فإن قلت : الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلا ؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائعة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب : مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم . قرىء : " تدعون " بالتاء والياء ويدعون : مبنيا للمفعول " لن " أخت " لا " في نفي المستقبل إلا أن " لن " تنفيه نفيا مؤكدا وتأكيده ههنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال : محال أن يخلقوا فإن قلت : ما محل . " ولو اجتمعوا له " ؟ قلت : النصب على الحال كأنه قال : مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه وتعاونهم عليه وهذا من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش واستركاك عقولهم والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه حيث وصفوا بالإلهية - التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها - صورا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله وأذله وأصغره وأحقره ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا . وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم : أن هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا . وقوله : " ضعف الطالب والمطلوب " كالتسوية بينهم وبين الفباب في الضعف . ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف لأن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب . وعن ابن عباس : أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله .
" ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز " .
" ما قدروا الله حق قدره " أي ما عرفوه حق معرفته حتى لا يسموا باسمه من هو منسلخ عن صفاته بأسرها ولا يؤهلوه للعبادة ولا يتخذوه شريكا له : إن الله قادر غالب فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به .
" الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور " .
هذا رد لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر وبيان أن رسل الله على ضربين : ملائكة وبشر ثم ذكر أنه تعالى دراك للمدركات عالم بأحوال المكلفين ما مضي منها وما غبر لا تخفى عليه منهم خافية . وإليه مرجع الأمور كلها والذي هو بهذه الصفات لا يسأل عما يفعل وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله .
" يأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون " .
للذكر شأن ليس لغيره من الطاعات . وفي هذه السورة دلالات على ذلك فمن ثمة دعا المؤمنين أولا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج والغزو ثم عم بالحث على سائر الخيرات . وقيل : كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود . وقيل : معنى : " واعبدوا ربكم " اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله . وعن ابن عباس في قوله : " وافعلوا الخير " صلة الأرحام ومكارم الأخلاق " لعلكم تفلحون " أي افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح طامعون فيه غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم وعن عقبة بن عامر Bه قال : قلت : يا رسول الله في صورة الحج سجدتان . قال : " نعم " إن لم تسجدهما فلا تقرأهما " وعن عبد الله بن عمر Bهما فضلت سورة الحج بسجدتين . وبذلك احتج الشافعي Bه فرأى سجدتين في سورة الحج وأبو حنيفة وأصحابه رضي لله عنهم لا يرون فيها إلا سجدة واحدة لأنهم يقولون : قرن السجود بالركوع فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة .
" وجهدوا فى الله حق جهاده هو اجتبكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبرهيم هو سمكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول شهيدا A وتكونوا شهداء على الناس فأقيموأ الصلوة وءاتوا الزكوة واعتصموا بالله هو مولكم فنعم المولى ونعم النصير " .
" وجهدوا " أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر . عن النبي A أنه رجع من بعض غزواته فقال :