يقول تعالى : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } أي بينا للناس فيه بضرب الأمثال { لعلهم يتذكرون } فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان كما قال تبارك وتعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم } أي تعلمونه من أنفسكم وقال D : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } وقوله جل وعلا : { قرآنا عربيا غير ذي عوج } أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس بل هو بيان ووضوح وبرهان وإنما جعله الله تعالى كذلك وأنزله بذلك { لعلهم يتقون } أي يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد ثم قال : { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون } أي يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم { ورجلا سلما } أي سالما { لرجل } أي خالصا لا يملكه أحد غيره { هل يستويان مثلا ؟ } أي لا يستوي هذا وهذا كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ؟ فأين هذا من هذا ؟ قال ابن عباس Bهما ومجاهد وغير واحد : هذه الاية ضربت مثلا للمشرك والمخلص ولما كان هذا المثل ظاهرا بينا جليا قال : { الحمد لله } أي على إقامة الحجة عليهم { بل أكثرهم لا يعلمون } أي فلهذا يشركون بالله وقوله تبارك وتعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } هذه الاية من الايات التي استشهد بها الصديق Bه عند موت الرسول صلى الله عليه وسلّم حتى تحقق الناس موته مع قوله D : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } ومعنى هذه الاية أنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله تعالى في الدار الاخرة وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله D فيفصل بينكم ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين ثم إن هذه الاية وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين وذكر الخصومة بينهم في الدار الاخرة فإنها شاملة لكل المتنازعين في الدنيا فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الاخرة .
وقال ابن أبي حاتم C : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن محمد بن عمرو عن أبي حاطب ـ يعني يحيى بن عبد الرحمن ـ عن ابن الزبير Bهما قال لما نزلت { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } قال الزبير Bه : يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة ؟ قال صلى الله عليه وسلّم : [ نعم ] قال Bه : إن الأمر إذا لشديد : وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان وعنده زيادة ولما نزلت { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال الزبير Bه : أي رسول الله أي نعيم نسأل عنه وإنما نعيمنا الأسودان : التمر والماء قال صلى الله عليه وسلّم : [ أما إن ذلك سيكون ] وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان به وقال الترمذي : حسن وقال أحمد أيضا : حدثنا ابن نمير حدثنا محمد ـ يعني ابن عمرو ـ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الله بن الزبير عن الزبير بن العوام Bه قال : لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم { إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } قال الزبير Bه : أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال صلى الله عليه وسلّم : [ نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه ] قال الزبير Bه : والله إن الأمر لشديد ورواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو به وقال حسن صحيح وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن أبي عياش عن عقبة بن عامر Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ أول الخصمين يوم القيامة جاران ] تفرد به أحمد وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا ] تفرد به أحمد C وفي المسند عن أبي ذر Bه أنه قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم شاتين تنتطحان فقال : [ أتدري فيم تنتطحان يا أبا ذر ؟ ] قلت : لا قال صلى الله عليه وسلّم : [ ولكن الله يدري وسيحكم بينهما ] وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا سهل بن محمد حدثنا حيان بن أغلب حدثنا أبي حدثنا ثابت عن أنس Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة فتخاصمه الرعية فيفلحون عليه فيقال له سد ركنا من أركان جهنم ] ثم قال الأغلب بن تميم ليس بالحافظ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس Bهما { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } يقول : يخاصم الصادق الكاذب والمظلوم الظالم والمهتدي الضال والضعيف المستكبر وقد روى ابن منده في كتاب الروح عن ابن عباس Bهما أنه قال : يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد فتقول الروح للجسد أنت فعلت ويقول الجسد للروح أنت أمرت وأنت سولت فيبعث الله ملكا يفصل بينهما فيقول لهما إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والاخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير إني أرى ههنا ثمارا ولكن لا أصل إليها فقال له الضرير اركبني فتناولها فركبه فتناولها فأيهما المعتدي ؟ فيقولان كلاهما فيقول لهما الملك فإنكما قد حكمتما على أنفسكما يعني أن الجسد للروح كالمطية وهي راكبه وقال ابن أبي حاتم حدثنا جعفر بن أحمد بن عوسجة حدثنا ضرار حدثنا أبو سلمة الخزاعي حدثنا منصور بن سلمة حدثنا القمي ـ يعني يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عمر Bهما قال : نزلت هذه الاية وما نعلم في أي شيء نزلت { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } قال قلنا من نخاصم ؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة فمن نخاصم ؟ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر Bهما : هذا الذي وعدنا ربنا D نختصم فيه ورواه النسائي عن محمد بن عامر عن منصور بن سلمة به وقال أبو العالية في قوله تبارك وتعالى : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } قال : يعني أهل القبلة وقال ابن زيد : يعني أهل الإسلام وأهل الكفر وقد قدمنا أن الصحيح العموم والله سبحانه وتعالى أعلم