ومن شأن الأمي أن يعول على حافظته فيما يهمه أمره ويعنيه استحضاره وجمعه .
خصوصا إذا أوتي من قوة الحفظ والاستظهار ما ييسر له هذا الجمع والاستحضار .
وكذلك كانت الأمة العربية على عهد نزول القرآن وهي متمتعة بخصائص العروبة الكاملة التي منها سرعة الحفظ وسيلان الأذهان حتى كانت قلوبهم أناجيلهم وعقولهم سجلات أنسابهم وأيامهم وحوافظهم دواوين أشعارهم ومفاخرهم .
ثم جاء القرآن فبهرهم بقوة بيانه وأخذ عليهم مشاعرهم بسطوة سلطانه وأستأثر بكريم مواهبهم في لفظه ومعناه فخلعوا عليه حياتهم حين علموا أنه روح الحياة .
أما النبي فبلغ من حرصه على استظهار القرآن وحفظه أنه كان يحرك لسانه فيه في أشد حالات حرجه وشدته وهو يعاني ما يعانيه من الوحي وسطوته وجبريل في هبوطه عليه بقوته .
يفعل الرسول كل ذلك استعجالا لحفظه وجمعه في قلبه مخافة أن تفوته كلمة أو يفلت منه حرف .
وما زال كذلك حتى طمأنه ربه بأن وعده أن يجمعه له في صدره وأن يسهل له قراءة لفظه وفهم معناه فقال له في سورة القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأنه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه 75 القيامة 16 - 19 .
وقال له في سورة طه ولا تعجل بالقرءان من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما 20 طه 114 .
ومن هنا كان جامع القرآن في قلبه الشريف وسيد الحفاظ في عصره المنيف .
ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القرآن وعلوم القرآن .
وكان يقرؤه على الناس على مكث كما أمره مولاه وكان يحيي به الليل ويزين الصلاة .
وكان جبريل يعارضه إياه في كل عام مرة وعارضه إياه في العام الأخير مرتين .
قالت عائشة وفاطمة Bهما سمعنا رسول الله يقول إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي .
وأما الصحابة رضوان الله عليهم فقد كان كتاب الله في المحل الأول من عنايتهم .
يتنافسون في استظهاره وحفظه .
ويتسابقون إلى مدارسته وتفهمه .
ويتفاضلون فيما بينهم على مقدار ما يحفظون منه وربما كانت قرة عين السيدة منهم أن يكون مهرها في زواجها سورة من القرآن يعلمها إياها زوجها .
وكانوا يهجرون لذة النوم وراحة الهجود إيثارا للذة القيام به في الليل والتلاوة له في الأسحار والصلاة به والناس نيام حتى لقد كان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجى يسمع فيها دويا كدوي النحل بالقرآن وكان الرسول يذكي فيهم روح هذه العناية بالتنزيل يبلغهم ما أنزل إليه من ربه .
ويبعث إلى من كان بعيد الدار منهم من يعلمهم ويقرئهم كما بعث مصعب بن عمير وابن ام مكتوم