يقول تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض } أي سافرتم في البلاد كما قال تعالى : { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } الاية وقوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الاية واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك فمن قائل : لا بد أن يكون سفر طاعة من جهاد أو حج أو عمرة أو طلب علم أو زيارة وغير ذلك كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه لظاهر قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ومن قائل : لا يشترط سفر القربة بل لا بد أن يكون مباحا لقوله : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم } الاية كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصيا بسفره وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين وهذا مرسل ومن قائل : يكفي مطلق السفر سواء كان مباحا أو محظورا حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الاية وخالفهم الجمهور .
وأما قوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الاية فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام أو في سرية خاصة وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له كقوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } وكقوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } الاية وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن جريج عن ابن أبي عمار عن عبد الله بن بابيه عن يعلى بن أمية قالت : سألت عمر بن الخطاب قلت له : قوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وقد أمن الناس ؟ فقال لي عمر Bه : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال : [ صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ] وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار به وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ورجاله معروفون وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان فقلت : أين قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى حدثنا علي بن محمد بن سعيد : حدثنا منجاب حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك قال : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال : هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا ابن عون عن ابن سيرين عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن عبد الله بن عون به قال أبو عمر بن عبد البر : وهكذا رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن محمد بن سيرين عن ابن عباس Bهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم مثله قلت وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن هشيم عن منصور عن زاذان عن محمد بن سيرين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين ثم قال الترمذي : صحيح وقال البخاري : حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : سمعت أنسا يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عشرا .
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي به وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلّم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عنه به ولفظ البخاري : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أنبأنا أبو إسحاق سمعت حارثة بن وهب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم آمن ما كان بمنى ركعتين وقال البخاري : حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عبيد الله أخبرني نافع عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان صدرا من إمارته ثم أتمها وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به وقال البخاري : حدثنا قتيبة حدثنا عبد الواحد عن الأعمش حدثنا إبراهيم سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان Bه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود Bه فاسترجع ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري عن الأعمش به وأخرجه مسلم من طرق عنه منها عن قتيبة كما تقدم .
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة Bها أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد : حدثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمن عن زبيد اليامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر Bه قال : صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلّم وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به وهذا إسناد على شرط مسلم .
وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره وهو الصواب إن شاء الله وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا إنه لم يسمع منه وعلى هذا أيضا : فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الثقة عن عمر فذكره وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة عن عمر فالله أعلم وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلّم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه فهذا ثابت عن ابن عباس Bهما ولا ينافي ما تقدم عن عائشة Bها لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع كما قاله ابن عباس ـ والله أعلم ـ لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر Bه وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ولهذا قال : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } الاية ولهذا قال بعدها : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الاية فبين المقصود من القصر ههنا وذكر صفته وكيفيته ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } إلى قوله : { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } قال : ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه .
وقال أسباط عن السدي في قوله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } الاية إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } يوم كان النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم روى ذلك ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير عن مجاهد والسدي وعن جابر وابن عمر واختار ذلك أيضا فإنه قال بعدما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا ابن أبي فديك حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا A يعمل عملا عملنا به فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الاية عليها لا على قصر صلاة المسافر وأقره ابن عمر على ذلك واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا : حدثنا أحمد بن الوليد القرشي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان تمام غير قصر إنما القصر في صلاة المخافة فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء فيصلي بهم ركعة فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة