284 - لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير .
يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهم وأنه المطلع على ما فيهن لا تخفى عليه الظواهر ولا السارئر والضمائر وإن دقت خفيت وأخبر سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كماقال تعالى : { قل إن تخفوا مافي صدوركم أو تبدوه يعلمه الله } وقال : { يعلم السر وأخفى } والآيات في ذلك كثيرة جدا وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم وهو ( المحاسبة ) على ذلك ولهذا لما نزلت هذه اظلاية اشتد ذلك على الصحابة Bهم وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم .
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم : { لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم جثوا على الركب وقالوا : يا رسول الله كلفنا من الاعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل قوله : { لا يكلف الله نفسا إلى وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } إلى آخره ورواه مسلم عن أبي هريرة ولفظه : فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال : نعم { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } قال : نعم { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : نعم { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فاصرنا على القوم الكافرين } قال : نعم .
( طريق أخرى ) : قال ابن جرير عن سعيد بن مرجانة سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية : { لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء } الآية فقال : والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه قال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها فقال ابن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله بعدها : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلى آخر السورة قال ابن عباس فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة لمسلمين بها وصار الأمر إلى أن قضى الله D أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل .
( طريق أخرى ) : عن سالم أن أباه قرأ : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فدمعت عيناه فبلغ صنيعه بان عباس فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أنزلت فنسختها الآية التي بعدها : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل " .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " قال الله إذا هم عبيد بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " إذا أحسن أحد إسلامه فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله D " ( رواه مسلم ) وقال مسلم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما يروي عن ربه تعالى قال : " إن الله كتب الحسنات والسيئات - ثم بين ذلك - فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنهد سيئة واحدة " ( أخرجهما مسلم ) وروي عن أبي هريرة قال : جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسالوه فقالوا : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال : " وقد وجدتموه ؟ " قالوا : نعم قال : " ذاك صريح الإيمان " . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الوسوسة قال : " تلك صريح الإيمان " ( أخرجهما مسلم ) .
وروي ابن جرير عن مجاهد والضحاك أنه قال : هي محكمة لم تنسخ واختار ابن جرير ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه قتادة عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف إذا عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول في النجوى ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : " يدنوا المؤمن من ربه D حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له : هل تعرف كذا ؟ فيقول : رب أعرف مرتين حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم قال : فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الأشهاد { هؤلاء الذي كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } ( الحديث مخرج في الصحيحين من طرق متعددة )