وذلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد وقد تختص مواقعه بفوائد . ومما اختص به هذا الموضع : أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل : إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا نعبد غيرك ولا نستعينه ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به . فإن قلت : لم قرنت الاستعانة بالعبادة . قلت : ليجمع بين ما يقترب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته . فإن قلت : فلم قدمت العبادة على الاستعانة قلت : لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها . فإن قلت : لم أطلقت الاستعانة . قلت : ليتناول كل مستعان فيه والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله : " أهدنا " بيانا للمطلوب من المعونة كأنه قيل : كيف أعينكم فقالوا : اهدنا الصراط المستقيم وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجة بعض . وقرأ ابن حبيش : " نستعين " بكسر النون .
" اهدنا الصراط المستقيم " هدى : أصله أن يتعدى باللام أو بإلى كقوله تعالى : " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم " لإسراء : " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " الشورى : فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : " واختار موسى قومه " الأعراف : ومعنى طلب الهداية - وهم مهتدون طلب زيادة الهدى بمنح الإلطاف كقوله تعالى : " والذين اهتدوا زادهم هدى " محمد : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " العنكبوت : . وعن علي وأبي Bهما : اهدنا ثبتنا وصيغة الأمر والدعاء واحدة لأن كل واحد منهما طلب إنما يتفاوتان في الرتبة وقرأ عبدالله : أرشدنا .
السراط الجادة من سراط الشيء إذا ابتلعه لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه كما سمي : لقما لأنه يلتقمهم . والصراط من قلب السين صادا لأجل الطاء كقوله : مصيطر في " مسيطر وقد تشم الصاد صوت الزاي وقرئ بهن جميعا وفصاحهن إخلاص الصاد وهي لغة قريش وهي الثابتة في الإمام ويجمع سرطا نحو كتاب وكتب ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل والمراد طريق الحق وهو ملة الإسلام .
" صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " " صراط الذين أنعمت عليهم " بدل من الصراط المستقيم وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل : اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم كما قال : " للذين استضعفوا لمن آمن منهم " الأعراف : فإن قلت : ما فائدة البدل . وهلا قيل : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم قلت : فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره : صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وأكده كما تقول : هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم . فلان فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك : هل أدلك على فلان الأكرم والأفضل لأنك ثنيت ذكره مجملا أولا ومفصلا ثانيا وأوقعت فلانا تفسيرا وإيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل فكأنك قلت : من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع . والذين أنعمت عليهم : هم المؤمنون وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأن من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه . وعن ابن عباس : هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا وقيل : هم الأنبياء . وقرأ ابن مسعود : " صراط من أنعمت عليهم " .
" غير المغضوب عليهم " بدل من الذين أنعمت عليهم على معنى أن المنعم عليهم : هم الذين سلموا من غضب الله والضلال أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال . فإن قلت : كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف قلت : " الذين أنعمت عليهم " لاتوقيت فيه كقوله : .
ولقد أمر على اللئيم يسبني