والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله D عليهم سيل العرم ونزلت طائفة منهم بالشام وإنما قيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قريب من المشلل كما قال حسان بن ثابت Bه : .
إما سألت عنا فنحن معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلّم : " ولد له عشرة " أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن لا أنهم ولدوا من صلبه بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب ومعنى قوله صلى الله عليه وسلّم : " فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة " أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم منهم من أقام ببلادهم ومنهم من نزح إلى غيرها وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سدا عظيما محكما حتى ارتفع الماء وحكم على حافات ذينك الجبلين فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن كما ذكر غير واحد من السلف أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل - وهو الذي تخترف فيه الثمار - فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف لكثرته ونضجه واستوائه وكان هذا السد بمأرب ( مأرب بلدة بينها وبين اليمن ثلاث مراحل ويعرف هذا السد بسد مأرب ) . ويذكر أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ولا شيء من الهوام وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه كما قال تبارك وتعالى : { لقد كان لسبأ في مسكنهم آية } ثم فسرها بقوله D { جنتان عن يمين وشمال } أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك { كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور } أي غفور لكم إن استررتم على التوحيد وقوله تعالى : { فأعرضوا } أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله كما قال الهدهد لسليمان E : { وجئتك من سبأ بنبأ يقين ... إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ... وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون } قال السدي : أرسل الله D إليهم اثني عشر ألف نبي والله أعلم .
وقوله تعالى : { فأرسلنا عليهم سيل العرم } المراد بالعرم المياه وقيل : الوادي وقيل : الماء الغزير وذكر غير واحد منهم ابن عباس وقتادة والضحاك : أن الله D لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم بعث على السد دابة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته وانساب الماء في أسفل الوادي وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال . فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة كما قال تبارك وتعالى : { وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط } قال ابن عباس ومجاهد : هو الأراك وأكلة البربر ( وأثل ) هو الطرفاء وقال غيره : هو شجر يشبه الطرفاء وقيل : هو الثمر والله أعلم وقوله : { وشيء من سدر قليل } لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر قال { وشيء من سدر قليل } فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال العميقة والأنهار الجارية تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ولهذا قال تعالى : { ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور } أي عاقبناهم بكفرهم قال مجاهد : ولا يعاقب إلا الكفور . وقال الحسن البصري : صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور وقال ابن أبي حاتم عن ابن خيرة وكان من أصحاب علي Bه قال : جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعسر في اللذة قيل : وما التعسر في اللذة ؟ قال : لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها ( ذكره ابن أبي حاتم )