6 - يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون .
قال كثيرون من السلف في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } يعني وأنتم محدثون وقال آخرون إذا قمتم من النوم إلى الصلاة وكلاهما قريب . وقال آخرون : بل المعنى أعم من ذلك فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ولكن هو في حق المحدث واجب وفي حق المتطهر ندب وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر : يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال : " إني عمدا فعلته يا عمر " رواه مسلم وأهل السنن .
وقال ابن جرير عن الفضل بن المبشر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد فإذا بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين فقلت : يا أبا عبد الله أشيء تصنعه برأيك ؟ قال : بل رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يصنعه فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه وفي فعل ابن عمر ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك كما هو مذهب الجمهور .
وكان علي Bه يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية . وقال ابن جرير عن أنس قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تجوز خفيفا فقال : هذا وضوء من لم يحدث وهذا إسناد صحيح . وقال محمد بن سيرين : كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة أما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك فعن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلّم يتوضأ عند كل صلاة قال : قلت : فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث . وقد رواه البخاري وأهل السنن . وقال ابن جرير عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " .
وقال ابن جرير وقد قال قوم : إن هذه الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال وذلك لأنه عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ وعن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا اراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى نزلت آية الرخصة : { يا ايها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية وقال أبو داود عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا : ألا نأتيك بوضوء ؟ فقال : " إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } على وجوب النية في الوضوء لأن تقدير الكلام : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها كما تقول العرب إذا رايت الأمير فقم أي له . وقد ثبت في الصحيحين حديث : " الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى " ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه لما ورد في الحديث من طرق جيدة عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء ويتأكد ذلك عند القيام من النوم لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا ويستحب للمتوضىء أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة .
قال أبو داود عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته وقال : " هكذا أمرني به ربي D " قال البهيقي : وروينا في تخليل اللحية عن عمار وعائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلّم وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر والحسن بن علي وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق فاختلف الأئمة في ذلك هل هما واجبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب أحمد بن حنبل C أو مستحبان فيهما كما هو مذهب الشافعي ومالك أو يجبان في الغسل دون الوضوء كما هو مذهب أي حنيفة أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحن أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " من توضأ فليستنشق " وفي رواية : " إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينثر " والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق .
وقال الإمام أحمد عن ابن عباس : أنه توضأ فغسل وجهه أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا يعني أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ثم مسح رأسه ثم أخذ غرفة من ماء ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعني يتوضا . ورواه البخاري . وقوله : { وأيديكم إلى المرافق } أي مع المرافق كما قال تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } ويستحب للمتوضىء أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت خليلي A يقول : " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " .
وقوله تعالى : { وأمسحو برؤوسكم } اختلفوا في هذه الباء هل هي للإلصاق وهو الأظهر أو للتبعيض ؟ وفيه نظر على قولين ومن الأصوليين من قال : هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة . وقد ثبت في الصحيحين عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جد عمرو بن يحيى وكان من أصحاب النبي A - : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله A يتوضأ ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين ثم مضمض واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه . وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بن معد يكرب في صفة وضوء رسول الله A مثله ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكيمل مسح جميع الرأس كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن . وقد ذهب الحنفية إلى وجوب ربع الرأس وهو مقدار الناصية وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ولا يتقدر ذلك بحد بل لو مسح بعض شعرة من راسه أجزأه لحديث المغيرة بن شعبة قال : تخلف النبي A فتخلفت معه فلما قضى حاجته قال : هل معك ماء ؟ فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه . وذكر باقي الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره ثم اختلفوا في أنه هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا كما هو المشهور من مذهب الشافعي أو إنما يستحب مسحة واحدة كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه لحديث حمران بن أبان قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم مسح براسه ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا ثم اليسرى ثلاثا مثل ذلك ثم قال : رأيت رسول الله A توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال : " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه " أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين . وفي سنن أبي داود عن عثمان في صفة الوضوء ومسح برأسه مرة واحدة واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عثمان Bه أن رسول الله A توضأ ثلاثا ثلاثا وقال أبو داود عن حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فذكر نحوه ولم يذكر المضمضة والاستنشاق قال فيه : ثم مسح رأسه ثلاثا ثم غسل رجليه ثلاثا ثم قال رأيت رسول الله A توضأ هكذا وقال : " من توضأ هكذا كفاه " تفرد به أبو داود ثم قال : وأحاديث عثمان في الصحاح تدل على أنه مسح الراس مرة واحدة .
وقوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } قرىء { وارجلكم } بالنصب عطفا على { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } رجعت إلى الغسل وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل كما قاله السلف . ومن ههنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما هو مذهب الجمهور خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ووجهه أجزأه ذلك لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء والواو لا تدل على الترتيب قال بعضهم : لما ذكر الله تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب فقطع النظير عن النظير وأدخل الممسوح بين المغسولين دل ذلك على إرادة الترتيب وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ { وأرجلكم } بالخفض فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس . وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام كما في قول العرب : جحر ضب خرب وكقوله تعالى : { عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق } وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ ومنهم من قال : هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان قال الشافعي C ومنهم من قال : هي دالة على مسح الرجلين . ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنة وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي عن علي ابن أبي طالب أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أتى بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ثم قام فشرب فضلته وهو قائم ثم قال : إن ناسا يكرهون الشرب قائما وإن رسول الله A صنع كما صنعت وقال : " هذا وضوء من لم يحدث " رواه البخاري في الصحيح ببعض معناه . ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف فقد ضل وأضل وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث وأوجب مسحهما للآية فلم يحقق مذهبه في ذلك فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما ولكنه عبر عن الدلك بالمسح فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما فحكاه من حكاه كذلك ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لا لندارجه فيه وإنما أراد الرجل ما ذكرته والله أعلم . ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله : { وارجلكم } خفضا على المسح وهو الدلك ونصبا على الغسل فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه .
( ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه ) .
( يتبع . . . )