190 - إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .
- 191 - الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار .
- 192 - ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار .
- 193 - ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .
- 194 - ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد .
معنى الآية إن الله تعالى يقول : { إن في خلق السموات والأرض } أي هذه في ارتفاعها واتساعها وهذه في انفخاضها وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العيظمة من كواكب سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والراوئح والخواص { واختلاف الليل والنهار } أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر فتارة يطول هذا ويقصر هذا ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز العليم ولهذا قال تعالى : { لآيات لأولي الألباب } أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله فيهم : { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال : { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } كما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك } أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالف وقدرته وحكمته واختياره ورحمته . وقال الداراني : أين لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة وعن الحسن البصري أنه قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة وقال : الحسن : الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك .
وعن عيسى عليه السلام أنه قال : طوبى لمن كان قيله تذكرا وصمته تفكرا ونظره عبرا . وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم وشاهدوا الموقف بقلوبكم وانظروا إلى المصرف بالفريقين إلى الجنة أوالنار وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعا من بين أصحابه . وقال ابن المبارك : مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة فناداه فقال : يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر : كنز الرجال وكنزل الأموال . وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كل شيء هالك إلا وجهه } وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة . وقال بشر الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه وعن عيسى عليه السلام أنه قال : يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت وكن في الدنيا ضعيفا واتخذ المساجد بيتا وعلم عينيك البكاء وجسدك الصبر وقلبك الفكر ولا تهتم برزق غد . وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز Bه أنه بكى يوما بين أصحابه فسئل عن ذلك فقال : فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها . ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر .
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال : { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ... وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } ومدح عباده المؤمنين : { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض } قائلين : { ربنا ما خلقت هذا باطلا } أي ما خلقت هذا الخلق عبثا بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا : { سبحانك } أي عن أن تخلق شيئا باطلا . { فقنا عذاب النار } أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث قنا من عذاب النار بحولك وقوتك ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم وتجيرنا به من عذابك الأليم ثم قالوا : { بنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } أي أهنته وأظهرت خزيهه لأهل الجمع { وما للظالمين من أنصار } أي يوم القيامة لا مجير لهم منك ولا محيد لهم عما أردت بهم { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } أي داعيا يدعو إلى الإيمان وهو الرسول صلى الله عليه وسلّم { أن آمنوا بربكم فآمنا } أي يقول آمنوا بربكم فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه أي بإيماننا بنبيك { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } أي استرها { وكفر عنا سيئاتنا } فيما بيننا وبينك { وتوفنا مع الأبرار } أي ألحقنا بالصالحين { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } قيل : معناه على الإيمان برسلك وقيل : معناه على ألسنة رسلك وهذا أظهر { ولا تخزنا يوم القيامة } أي على رؤوس الخلائق { إنك لا تخلف الميعاد } أي لا بد من الميعاد الذين أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك .
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقال البخاري C عن ابن عباس Bهما قال : بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع أهلة ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } الآيات ثم قام فتوضأ واستن ثم صلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } إلى آخر السورة ثم قال : " اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا ومن بين يدي نورا ومن خلفي نورا ومن فوقي نورا ومن تحتي نورا وأعظم لي نورا يوم القيامة " ( رواه ابن مردويه عن ابن عباس ) .
وعن عطاء قال : انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة Bها فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا قال : قول الشاعر ( زر غبا تزدد حبا ) فقال ابن عمر : ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟ فبكت وقالت : كل أمره كان عجبا أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال " ذريني أتعبد لربي D " قالت فقلت : والله إني لأحب قربك وإني أحب أن تعبد ربك فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت فقال : يارسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب } " ثم قال : " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " ( رواه ابن مردويه وعبد بن حميد )