الباب التاسع : في كتابة القرآن اكرام المصحف .
اعم أن القرآن العزيز كان مؤلفا في زمن النبي A على ما هو في المصاحف اليوم ولكن لم يكن مجموعا في مصحف بل كان محفوظا في صدور الرجال فكان طوائف من الصحابة أبي بكر الصديق Bه وقتل كثير من حملة القرآن خاف موتهم واختلاف من بعدهم فيه فاستشار الصحابة Bهم في جمعه في مصحف فأشاروا بذلك فكتبه في مصحف وجعله في بيت حفصة أم المؤمنون Bها فلما كان في زمن عثمان Bه وانتشر الاسلام خاف عثمان وقوع الاختلاف المؤدي إلى ترك شيء من القرآن أو الزيادة فيه فنسخ من ذلك المجموع الذي عن حفصة الذي أجمعت الصحابة علية مصاحف وبعث بها إلى البلدان وأمر باتلاف ما خالفها وكان فعله هذا باتفاقمنه ومن على بن أبي طالب وسائر الصحابة وغيرهم Bهم : وإنما لم يجعله النبي A في مصحف واحد لما كان يتوقع من زيادته ونسخ بعض المتلو ولم يزل ذلك التوقع الى وفاته A فلما أمن أبو بك وسائر أصحابه ذلك التوقع واقتضت المصلحة جمعه فعلوه Bهم واختلفوا في عدد المصاحف التي بعث بها عثمان فقال الامام أبو عمر والداني : أكثر العلماء على أن عثمان كتب أربع نسخ : فبعث إلى البصرة إحداهن وإلى الكوفة أخرى والى الشام أخرى وحبس عنده أخرى وقال أبو حاتم السجستاني : كتب عثمان سبعة مصاحف : بعث واحدا إلى مكة وآخر إلى الشام وآخر إلى اليمن وآخر إلى البحرين وآخر إلى البصرة وآخر إلى الكوفة وحبس بالمدينة واحدا وهذا مختصر ما يتعلق بأول جمع المصحف وفيه أحاديث كثيرة في الصحيح وفي المصحف ثلاث لغات ضم الميم وكسرها وفتحها فالضم والكسر مشهورتان والفتح ذكرها أبو جعفر النحاس وغير .
فصل : اتفق العلماء على استحباب كتابة المصاحف وتحسين كتابتها وتبينها وايضاحها وتحقيق الخط دون مشقة وتعليقة قال العلماء : ويستحب نقط المصحف وشكله فانه صيانة من اللحن فيه وتصحيفه وأما كراهة الشعبي و النخعي النقط فانما كرهاه في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه وقد أمن ذلك اليوم فلا منع ولا يمتنع من ذلك لكونه محدثا فانه من المحدثات الحسنة فلم يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك والله أعلم .
فصل : لا تجوز كتابة القرآن بشيء نجس وتكره كتابته على الجدران عندنا وفيه مذهب عطاء الذي قدمناه وقد قدمنا أنه إذا كتب على الاطعمة فلا بأس بأكلها وأنه إذا كتب على خشبة كره إحراقها .
فصل : أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه قال أصحابنا وغيره : ولو ألقاه مسلم في القاذورة والعياذ بالله تعالى صار الملقي كافرا قالوا ويحرم توسده بل توسد آحاد كتب العلم حرام ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم عليه لأن القيام مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار فالمصحف أولى وقد قررت دلائل استحباب القيام في الجزء الذي جمعته فيه وروينا في مسند الدرامي باسناد صحيح عن ابن أبي مليكة ( أن عكرمة بن أبي جهل Bه كان يضع المصحف على وجهه ويقول : كتاب ربي كتاب ربي ) .
فصل : تحرم المسافرة بالمصحف إلى أرض العدو إذا خيف وقوعه في أيديهم للحديث المشهور في الصحيحين [ أن رسول الله A نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ] ويحرم بيع المصحف من الذمي فان باعه ففي صحة البيع قولان للشافعي : أصحهما لا يصح والثاني يصح ويؤمر في الحال بأزالة ملكه عنه ويمنع المجنون والصبي الذي لا يميز من مس المصحف مخافة من انتهاك حرمته وهذا المنع واجب على الولي وغير ممن رآه يتعرض لحمله .
فصل : يحرم على المحدث مس المصحف وحمله سواء حمله بعلاقته أو بغيرها سواء مس نفس الكتابة أو الحواشي أو الجلد ونحرم مس الخريطة والغلاف والصندوق إذا كان فيهن المصحف هذا هو المذهب المختار وقيل لا تحرم هذه الثلاثة وهو ضعيف ولو كتب القرآن في لوح فحكمه حكم المصحف سواء قل المكتوب أو كثر حتى لو كان بعض آية كتب للدراسة حرم مس اللوح .
