يحذر تعالى : عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلّم وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم } الاية وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } قال : هو كعب بن الأشرف وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلّم وفيه أنزل الله { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم } إلى قوله { فاعفوا واصفحوا } وقال الضحاك : عن ابن عباس أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والايات ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ولكنهم جحدوا ذلك كفرا وحسدا وبغيا وكذلك قال الله تعالى : { كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } يقول من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ولكن الحسد حملهم على الجحود فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم وقال الربيع بن أنس { من عند أنفسهم } من قبل أنفسهم وقال أبو العالية { من بعد ما تبين لهم الحق } من بعد ما تبين أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فكفروا به حسدا وبغيا إذ كان من غيرهم وكذا قال قتادة والربيع بن أنس وقوله : { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } مثل قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } الاية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } نسخ ذلك قوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله { وهم صاغرون } فنسخ هذا عفوه عن المشركين وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي إنها منسوخة بآية السيفن ويرشد إلى ذلك أيضا قوله تعالى : { حتى يأتي الله بأمره } وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي : أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله تعالى : { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير } وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش وهذا إسناده صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد وقوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } ولهذا قال تعالى : { إن الله بما تعملون بصير } يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء كان خيرا أو شرا فإنه سيجازي كل عامل بعمله وقال أبو جعفر بن جرير : في قوله تعالى : { إن الله بما تعملون بصير } هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الايات من المؤمنين إنهم مهما فعلوا من خير أو شر سرا وعلانية فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء فيجزيهم بالإحسان خيرا وبالإساءة مثلها وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر فإن فيه وعدا ووعيدا وأمرا وزجرا وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } وليحذروا معصيته قال : وأما قوله { بصير } فإنه مبصر صرف إلى بصير كما صرف مبدع إلى بديع ومؤلم إلى أليم والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو زرعة أخبرنا ابن بكير حدثني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الاية : { سميع بصير } يقول [ بكل شيء بصير ]