الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل . ألا ترى أنك لو قلت : حسبت زيدا وظننت الفرس : لم يكن شيئا حتى يقول : حسبت زيدا عالما ؛ وظننت الفرس جوادا لأن قولك : زيد عالم أو الفرس جواد : كلام دال على مضمون فأردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتا عندك على وجه الظن لا اليقين فلم تجد بدا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه من ذكر شطري الجملة مدخلا عليهما فعل الحسبان حتى يتم لك غرضك . فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية ؟ قلت : هو في قوله : " أ يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون " وذلك أن تقديره : أحسبوا تركوهم غير مفتونين لقولهم : آمنا فالترك أول مفعولي حسب ؛ ولقولهم : آمنا هو الخبر . وأما غير مفتونين فتتمة الترك لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير كقوله : فتركته جزر السباع بنشنه ألا ترى أنك قبل المجئ بالحسبان تقدر أن تقول : تركهم غير مفتونين لقولهم : آمنا على تقدير : حاصل ومستقر قبل اللام . فإن قلت : " أن يقلوا " هو علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ ؟ قلت : كما تقول خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت مخافة الشر وضربته تأديبا : تعليلين . وتقول ايضا : حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا . والفتنة : الإمتحان بشدائد التكليف : من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء وسائر الطابعات الشاقة وهجر الشهوات والملاذ وبالفقر ؛ والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم . والمعنى : أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان : أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين بل يمنحهم الله بضروب المحن حتى يبلو صبرهم وثبات أقدامهم وصحة عقائدهم ونصوح نياتهم ليتمز المخلص من غير المخلص والراسخ في الدين من المضطرب والمتمكن من العابد على حرف كما قال : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " آل عمران : 186 وروي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله A قد جزعوا من أذى المشركين . وقيل في عمار بن ياسر : وكان يعذب في الله . وقيل : في ناس أسلموا بمكة فكتب إليهم المهاجرون : لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا فخرجوا فتتبعهم المشركون فردوهم فلما نزلت كتبوا بها إليهم ؛ فخرجوا فتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا . وقيل : فيمهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو أول قتيل من المسلمين يوم بدر رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله A : سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة فجزع عليه أبواه وامرأته " ولقد فتنا " موصول بأحسب أو بلا يفتنون كقولك : ألا يمتحن فلان وقد امتحن من هو خير منه يعنى : أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم . أو ما هو أشد منه فصبروا كما قال : " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا... . " الآية آل عمران : 146 وعن النبي A : وقد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فريقتين وما يصرفه ذلك عن دينه ؛ ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه . " فليعلمن الله " بالإمتحان " الذين صدقوا " في الإيمان " وليعلمن الكاذبين " فيه . فإن قلت : كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل ؟ قلت : لم يزل يعلمه معدوما ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد والمعنى : وليتميزون الصادق منهم من الكاذب . ويجوز أن يكون وعدا ووعيدا كأنه قال : وليثيبن الذين صدقوا وليعاقبن الكاذبين . وقرأ علي رضى الله عنه والزهري : وليعلمن من الأعلام أي وليعرفنهم الله الناس من هم . أو ليسمنهم بعلامة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها وكحل العيون وزرقتها .
" أم حسب الذين يعملون الشيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون "