فإن قلت : بم اتصل قوله " فأما الإنسان " ؟ قلت : بقوله : " إن ربك لبالمرصاد " كأنه قيل : إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة وهو مرصد بالعقوبة للعاصي ؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها . فغن قلت : فكيف توازن قوله فأما الإنسان " إذا ما ابتلاه ربه " وقوله : " وأما إذا ما ابتلاه " وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما تقول : أما الإنسانفكفور وأما الملك فشكور . اما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك ؛ وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك ؟ قلت : هما متوازنان من حيث إن التقدير : وأما هو إذا ما ابتلاه ربه ؛ وذلك أن قوله " فيقول ربي أكرمن " خبر المبتدأ والخبر في تقدير التأخير كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكر من وقت الابتلاء فوجب أن يكون " فيقول " الثاني خبر لمبتدأ واجب تقيره . فإن قلت : كيف سمي كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء ؟ قلت : لأن كل واحد منهما اختبار للعبد فغذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر ؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع ؟ فالحكمة فيهما واحدة . ونحوه قوله تعالى : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " الأنبياء : 35 ، فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عيه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه ؟ قلت لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة وأما التقدي فليس بإهانة له ؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ولكن تركا للكرامة وقد يكون المولى مكرما لعبده ومهينا له وغير مكرم ولا مهين ؛ وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : اكرمني ابالهدية ولا تقول : أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد لك . فإن قلت : فقد قال : " فأكرمه " فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله : " ربي أكرمن " وذمه عليه كما أنكر قوله " أهانن " وذمه عليه . قلت : فيه جوابان أحدهما : أنه إنما أنكر قوله ربي أكرمنوذمه عليه لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته وهو قصده إلى أن الله أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا مستوجبا على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله : " إنما أوتيته على علم عندي " القصص : : 78 ، وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة مما لا يعتد الله إلا به وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويررون استحقاق الكرامة من أجلها . والثاني : أن ينسشاق الإنكار والذم إلى قوله : " ربي أهانن " يعني أنه إذا تفضل عليه بالخبر وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس بهوان ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله : " فأكرمه " وقرئ فقدر بالتخفيف والتشديد وأكرمن وأهانن : بسكون النون في الوقف فيمن ترك الياء في الدرج مكفيا منها بالكسرة .
" كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحآضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما " " كلا " ردع للإنسان عن قوله ثم قال بل هناك شر من هذا القول . وهو : أن الله يكرمهم بكثرة المال فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرة وحض أهله على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام ويحبونه فيشحون به قرئ يكرمون وما بعده بالياء والتاء . وقرئ تحاضون أي : يحض بعضكم بعضا : وفي قراءة ابن مسعود : ولا تحاضون بضم التاء من المحاضة " أكلا لما " ذا لم وهو الجمع بين الحلال والحرام . قال الحطيئة : .
إذا كان لما يتبع الذم ربه ... فلا قدس الرحمان تلك الطواحنا .
يعني : أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم . وقيل كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ويأكلون تراثهم مع تراثهم . وقيل : يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة وهو عالم بذلك فيلم في الأكل بين حلاله وحرامه . ويجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا واسعا بين ألوان المشتهيات من الطعمة والأشربة والفواكه كما يفعل الوارث البطالون " حبا جما " كثيرا شديدا مع الحرص والشره ومنع الحقوق .
" كلا إذا دكت الأرض دكادكا وجاء ربك والملك صفاصفا وجاىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد "