على حين أن كلا من المحكم والمتشابه له حكمه وله مزاياه فمزية المحكم أنه أم الكتاب إليه ترد المتشابهات ومزية المتشابه أنه محك الاختبار والابتلاء ومجال التسابق والاجتهاد إلى غير ذلك من الفوائد التي عرفتها ثم كيف يتصور هذا التنافي والقرآن كله مختلف باختلاف موضوعاته وأحواله فمنه عقائد وأحكام وأوامر ونواه وعبادات وقصص وتنبؤات ووعد ووعيد وناسخ ومنسوخ وهلم مما يستنفد ذكره وقتا طويلا ولا ريب أن كل نوع من هذه الأنواع له مزيته أو خاصته التي غاير بها الآخر وإن اشترك الجميع بعد ذلك في أنها كلها أجزاء للقرآن متساوية في القرآنية وخصائصها العامة وخلاصة هذا الجواب أن اميتاز المحكم على المتشابه في أمور ومساواته إياه في أمور أخرى فلا تناقض ولا تعارض كما أن كل عضو من أعضاء جسم الإنسان له مزيته وخاصته التي صار بها عضوا والكل بعد ذلك يساوي الآخر في أنه جزء للإنسان في خصائصه العامة من حسن وحياة .
الشبهة السادسة ودفعها .
يقولون إن الناظر في موقف السلف والخلف من المتشابه يجزم بأنهم جميعا مؤولون لأنهم اشتركوا في صرف ألفاظ المتشابهات عن ظواهرها وصرفها عن ظواهرها تأويل لها لا محالة وإذا كانوا جميعا مؤولين فقد وقعوا جميعا فيما نهى الله عنه وهو اتباع المتشابهات بالتأويل إذ وصف سبحانه هؤلاء بأن في قلوبهم زيغا فقال في الآية السابقة فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
وندفع هذه الشبهة أولا بأن القول بكون السلف والخلف مجمعين على تأويل المتشابه قول له وجه من الصحة لكن بحسب المعنى اللغوي أو ما يقرب من المعنى اللغوي أما بحسب الاصطلاح السائد فلا لأن السلف وإن وافقوا الخلف في التأويل فقد خالفوهم في تعيين المعنى المراد باللفظ بعد صرفه عن ظاهره وذهبوا إلى التفويض المحض بالنسبة إلى هذا التعيين أما الخلف فركبوا متن التأويل إلى هذا التعيين كما سبق تفصيله .
ثانيا أن القول بأن السلف واخلف جميعا وقعوا بتصرفهم السابق فيما نهى الله عنه قول خاطئ واستدلالهم عليه بالآية المذكورة استدلال فاسد لأن النهي فيها إنما هو عن التأويل الآثم الناشئ عن الزيغ واتباع الهوى بقرينة قوله سبحانه وأما الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن الاستقامة والحجة إلى الهوى والشهوة أما التأويل القائم على تحكيم البراهين القاطعة واتباع الهداية الراشدة فليس من هذا القبيل الذي حظره الله وحرمه وكيف ينهانا عنه وقد أمرنا به ضمنا بإيجاب رد المتشابهات إلى المحكمات إذ جعل هذه