لا ريب أن هذا الانفصال الزماني وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام .
أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا نزل مفرقا منجما ولكنه تم مترابطا محكما .
وتفرقت نجومه تفرق الأسباب ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب .
ولم يتكامل نزوله إلا بعد عشرين عاما ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما .
أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر ومالك الأسباب والمسببات ومدبر الخلق والكائنات وقيوم الأرض والسموات العليم بما كان وما سيكون الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شؤون .
لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله كان إذا نزلت عليه آية أو آيات قال ضعوها في مكان كذا من سورة كذا .
وهو بشر لا يدري طبعا ما ستجيء به الأيام ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث فضلا عما سينزل من الله فيها .
وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول على هذا العهد يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف ويلتئم ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل ولا تفاوت بل يعجز الخلق طرا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط كتب أحكمت ءايته ثم فصلت من لدن حكيم خبير 11 هود 1 .
وإنه ليستبين لك سر هذا الإعجاز إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الإتساق والانسجام لن يمكن أن يأتي على هذا النمط الذي نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط لا في كلام الرسول ولا كلام غيره من البلغاء وغير البلغاء .
خذ مثلا حديث النبي وهو ما هو في روعته وبلاغته وطهره وسموه لقد قاله الرسول في مناسبات مختلفة لدواع متباينة في أزمان متطاولة فهل في مكنتك ومكنة البشر معك أن ينظموا من هذا السرد الشتيت وحدة كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة من غير أن ينقصوا منه أو يتزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه .
ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون ومن حاول ذلك فإنما يحاول العبث ويخرج للناس بثوب مرقع وكلام ملفق ينقصه الترابط والانسجام وتعوزه الوحدة والاسترسال وتمجه الأسماع والأفهام .
إذن فالقرآن الكريم ينطق نزوله منجما بأنه كلام الله وحده .
وتلك حكمة جليلة