( تابع . . . 1 ) : 3 - حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به .
وقوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } قال ابن عباس : يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم وكذا روي عن عطاء ومقاتل وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم " . ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ولهذا قال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحدا إلا الله فقال : { فلا تخشوهم واخشون } أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأوؤيدكم وأظفركم بهم أشف صدوركم منهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة . وقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه ولا دين إلا ما شرعه وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأوامر والنواهي . فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة ولهذا قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه لدين الذي أحبه الله ورضيه بعث به أفضل الرسل الكرام أنزل به أشرف كتبه وقال ابن عباس قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } وهو الإسلام أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا . وقال السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام . وقال ابن جرير : مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما .
لما نزلت { اليوم أكملت لكم دينكم } وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم : " ما يبكيك " ؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال : " صدقت " ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت : " إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء " وقال الإمام أحمد : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : واي آية ؟ قال قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فقال عمر : والله إني لأعمل اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشية عرفة في يوم جمعة . ولفظ البخاري قال قالت اليهود لعمر : إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية وقال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : { اليوم أكملت لكم دينكم } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه : في يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد . وعن علي قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو قائم عشية عرفة { اليوم أكملت لكم دينكم } ( رواه ابن مردويه ) .
وقوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرامات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناوله والله غفور رحيم له لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي المسند عن ابن عمر مرفوعا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته " لفظ ابن حبان وفي لفظ لأحمد : " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها وقد يكون مندوبا وقد يكون مباحا بحسب الأحوال واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال كما هو مقرر في كتاب الأحكام . وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم بل متى اضطر إلى ذلك جاز له . وقد قال الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها " وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين ومعنى قوله : " ما لم تصطبحوا " يعني به الغداء " وما لم تغتبقوا " يعني به العشاء " أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها " فكلوا منها . وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف يعني قوله " أو تحتفئوا " على أربعة أوجه : تحتفئوا بالهمزة وتحتفيوا : بتخفيف الياء والحاء وتحتفوا بتشديد الفاء وتحتفوا بالحاء والتخفيف ويحتمل الهمز كذا رواه في التفسير .
( حديث آخر ) : قال أبو داود عن النجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : " ما طعامكم ؟ " قلنا : نصطبح ونغتبق . قال أبو نعيم : فسره لي عقبة قدح غدوة وقدح عشية قال : ذاك وأبي الجوع وأحل لهم الميتة على هذه الحال . تفرد به أبو داود وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ولا يتقيد ذلك بسد الرمق والله أعلم .
( حديث آخر ) : قال أبو داود عن جابر عن سمرة : أن رجلا نزل الحرة ومعه أهل وولده فقال له رجل : إن ناقتي ضلت فإن وجدتها فأمسكها فوجدها ولم يجد صاحبها فمرضت فقالت له امرأته : انحرها فأبى فنفقت فقالت له امرأته : اسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله قال : لا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتاه فسأله فقال : " هل عندك غنى يغنيك " قال : لا قال : " فكلوها " قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك . وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الإحتياج إليها والله أعلم . وقوله : { غير متجانف لإثم } أي متعاط لمعصية الله فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر كما قال في سورة البقرة : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر لأن الرخص لا تنال بالمعاصي والله أعلم