تتمة الآية ( 125 ) : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود .
- 126 - وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير .
- 127 - وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
- 128 - ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .
التفسير : قال الحسن البصري : قوله تعالى { وعهدنا إلى ابراهيم وإسماعيل } : أمرهما الله أن يطهرهاه من الأذى والنجس ولا يصيبه من ذلك شيء . وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده ؟ قال أمره . والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى لأنه في معنى أوحينا .
قوله : { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين } أي من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس . قال مجاهد وعطاء وقتادة : { أن طهرا بيتي } أي بلا إله إلا الله من الشرك وأما قوله تعالى : { للطائفين } فالطواف بالبيت معروف وعن سعيد بن جبير أنه قال : { للطائفين } يعني من أتاه من غربة { والعاكفين } المقيمين فيه .
وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه وعن ابن عباس قال : إذا كان جالسا فهو من العاكفين وعن ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال : هم العاكفون ( رواه ابن أبي حاتم عن حماد بن سلمة عن ثابت ) .
( قلت ) : وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو عزب وأما قوله تعالى : { والركع السجود } فقال عطاء عن ابن عباس إذا كان مصليا فهو من الركع السجود .
قال ابن جرير C فمعنى الآية : وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك فإن قيل : فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه ؟ فالجواب من وجهين : ( أحدهما ) : أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماما يقتدى به . ( قلت ) : وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلّم ( الثاني ) : أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهرا من الشرك والريب كما قال جل ثناؤه : { أفمن أسس بنانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار } ؟ قال فكذلك قوله : { وعهدنا إلى إبرهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي } أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } الآيات .
وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك C الطواف به لأهل الأمصار أفضل وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقا وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف به والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة ( قيامها وركوعها وسجودها ) ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم { سواء العاكف فيه والباد } وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام وفي ذلك أيضا رد على من لا يحجه من أهل الكتابين ( اليهود والنصارى ) لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وهم لا يفعلون شيئا من ذلك فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى { إن هو إلا وحي يوحى } .
وتقدير الكلام إذن : { وعهدنا إلى إبرهيم } أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصا لله معقالا للطائفين والعاكفين والركع السجود . وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال } ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك . ولهذا قال عليه السلام : " إنما بنيت المساجد لما بنيت له " وقد جمعت في ذلك جزءا على حدة ولله الحمد والمنة . وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة ؟ فقيل : الملائكة قبل آدم ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة وقيل آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضا . وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أن أول من بناه شيث عليه السلام وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها . وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين .
وقوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } قال ابن جرير عن جابر بن عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه وإني حرمت المدينة وما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها ( رواه النسائي وأخرجه مسلم بطريق آخر ) " عن أبي هريرة Bه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه " ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر ( رواه مسلم وفي لفظ له " بركة مع بركة " ثم يعطيه أصغر من حضر من الولدان ) . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي طلحة : " التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني " فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلما نزل .
وقال في الحديث : ثم أقبل حتى بدا له أحد قال : " هذا جبل يحبنا ونحبه " فلما أشرف على المدينة قال : " اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم " وفي لفظ لهما : " اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في مدهم " زاد البخاري يعني : أهل المدينة . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : " اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة " ( رواه البخاري ومسلم ) وعن أبي سعيد Bه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : " اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم اجعل مع البركة بركتين ( رواه مسلم ) " والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل وقيل : إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى والله أعلم .
وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس Bهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها " فقال العباس : يا رسول الله الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال : " إلا الإذخر " . وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلّم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ليبلغ الشاهد الغائب ( رواه البخاري ومسلم عن ابي شريح العدوي ) " فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة .
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وبين الأحاديث الدالة عى أن إبراهيم عليه السلام حرمها لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكتوبا عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام : { ربنا وابعث فيه رسولا منهم } وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره .
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة . وقوله تعالى إخبارا عن الخليل : { رب اجعل هذا بلدا آمنا } أي من الخوف أي لا يرعب أهله وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا كقوله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } وقوله : { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : " لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح " وقال في هذه السورة : { رب اجعل هذا بلدا آمنا } أي اجعل هذه البقعة بلدا آمنا وناسب هناك لأنه - والله أعلم - كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ولهذا في آخر الدعاء : { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وأسحق إن ربي لسميع الدعاء } .
وقوله تعالى : { وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال : ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } قال أبو جعفر الرازي عن أبي بن كعب { قال ومن كفر } الآية هو قول الله تعالى . وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير C قال : وقرأ آخرون : { قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم . قال ابن عباس : " كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقا لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير " ثم قرأ ابن عباس : { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } ( أخرجه ابن مردويه وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة ) وهذا كقوله تعالى : { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ... متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } وكقوله تعالى : { نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } وقوله : { ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها { إلى عذاب النار وبئس المصير } ومعناه أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى : { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير } . وفي الصحيح : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ تعالى : { كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } .
( يتبع . . . )