على شيء من الذكاء وقلت حاتم مهزول الفصيل أو غمر حاتم بإنعامه الأنام إذا كان مخاطبك على جانب عظيم من الذكاء .
فأنت ترى أن هذه الأمثلة كلها دارت على معنى واحد إستوت جميعها في أدائه هو نسبة الجود إلى حاتم فذلك هو المعنى الأولي أو الأصلي ثم أنت ترى بعد ذلك أن المعنى الأولي زيدت وعليه خصوصيات مختلفة ومزايا متغايرة هذه الأمثلة ففي المثال الأول تجرد من مؤكدات الحكم لأن المخاطب خالي الذهن وفي الثاني تأكيد باسمية الجملة استحسانا لأن المخاطب شاك وفي الثالث تأكيد بمؤكدين اسمية الجملة وإن لأن المخاطب منكر إنكارا يقتضيهما وفي الرابع تأكيد بمؤكدات أربعة اسمية الجملة وإن واللام والقسم لأن المخاطب مسرف في الإنكار وفي الخامس إطناب لأن المقام للمدح وهو يقتضي الإطناب وفي السادس قصر للجود على حاتم لأن المخاطب يعتقد العكس فقصرت انت قصر قلب لتعكس مراده عليه وفي السابع تجوز في التعبير بكناية قريبة واستعارة تصريحية لأن المخاطب على شيء من الذكاء وفي الثامن تجوز في التعبير بكناية بعيدة واستعارة مكنية لأن المخاطب على جانب عظيم من الذكاء بحيث تكفيه الإشارة الخفية واللمحة القصية .
ثم إن هذه النكات البلاغية والاعتبارات الزائدة يختص بها اللسان العربي كما أن لكل لغة خصائصها .
وهذه الاعتبارات مع فصاحة المفردات هي مناط بلاغة الكلام والمتكلم وعلوم البلاغة على سعتها ووفرة مباحثها وحسن بلاء الباحثين فيها لا تكفي وحدها لتصل بدارسها إلى مصاف البلغاء وذوي اللسن والبيان بل غايتها أن يعرف بها أن هذه الحال تقتضي هذا الاعتبار وأن تلك الحال تقتضي ذلك الاعتبار وهكذا أما التطبيق والقدرة على الصياغة البلاغية فشأو بعيد يتوقف على أمور كثيرة منها الإلمام بظروف الكلام وأحوال المخاطبين ومنها الإحاطة بدرجة تلك الأحوال قوة وضعفا ومنها الإتيان بالخصوصيات المناسبة لهذه الأحوال والمقامات ومنها الذوق البلاغي أو الحاسة البيانية التي تكتسب بممارسة كلام البلغاء وأساليبهم وترويض النفس على محاكاتهم وتقليدهم وإلا فكم رأينا من مهرة في علوم اللسان لا يحسنون صناعة الكلام ولا يستطيعون حيلة إلى أقل درجات البيان فضلا عن أن يبرزوا في هذا الميدان .
والكلام البليغ يتفاوت تفاوتا بعيد المدى تبعا لدرجة توافر هذه الأمور فيه كلا أو بعضا ولم تعرف الدنيا ولن تعرف كلاما بلغ الطرف الأعلى والنهاية العظمى في الإحاطة بكل الخواص البلاغية سوى القرآن الكريم الذي انقطعت دونه أعناق الفحول من البلغاء