اشتملت هذه الاية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولدا فقال تعالى : { سبحانه } أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا { بل له ما في السموات والأرض } أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهن وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولدا من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد ؟ كما قال تعالى : { بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } وقال تعالى : { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } فقرر تعالى في هذه الايات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد ؟ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الاية من البقرة : حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي الحسين حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : [ قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله أن لي ولدا فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا ] انفرد به البخاري من هذا الوجه وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي أخبرنا محمد بن إسحاق بن محمد الفروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ ويقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ] وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : [ لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم ] وقوله : { كل له قانتون } قال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال : { قانتين } مصلين وقال عكرمة وأبو مالك : { كل له قانتون } مقرون له بالعبودية وقال سعيد بن جبير : { كل له قانتون } يقول الإخلاص وقال الربيع بن أنس : يقول : { كل له قانتون } أي : قائم يوم القيامة وقال السدي : { كل له قانتون } أي : مطيعون يوم القيامة وقال خصيف عن مجاهد : { كل له قانتون } قال : مطيعون قال كن إنسانا فكان وقال : كن حمارا فكان وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : كل له قانتون مطيعون قال : طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال الله تعالى : { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال } وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به كما قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يوسف ابن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : [ كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة ] وكذا رواه الإمام أحمد : عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه ورفع هذا الحديث منكر وقد يكن من كلام الصحابي أو من دونه والله أعلم .
وقوله تعالى : { بديع السموات والأرض } أي : خالقهما على غير مثال سبق قال مجاهد والسدي : وهو مقتضى اللغة ومنه يقال للشيء المحدث بدعة كما جاء في صحيح مسلم : فإن كل محدثة بدعة والبدعة على قسمين : تارة تكون بدعة شرعية كقوله : [ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ] وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم : نعمت البدعة هذه وقال ابن جرير : { بديع السموات والأرض } مبدعهما وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل كما صرف المؤلم إلى الأليم والمسمع إلى السميع ومعنى المبدع المنشىء والمحدث ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد قال : ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره وكذلك كل محدث قولا أو فعلا لم يتقدم فيه متقدم فإن العرب تسميه مبتدعا ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي : .
( يدعي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا ) .
أي يحدث ما شاء قال ابن جرير : فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية وتقر له بالطاعة وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه وهذا إعلام من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله بنوته وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته وهذا من ابن جرير C كلام جيد وعبارة صحيحة وقوله تعالى : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه فإنما يقول له كن أي : مرة واحدة فيكون أي : فيوجد على وفق ما أراد كما قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وقال تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وقال تعالى : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } وقال الشاعر : .
( إذا ما أراد أمرا فإنما يقول له كن قوله فيكون ) .
ونبه بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله قال الله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون }