55 - إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون .
- 56 - فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين .
- 57 - وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين .
- 58 - ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم .
اختلف المفسرون في قوله تعالى : { إني متوفيك ورافعك إلي } فقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره إني رافعك إلي ومتوفيك يعني بعد ذلك . وقال ابن عباس : إني متوفيك أي مميتك وقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه قال مطر الوراق : إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت وكذا قال ابن جرير : توفيه هو رفعه . وقال الأكثرون : المراد بالوفاة ههنا النوم كما قال تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } الآية وقال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } الآية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول إذا قام من النوم : " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا " الحديث . وعن الحسن أنه قال في قوله تعالى : { إني متوفيك } يعني وفاة المنام : رفعه الله في منامه . وقوله تعالى : { ومطهرك من الذين كفروا } أي برفعي إياك إلى السماء { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام لما رفعه الله إلى السماء تفرقت أصحابه شيعا بعده فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله وآخرون قالوا : هو الله وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة وقد حكى الله مقالتهم في القرآن ورد على كل فريق فاستمروا على ذلك قريبا من ثلثمائة سنة .
ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له ( قسطنطين ) فدخل في دين النصرانية قيل : حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفا وقيل : جهلا منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه وزاد فيه نقص منه ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة وأحل في زمانه لحم الخنزير وصلوا له إلى المشرق وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون وصار دين المسيح ( دين قسطنطين ) إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثنتي عشر ألف معبد وبنى المدينة المنسوبة إليه واتبعه طائفة الملكية منهم وهم في هذا كله قاهرون لليهود أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم وإن كان الجميع كفارا عليهم لعائن الله فلما بعث الله محمدا فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض إذ قد صدقوا النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلّم من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة ولا يزال قائما منصورا ظاهرا على كل دين فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها واحتازوا جميع الممالك ودانت لهم جميع الدول وكسروا كسرى وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم D في قوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } الآية . فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا سلبوا النصارى بلاد الشام وألجؤوهم إلى الروم فلجأوا إلى مدينتهم القسطنطينية ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة .
وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلّم أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جدا لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها وقد جمعت في هذا جزءا مفردا ولهذا قال تعالى : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ... فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين } وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق { وما لهم من الله من واق } { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } أي في الدنيا والآخرة في الدنيا بالنصر والظفر وفي الآخرة بالجنات العاليات { والله لا يحب الظالمين } .
ثم قال تعالى : { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره هو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ فلا مرية فيه ولا شك كما قال تعالى في سورة مريم : { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ... ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } وههنا قال تعالى :