فصل : إذا تصفح المحدث أو الجنب أو الحائض أورق المصحف بعود أو شبهه ففي جواز ه وجهان لأصحابنا : أظهرهما جواز وبه قطع العراقيون من أصحابنا لأنه غير ماس ولا حامل والثاني تحريمه لأنه يعد حاملا للورقة والورقة كالجميع وأما إذا لف كمه على يده وقلب الورقة فحرام بلا خلاف وغلط بعض أصحابنا فحكى فيه وجهين والصواب القطع بالتحريم لأن القلب يقع باليد لا بالكم .
فصل : إذا كتب الجنب أو المحدث مصحفا إن كان يحمل الورقة أو يمسها حال الكتابة فحرام وان لم يحملها ولم يمسها ففيه ثلاثة أوجه : الصحيح جوازه والثاني تحريمه والثالث يجوز للمحدث ويحرم على الجنب .
فصل : إذا مس المحدث أو الجنب أو الحائض أو حمل كتابا من كتب الفقه أو غيره من العلوم وفيه آيات من القرآن أو ثوبا مطرزا بالقرآن أو دراهم أو دنانير منقوشة به أو حمل متاعا في جملته مصحف أو لمس الجدار أو الحلوى أو الخبز المنقوش به فالمذهب الصحيح جواز هذا كله لأنه ليس بمصحف وفيه وجه أنه حرام وقال أقضى القضاة أبو حسن الماوردي في كتابه الحاوي : يجوز مس الثياب المطرزة بالقرآن ولا يجوز لبسها بلا خلاف لأن المقصود بلبسها التبرك بالقرآن وهذا الذي ذكره أو قاله ضعيف لم يوافقه أحد عليه فيما رأيته بل صرح الشيخ أبو محمد الجويني وغيره بجواز لبسها وهذا هو الصواب والله أعلم وأما كتب تفسير القرآن فان كان القرآن فيها أكثر من غيره حرم مسها وحملها وان كان غيره أكثر كما هو الغالب ففيها ثلاثة أوجه : أصحها لايحرم والثاني يحرم والثالث إن كان القرآن بخط متميز بغلظ أو حمرة أو غيرها حرم وان لم يتميز لم يحرم قلت : ويحرم المس إذا استويا قال صاحب التتمة من أصحابنا : واذا قلنا لا يحرم فهو مكروه وأما كتب حديث رسول الله A فان لم يكن فيها آيات من القرآن لم يحرم مسها والأولى ن ألاتمس إلا على طهارة وان كان فيها آيات من القرآن لم يحرم على المذهب وفيه وجه أنه يحرم وهو الذي في كتب الفقه وأما المنسوخ تلاوبه كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة - وغير ذلك فلا يحرم مسه ولا حمله قال أصحابنا وكذلك التوراة و الانجيل .
فصل : إذا كان في موضع من بدن المتطهر نجاسة غير معفو عنها حرم عليه بموضع النجاسة بلا خلاف ولا يحرم بغيره على المذهب الصحيح المشهور الذي قاله جماهير أصحابنا وغيرهم من العلماء وقال أبو القاسم الصيمري من أصحابنا : يحرم وغلطه أصحابنا في هذا قال القاضي أبو الطيب : هذا الذي قال مردود بالاجماع ثم على المشهور قال بعض أصحابنا انه مكروه والمختار أنه ليس بمكروه .
فصل : من لم يجد ماء فتيمم حيث يجوز التيمم له مس المصحف سواء كان تيممه للصلاة أو لغير مما يجوز التيمم له وأما من لم يجد ماء ولا برابا فإنه يصلي على حسب حاله ولا يجوز له مس الصحف لأنه محدث جوزنا له الصلاة للضرورة ولو كان معه مصحف ولم يجد من بودعه عنده وعجز عن الوضووء جاز له حمله للضرورة قال القاضي أبو الطيب ولا يلزمه التيمم وفيما قاله نظر وينبغي أن يلزمه التيمم أما إذا خاف على كافر فانه يأخذه ولو كان محدثا للضرورة .
فصل : هل يجب على الولي والمعلم تكليف الصبي المميز الطهارة لحمل المصحف واللوح اللذين يقرأ فيهما ؟ وجهان مشهوران : اصحهما عند الأصحاب لا يجب للمشقة .
فصل : يصح بيع المصحف وشراؤه ولا كراهة في شرائه وفي كراهة بيعه وجهان لأصحابنا أصحهما وهو نص الشافعي أنه يكره ومن قال لا يكره بيعه وشراؤه الحسن البصري و عكرمة و الحكم ابن عيينة وهو مروي عن ابن عباس وكرهت طائفة من العلماء بيعه وشراؤه وحكاه ابن المنذر عن علقمة و ابن سرين و النخعي و شريح و مسروق و عبد الله بن زيد وروي عن عمر و أبي موسى الأشعري التغليظ في بيعه وذهبت طائفة الى الترخيص في الشراء وكراهة البيع حكاه ابن المنذر عن ابن عباس و سعيد بن جبي ر و أحمد بن حنبل و إسحق ابن راهوية والله أعلم