38 - والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم .
- 39 - فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم .
- 40 - ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير .
يقول تعالى حاكما وآمرا بقطع يد السارق والسارقة وقد كان القطع معمورا به في الجاهلية فقرر في الإسلام وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصارح وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به سواء كان قليلا أو كثيرا لعموم هذه الآية : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا بل أخذوا بمجرد السرقة وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة فعند الإمام مالك C النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم أخرجاه في الصحيحين وذهب الشافعي C إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة Bها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه . قالوا : وحديث ثمن المجن وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهما فهي ثمن ربع دينار فأمكن الجمع بهذا الطريق .
وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي فمن سرقا واحدا منهما أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة Bها ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك " وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم اثني عشر درهما وفي لفظ للنسائي : " لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن " قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار . فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم والله أعلم .
وأما الإمام أبو حنيفة وزفر وسفيان الثوري رحمهم الله فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب به عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان ثمنه عشرة دراهم . وقد روى أبو بكر بن ابي شيبة عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم عشرة دراهم . ثم قال : حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعبي عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن " وكان ثمن المجن عشرة دراهم قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن فالإحتياط الأخذ بالأكثر لأن الحدود تدرأ بالشبهات . وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحدا منهما يحكى هذا عن علي وابن مسعود وابراهيم النخعي رحمهم الله تعالى .
وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس أي في خمسة دنانير أو خمسين درهما وينقل هذا عن سعيد بن جبير C وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة : " يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " بأجوبة ( أحدها ) : أنه منسوخ بحديث عائشة ( والثاني ) : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه ( والثالث ) : أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة وقد ذكروا أن ابا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله فقال : .
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار ؟ .
تناقض مالنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار .
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم وقد أجابه اناس في ذلك فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي C أن قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ولما خانت هانت ( ويروى أنه أجابه شعرا بقوله : .
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ... ذل الخيانة فافهم حكمة الباري ) ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ولهذا قال : { جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم } أي مجازاة على صنيعها السيء في أخذها أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك { نكالا من الله } أي تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك { والله عزيز } أي في انتقامه { حكيم } أي في أمره ونهية وشرعه وقدره . ثم قال تعالى : { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور وقال أبو حنيفة : فمتى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها .
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو : أن امرأة سرقت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا قال قومها : فنحن نقديها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " اقطعوا يدها " قالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار فقال : " اقطعوا يدها " فقطعت يدها اليمنى فقالت المرأة هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال : " نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " فأنزل الله في سورة المائدة : { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } وهذه المرأة المخزومية التي سرقت وحديثها ثابت في الصحيحين . وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جارتها وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقطع يدها . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي . وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة . ثم قال تعالى : { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } أي هو المالك لجميع ذلك الحاكم فيه الذي لا معقب لحكمه وهو الفعال لما يريد { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير }