هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة فإنه صلى الله عليه وسلّم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة C وأكرمه .
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم واختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلم شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلّم وأطد جزيرة العرب ومهدها وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد Bه ففتحوا طرفا منها وقتلوا خلقا من أهلها وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة Bه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام وثالثا صحبة عمرو بن العاص Bه إلى بلاد مصر ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله D واختار له ما عنده من الكرامة .
ومن على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قياما تاما لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية وأنفق أموالهما في سبيل الله كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة .
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان Bه وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال [ إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ويبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ] فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله فنسأل الله الإيمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا .
قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول [ لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا ] ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلّم بكلمة خفيت عني فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : قال [ كلهم من قريش ] ورواه البخاري من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير به وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك وذكر معه أحاديث أخر وفي هذا الحديث دلالة على أنه لابد من وجود اثني عشر خليفة عادلا وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر فإن كثيرا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي Bه ثم كانت بعدهم فترة ثم وجد منهم من شاء الله ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكنيته كنيته يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما .
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال [ الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا ] وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } الاية قال : كان النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة فقدموها فأمرهم الله بالقتال فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فغبروا بذلك ما شاء الله ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة ] وأنزل الله هذه الاية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح ثم إن الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه وسلّم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا فغير بهم وقال بعض السلف : خلافة أبى بكر وعمر Bهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الاية .
وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الاية ونحن في خوف شديد وهذه الاية الكريمة كقوله تعالى : { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } وقوله تعالى : { كما استخلف الذين من قبلهم } كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } الاية وقال تعالى : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } الايتين .
وقوله { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } الاية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعدي بن حاتم حين وفد عليه [ أتعرف الحيرة ؟ قال : لم أعرفها ولكن قد سمعت بها قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز قلت : كسرى بن هرمز قال نعم كسرى بن هرمز وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد ] قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ولقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله A قد قالها .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن أبي سلمة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله A [ بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الاخرة للدنيا لم يكن له في الاخرة نصيب ] وقوله تعالى : { يعبدونني لا يشركون بي شيئا } قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال : بينا أنا رديف النبي A على حمار ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل قال [ يا معاذ قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : ثم سار ساعة ثم قال : يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال : يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا قال : ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم قال : فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم ] أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة .
وقوله تعالى : { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبا عظيما فالصحابة Bهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي A بأوامر الله D وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب وأيدهم تأييدا عظيما وحكموا في سائر العباد والبلاد ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله A أنه قال [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة ] ـ وفي رواية [ حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ] ـ وفي رواية ـ [ حتى يقاتلوا الدجال ] ـ وفي رواية ـ [ حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون ] وكل هذه الروايات صحيحة ولا تعارض بينها