101 - وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا .
يقول تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض } أي سافرتم في البلاد كما قال تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض } وقوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة : من جهاد أو حج أو عمرة أو طلب علم أو زيارة أو غير ذلك .
ومن قائل لا يشترط سفر القربة بل لا بد أن كون مباحا لقوله : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم } الآية كما أباح له تناول الميتة مع الإضطرار بشرط أن لا يكون عاصيا بسفره وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة ومن قائل : يكفي مطلق السفر سواء كان مباحا أو محظورا حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور وأما قوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزل هذه الآية فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام أو في سرية خاصة وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له كقوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } وكقوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } . وقال الإمام أحمد عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت له قوله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وقد أمن الناس فقال لي عمر Bه : عجبت مما عجبت منه فسلأت رسول الله عن ذلك فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " . وعن أبي حنظلة الحذاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان فقلت أين يقوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ونحن آمنون فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( أخرجه ابن أبي شيبة ) وقال ابن مردويه عن أبي الوداك قال : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال : هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوهما . وقال أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين مكة والمدينة ونحن آمنوا لا نخاف بينهم ركعتين ركعتين . وقال البخاري عن أنس يقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت : أقمتم بمكة شيئا قال : أقمنا بها عشرا . وقال البخاري عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركعتين وابي بكر وعمر وعثمان صدرا من إمارته ثم أتمها وحدثنا إبراهيم قال : سمعت عبد الله بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان Bه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود Bه فاسترجع ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ابن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان ( أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري ) .
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء إن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك عن عائشة Bها أنها قالت : فرضت ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد عن عمر Bه قال : صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلّم زاد مسلم والنسائي عن عبد الله بن عابس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلّم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر . فهذا ثابت عن ابن عباس Bهما ولا ينافي ما تقدم عن عائشة Bها لأنها أخبرت أن اصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع كما قاله ابن عباس والله أعلم لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر Bه وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ولهذا قال : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } الآية ولهذا قال بعدها : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية فبين المقصود من القصر ههنا وذكر صفته وكيفيته ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى : { وإذا ضربتم في الارض فليس علكيم جناح أن تقصروا من الصلاة } وقال مجاهد : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } يوم كان النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم واثقالهم .
وقال ابن جرير عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر ( صلاة الخوف ) ولا نجد قصر ( صلاة المسافر ) فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلّم يعمل عملا عملنا به فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الآية عليها لا على قصر صلاة المسافر وأقره ابن عمر على ذلك واحتج على قصر الصلاة بفعل الشارع لا بنص القرآن واصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا عن سماك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان تمام غير قصر إنما القصر في صلاة المخافة فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء فيصلي بهم ركعة فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة