فإن قلت : كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته وقد أسنده إلى الشيطان في قوله : " وزين لهم الشيطان أعمالهم " النمل : 24 ، العنكبوت : 38 ؟ قلت : بين الإسنادين فرق وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة وإسناده إلى الله D مجاز وله طريقان في علم البيان . أحدهما : أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة . والثاني : أن يكون من المجاز الحكمي فالطريق الأول : أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق . وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفة ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم . وإليه أشارت الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم في قولهم : " ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر " الفرقان : 18 والطريق الثاني : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه لأن المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات وقيل : هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها : زينها لهم الله فعمهوا عنها وضلوا وعزى إلى الحسن . والعمه : التحير والتردد كما يكون حال الضال عن الطريق . وعن بعض الأعراب : أنه دخل السوق وما أبصرها قط فقال : رأيت الناس مهمين أراد : مترددين في أعمالهم وأشغالهم " سوء العذاب " القتل والأسر يوم بدر . و " الأخسرون " أشد الناس خسرانا ؛ لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله .
" وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم " " لتلقى القرءان " لتؤتاه وتلقنه " من " عند أي " حكيم " وأي " عليم " وهذا معنى مجيئها نكرتين . وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه .
" إذ قال موسى لأهله إني ءانست نارا سئاتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون " " إذ " منصوب بمضمر وهو اذكر كأنه قال على أثر ذلك : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى . ويجوز أن ينتصب بعليم . وروي أنه لم يكن مع موسى ليه السلام غير امرأته وقد كنى الله عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله : " امكثوا " طه : 10 . الشهاب : الشعلة . والقبس : النار المقبوسة وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبسا وغير قبس . ومن قرأ بالتنوين : جعل القبس بدلا أو صفة لما فيه من معنى القبس . والخبر : ما يخبر به عن حال الطريق لأنه كان قد ضله . فإن قلت : سآتيكم منها بخبر ولعلي آتيكم منها بخبر : كالمتدافعين : لأن أحدهما ترج والآخر تيقن . قلت : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه : سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة . فإن قلت : كيف جاء بسين التسويف ؟ قلت : عدة لأهلله أنه يأتيهم به وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة . فإن قلت : فلم جاء بأو دون الواو ؟ قلت بني الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجيته جميعا لم يعدم واحدة منهما : إما هداية الطريق ؛ وإما أقتباس النار ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعا وهما العزان : عز الدنيا وعز الآخرة .
" فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين "