الباب السادس : في آداب القرآن .
هذا الباب هو مقصود الكتاب وهو منتشر جدا وأنا أشير إلى أطراف من مقاصده كراهة الإطالة وخوفا على قارئه من الملالة فأول ذلك يجب على القارئ الإخلاص كما قدمناه ومراعاة الأدب مع القرآن فينبغي أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى ويقرأ على حال من يرى الله تعالى فإنه إن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه .
( فصل ) وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظف فاه بالسواك وغيره والإختيار في السواك أن يكون بعود من أراك ويجوز بسائر العيدان وبكل ما ينظف كالخرقة الخشنة والأشنان وغير ذلك وفي حصوله بالإصبع الخشنة ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى : أشهرها أنه لايحصل والثاني يحصل إن لم يجد غيرها ولا يحصل إن وجد ويستاك عرضا مبتدئا بالجانب الأمين من فمه وينوي به الإتيان بالسنة قال بعض العلماء : يقول عند الإستياك اللهم بارك في فيه يا أرحم الراحمين قال الماوردي من أصحاب الشافعي ويستحب أن يستاك في ظاهر الأسنان وباطنها ويمر السواك على أطراف أسنانه وكراسي أظراسه وسقف حلقه إمرارا رفيقا قالوا : وينبغي أن يستاك بعود متوسط لا شديد اليبوسة ولا شديد الرطوبة قال فإن اشتد يبسه لينه بالماء ولا بأس باستعماله سواك غيره بإذنه وأما إذا كان فمه نجسا بدم أو غيره فإنه يكره له قراءة القرآن قبل غسله وهل يحرم ؟ قال الروياني من أصحاب الشافعي عن والده يحتمل وجهين والأصح لا يحرم .
( فصل ) يستحب أن يقرأ وهو على طهارة فإن قرأ محدثا جاز بإجماع المسلمين والأحاديث فيه كثيرة معروفة قال إمام الحرمين : ولا يقال ارتكب مكروها بل هو تارك للأفضل فإن لم يجد الماء تيمم والمستحاضة في الزمن المحكوم بأنه طهر حكمها حكم المحدث وأما الجنب والحائض فإنه يحرم عليهما قراءة القرآن سواء كان آية أو أقل منها ويجوز لهما إجراء القرآن على قلبهما من غير تلفظ به ويجوز لهما النظر في المصحف وإمراره على القلب وأجمع المسلمون على جواز التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصلاة على النبي A وغير ذلك من الأذكار للجنب والحائض قال أصحابنا : وكذا إن قالا لإنسان : خذ الكتاب بقوة وقصدا به غير القرآن فهو جائز وكذا ما أشبهه ويجوز لهما أن يقولا عند المصيبة : إنا لله وإنا إليه راجعون إذا لم يقصدا القرآن قال أصحابنا الخراسانيون : ويجوز أن يقولا عند ركوب الدابة : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وعند الدعاء : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وقنا عذاب النار إذا لم يقصدا القرآن قال إمام الحرمين : فإذا قال الجنب بسم الله والحمد لله فإن قصد القرآن عصى وإن قصد الذكر أو لم يقصد شيئا لم يأثم ويجوز لهما قراءة ما نسخت تلاوته : كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة .
( فصل ) إذا لم يجد الجنب أو الحائض ماء تيمم ويباح له القراءة والصلاة وغيرهما فإن أحدث حرمت عليه الصلاة ولم تحرم القراءة والجلوس في المسجد وغيرهما مما لا يحرم على المحدث كما لو اغتسل ثم أحدث وهذا مما يسأل عنه ويستغرب فيقال : جنب يمنع من الصلاة ولا يمنع من قراءة القرآن والجلوس في المسجد من غير ضرورة كيف صورته ؟ فهذا صورته ثم الأقرب لا فرق مما ذكرناه بين تيمم الجنب في الحضر والسفر وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه إذا تيمم في الحضر استباح الصلاة ولا يقرأ بعدها ولا يجلس في المسجد والصحيح جواز ذلك كما قدمناه ولو تيمم ثم صلى وقرأ ثم رأى ماء يلزمه استعماله فإنه يحرم عليه القراءة وجميع ما يحرم على الجنب حتى يغتسل ولو تيمم وصلى وقرأ ثم أراد التيمم لحدث أو لفريضة أخرى أو لغير ذلك فإنه لا يحرم عليه القراءة على المذهب الصحيح المختار وفيه وجه لبعض أصحاب الشافعي أنه لا يجوز والمعروف الأول أما إذا لم يجد الجنب ماء ولا ترابا فإنه لا يصلي لحرمة الوقت على حسب حاله ويحرم عليه القراءة خارج الصلاة ويحرم عليه أن يقرأ في الصلاة ما زاد على فاتحة الكتاب وهل يحرم عليه قراءة الفاتحة ؟ فيه وجهان : الصحيح المختار أنه لا يحرم بل يجب فإن الصلاة لا تصح إلا بها وكلما جازت الصلاة لضرورة مع الجنابة يجوز القراءة والثاني لا يجوز بل يأتي بالأذكار التي بها العاجز الذي لا يحفظ شيئا من القرآن لأن هذا عاجز شرعا فصار كالعاجز حسا والصواب الأول وهذه الفروع التي ذكرناها يحتاج إليها فلهذا أشرت إليها بأوجز العبارات وإلا فلها أدلة وتتمات كثيرة معروفة في كتب الفقه والله أعلم .
( فصل ) ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعا للنظافة وشرف البقعة ومحصلا لفضيلة أخرى وهي الإعتكاف فإنه ينبغي لكل جالس في المسجد الإعتكاف سواء أكثر في جلوسه أو أقل بل ينبغي أول دخوله المسجد أن ينوي الإعتكاف وهذا الأدب ينبغي أن يعتنى به ويشاع ذكره ويعرفه الصغار والعوام فإنه مما يغفل عنه وأما القراءة في الحمام فقد اختلف السلف في كراهيتها : فقال أصحابنا : لا يكره ونقله الإمام المجمع على جلالته أبو بكر بن المنذر في الإشراف عن إبراهيم النخعي و مالك وهو قول عطاء وذهب إلى كراهته جماعات منهم علي بن أبي طالب Bه رواه عنه ابن أبي داود وحكى ابن المنذر عن جماعة من التابعين منهم أبو وائل شقيق بن سلمة و الشعبي و الحسن البصري و مكحول و قبيصة بن ذؤيب ورويناه أيضا عن إبراهيم النخعي وحكاه أصحابنا عن أبي حنيفة Bهم أجمعين قال الشعبي : تكره القراءة في ثلاثة مواضع : في الحمامات والحشوش وبيوت الرحى وهي تدور وعن أبي ميسرة قال : لا يذكر الله إلا في مكان طيب وأما القراءة في الطريق فالمختار أنها جائزة غير مكروهة إذا لم يلته للنعاس صاحبها فإن النهى عنها كرهت كما كره النبي A القراءة الناعس مخافة من الخلط وروى أبو الدرداء Bه أنه كان يقرأ في الطريق وروى عمر بن عبد العزيز C أنه أذن فيها قال ابن أبي داود : حدثني أبو الربيع قال : أخبرنا ابن وهب قال : سألت مالكا عن الرجل يصلي من آخر الليل فيخرج إلى المسجد وقد بقي من السورة التي كان يقرأ فيها شئ قال ما أعلم القراءة تكون في الطريق وكره ذلك وهذا إسناد صحيح عن مالك C .
( فصل ) يستحب للقارئ في غير الصلاة أن يستقبل القبلة فقد جاء في الحديث [ خير المجالس ما استقبل به القبلة ] ويجلس متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه ويكون جلوسه وحده في تحسين أدبه وخضوعه كجلوسه بين يدي معلمه فهذا هو الأكمل ولو قرأ قائما أو مضطجعا أو في فراشه أو على غير ذلك من الأحوال جاز وله أجر ولكن دون الأول قال الله D { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } وثبت في الصحيح عن عائشة Bها قالت [ كان رسول الله A يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن ] رواه البخاري و مسلم وفي رواية [ يقرأ القرآن ورأسه في حجري ] وعن أبي موسى الأشعري Bه قال : إني أقرأ القرآن في صلاتي وأقرأ على فراشي وعن عائشة Bها قالت : إني لا أقرأ حزبي وأنا مضطجعة على السرير .
( فصل ) فإن أراد الشروع في القراءة استعاذ فقال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا قال الجمهور من العلماء وقال بعض العلماء : يتعوذ بعد القراءة لقوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } وتقدير الآية عند الجمهور : إذا أردت القراءة فاستعذ ثم صيغة التعوذ كما ذكرناه وكان جماعة من السلف يقولون أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ولا بأس بهذا ولكن الإختيار هو الأول ثم إن التعوذ مستحب وليس بواجب وهو مستحب لكل قارئ سواء كان في الصلاة أو في غيرها ويستحب في الصلاة في كل ركعة على الصحيح من الوجهين عند أصحابنا وعلى الوجه الثاني إنما يستحب في الركعة الأولى فإن تركه في الأولى أتى به في الثانية ويستحب التعوذ في التكبيرة الأولى في صلاة الجنازة على أصح الوجهين قال : وينبغي أن يحافظ على قراءة بسم الله الرحمان الرحيم في أول كل سورة سوى براءة فإن أكثر العلماء قالوا إنها آية حيث تكتب في المصحف وقد كتبت في أوائل السور سوى براءة فإذا قرأها كان متيقنا قراءة الختمة أو السورة فإذا أخل بالبسملة كان تاركا لبعض القرآن عند الأكثرين فإذا كانت القراءة في وظيفة عليها جعل كالأسباع والأجراء التي عليها أوقاف وأرزاق كان الإعتناء بالبسملة أكثر لتيقن قراءة الختمة فإنه أذا تركها لم يستحق شيئا من الوقف عند من يقول البسملة آية من أول السورة وهذه دقيقة يتأطد الإعتناء بها وإشاعتها .
( فصل ) فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبير عند القراءة و والدلائل عليه أكثر من أن تحصر وأشهر وأظهر من أن تذكر فهو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب قال الله D { أفلا يتدبرون القرآن } وقال تعالى { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } والأحاديث فيه كثيرة وأقاويل السلف فيه مشهورة وقد بات جماعة من السلف يتلون آيه واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصبح وقد صعق جماعة من السلف عند القراءة ومات جماعات حال القراءة وروينا عن بهز بن حكيم أن زرارا بن أوفى التابعي الجليل Bه أمهم في صلاة الفجر فقرأ حتى بلغ { فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير } خر ميتا قال بهز : وكنت فيمن حمله وكان احمد بن أبي الحواري Bه وهو ريحانة الشام كما قال أبو القاسم الجنيد C إذا قرئ عنده القرآن يصيح ويصعق قال ابن أبي داود : وكان القاسم بن عثمان الجوني C ينكر على ابن الحواري وكان الجوني فاضلا من محدثي أهل دمشق تقدم في الفضل على ابن أبي الحواري قال : وكذلك أنكره أبو الجوزاء و قيس بن جبير وغيرهم قلت والصواب : عدم الإنكار غلا على من اعترف أنه يفعله تصنعا والله أعلم وقال السيد الجليل ذو المواهب والمعارف إبراهيم الخواص رضي الله تعالى عنه : دواء القلب خمسة أشياء : قراءة القرآن بالدبر وخلاء البطن وقيام الليل والتضرع عند السحر ومجالسة الصالحين .
( فصل : في استحباب ترديد الآية للتدبر ) وقد قدمنا في الفصل قبله الحث على التدبر وبيان موقعه وتأثر السلف وروينا عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال [ قام النبي A بآية يرددها حتى أصبح والآية { إن تعذبهم فإنهم عبادك } الآية ] رواه النسائي و ابن ماجه وعن تميم الداري رضي الله تعالى عنه أنه كرر هذه الآية حتى أصبح { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية وعن عبادة بن حمزة قال : دخلت على أسماء Bها وهي تقرأ { فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم } فوقفت عندها فجعت تعيدها وتدعو فطال علي ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو ورويت هذه القصة عن عائشة رضي الله تعالى عنها وردد ابن مسعود Bه { رب زدني علما } وردد سعيد بن جبير { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } وردد أيضا { فسوف يعلمون * إذ الأغلال في أعناقهم } الآية وردد أيضا { ما غرك بربك الكريم } وكان الضحاك إذا تلا قوله تعالى { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } رددها إلى السحر .
( فصل ) في البكاء عند قراءة القرآن قد تقدم في الفصلين المتقدمين بيان ما يحمل البكاء في حال القراءة وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين قال الله تعالى { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } وقد وردت فيه أحاديث كثيرة وآثار السلف فمن ذلك عن النبي A [ اقرؤوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ] وعن عمر بن الخطاب Bه : أنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته وفي رواية : أنه كان في صلاة العشاء فتدل على تكريرة منه وفي رواية : أنه بكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف وعن أبي رجاء قال : رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع وعن أبي صالح قال : قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق Bه فجعلوا يقرؤون ويبكون فقال أبو بكر الصديق Bه : هكذا كنا وعن هشام قال : ربما سمعت بكاء محمد بن سيرين في الليل وهو في الصلاة والآثار في هذا كثيرة لا يمكن حصرها وفيما أشرنا إليه ونبهنا عليه كفاية والله أعلم قال الإمام أبو حامد الغزالي : البكاء مستحب مع القراءة وعنها وطريقه في تحصيله أن يحضر قلبه الحزن بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك فإن لم يحضره حزن وبكاء يحضر الخواص فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب .
( فصل ) وينبغي أن يرتل قراءته وقد اتفق العلماء Bهم على استحباب الترتيل قال الله تعالى { ورتل القرآن ترتيلا } وثبت عن أم سلمة Bها [ نعتت قراءة رسول الله A قراءة مفسرة حرفا حرفا ] رواه أبو داود و النسائي و الترمذي قال الترمذي حديث حسن صحيح وعن معاوية ابن قرة Bه عن عبد الله بن مغفل Bه قال [ رأيت رسول الله A يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح يرجع في قراءته ] رواه البخاري و مسلم وعن ابن عباس Bهما قال : لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله وعن مجاهد أنه سئل عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران والآخر البقرة وحدها وزمنهما وركوعهما وسجودهما وجلوسهما واحد سواء ؟ فقال : الذي قرأ البقرة وحدها أفضل وقد نهي عن الإفراط في الإسراع ويسمى الهذرمة فثبت عن عبد الله بن مسعود أن رجلا قال له : إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة فقال عبد الله بن مسعود : [ هكذا هكذا الشعر إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ] رواه البخاري و مسلم وهذا لفظ مسلم في إحدى رواياته قال العلماء : والترتيل مستحب للتدبير ولغيره قالوا : يستحب الترتيل للعجمي الذي لا يفهم معناه لأن ذلك أقرب إلى التوقير والإحترام وأشد تأثيرا في القلب .
( فصل ) ويستحب إذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب أو يقول : اللهم إني أسألك العافية أو أسألك المعافاة من كل مكروه أو نحو ذلك وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزه فقال : سبحانه وتعالى أو تبارك وتعالى أو جلت عظمة ربنا فقد صح عن حذيفة بن اليمان Bهما قال : [ صليت مع النبي A ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقراها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ ترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ] رواه مسلم في صحيحه وكانت سورة النساء في ذلك الوقت مقدمة على آل عمران قال أصحابنا رحمهم الله تعالى : ويستحب هذا السؤال والاستعاذة والتسبيح لكل قارئ سواء كان في الصلاة أو خارجا منها قالوا : ويستحب ذلك في صلاة الإمام والمنفرد والمأموم لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين عقب الفاتحة وهذا الذي ذكرناه من استحباب السؤال والاستعاذة هو مذهب الشافعي Bه وجماهير العلماء رحمهم الله قال أبو حنيفة C تعالى : ولا يستحب ذلك بل يكره في الصلاة والصواب قول الجماهير لما قدمناه .
( فصل ) ومما يعتنى به ويتأكد الأمر به احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين مجتمعين فمن ذلك اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القراءة إلا كلاما يضطر إليه وليمتثل قول الله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وليقتد بما رواه ابن أبي داود عن ابن عمر Bهما أنه كان إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ منه ذكره في كتاب التفسير في قوله تعالى { نساؤكم حرث لكم } ومن ذلك العبث باليد وغيرها فإنه يناجي ربه سبحانه وتعالى فلا يعبث بين يديه ومن ذلك النظر إلى ما يلهي ويبدد الذهن وأقبح من هذا كله النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه كالأمرد وغيره فإن النظر إلى الأمرد الحسن من غير حاجة حرام سواء كان بشهوة أو بغيرها سواء أمن الفتنة أو لم أمنها هذا هو المذهب الصحيح المختار عند العلماء وقد نص على تحريمه الإمام الشافعي ومن لا يحصى من العلماء ودليله قوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } ولأنه في معنى المرأة بل ربما كان بعضهم أو كثير منهم أحسن من كثير من النساء ويتمكن من أسباب الريبة فيه وتسهل من طرق الشر في حقه ما لا تسهل في حق المرأة في حق المرأة فكان تحريمه أولى وأقاويل السلف في التنفير منهم أكثر من أن تحصى وقد سموهم الأنتان لكونهم مستقذرين شرعا وأما النظر إليه في حال البيع والشراء والأخذ والإعطاء والتطبب والتعليم ونحوها من مواضع الحاجة فجائز للضرورة لكن يقتصر الناظر على قدر الحاجة ولا يديم النظر من غير ضرورة وكذا المعلم إنما يباح له النظر الذي يحتاج إليه ويحرم عليهم كلهم في كل الأحوال النظرة بشهوة ولا يختص هذا بالأمرد بل ويحرم على كل مكلف النظر بشهوة إلى كل أحد رجلا كان أو امرأة محرما كانت المرأة أو غيرها إلا الزوجة أو المملوكة التي يملك الاستمتاع بها حتى قال أصحابنا : يحرم النظر بشهوة إلى محارمه كأخته وأمه والله أعلم وعلى الحاضرين مجلس القراءة إذا رأوا شيئا من هذه المنكرات المذكورة أو غيرها أن ينهوا عنه حسب الإمكان باليد لمن قدر وباللسان لمن عجز عن اليد قدر على اللسان وإلا فلينكر بقلبه والله أعلم .
( فصل ) لا تجوز قراءة القرآن بالعحمية سواء أحسن العربية أو لم يحسنها سواء كان في الصلاة أم في عيرها فإن بها في الصلاة لم تصح صلاتة هذا مذهبنا ومذهب مالك و أحمد و داود و أبو بكر بن المنذر قال أبو حنيفة : يجوز ذلك لمن لم يحسن العربية ولا يجوز لمن يحسنها .
( فصل ) وتجوز قراءة القرآن بالقراآت السبع المجمع عليها ولا يجوز بغير السبع ولا بالروايات الشاذة المنقولة عن القراء السبعة وسيأتي في الباب السابع إن شاء الله تعالى بيان اتفاق الفقهاء على استتابة من أقرأ الشواذ أو قرأبها وقال أصحبنا وغيرهم : لو قرأ بالشواذ في الصلاة بطلت صلاته إن كان عالما وإن كان جاملا لم تبطل ولم تحسب له تلك القراءة وقد نقل الإمان أبو عمر بن عبد البر الحافظ إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ وأنه لا يصلى خلف من يقرأ بها قال العلماء : من قرأ الشاذ إن كان جاهلا به أو بتحريمه عرف بذلك فإن عاد إليه أو كان عالما به عزز تعزيرا بليغا إلى أن ينتهي عن ذلك ويجت على كل متمكن من الانكار عليه ومنعه الانكار والمنع .
( فصل ) إذا ابتدأ بقرأءة أحد القراو فينبغي أن يستمر على القراءة بها ما دام الكلام كرنب فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أحد من السبعة والأولى دوامه على الأولى في هذا المجلس .
( فصل ) قال العلماء : الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم ما بعدها على الترتيب وسواء قرأ في الصلاة أو في غيرها حتى قال بعض أصحابنا : إذا قرأ في الركعة الأولى سورة قل أعوذ برب الناس يقرأفي الثانية بعد الفاتحة من البقرة قال بعض أصحابنا : ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا الحكمة فينبغي أن يحافظ عليها إلا فيما ورد المشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة يقرأ في الأولى سورة السجدة وفي الثانية هل أتى على الانسان وصلاة العيد في الأولى قاف وفي الثانية اقتربت الساعة وركعتي سنة الفجر في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية قل هو الله أحد وركعات الوتر في الأولى سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالث قل هو الله أحد المعوذتين ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلي الأولى أو خالف الترتيب فقرأ سورة ثم قرأ سورة قبلها جاز فقد جاء بذلك آثاركثيرة وقد قرأعمر بن الخطاب Bه في الركعة الأولى من الصبح بالكهف وفي الثانية بيوسف وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف وروى ابن أبي داود عن الحسن : أنه كان يكره أن يقرأالقرآن إلا على تأليفه في المصحف وباسناده الصحيح عن عبد الله بن مسعود Bه أنه قيل له : إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا ؟ فقال ذلك منكوس القلب وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعا متأكدا فإنه يذهب بعض ضروب الاعجاز ويزيل حكمة ترتيب الآيات وقد روى ابن أبي داود عن ابراهيم النخعي الإمام التابعي الجليل و الامام مالك بن أنس أنهمات كرها ذلك وان مالكا كان يعيبه ويقول هذا عظيم وأما بعليم الصبيان من آخر المصحف إلاى أوله فحسن ليس هذا من هذا الباب فإن ذلك قراءة متفاضلة في أيام متعددة مع ما فيه من تسهيل الحفظ عليهم والله أعلم .
( فصل ) قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر القلب لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة فتجتمع القراءة والنظر هكذا قال القاضي حسين من اصحابنا و أبو حامد الغزالي وجمعات من السلف ونقل الغزالي في الاحياء ان كثيرين من الصحابة Bهم كانوا يقرءون من المصحف وبكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف وروى ابن أبي داود القراءة في المصحف عن كثيرين من السلف ولم أر فيه خلافا ولو قيل إنه يختلف باختلاف الأشخاص فيختار القراءة في المصحف لمن استوى خشوعه وتدبيره في حالتي القراءة في المصحف وعن ظهرالقلب ويختار القراءة عن ظهر القلب لمن لم يكمل بذلك خشوعه ويزيد على خشوعه وتدبية لو قرأمن المصحف لكان هذا قولا حسنا والظاهر أ كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل .
( فصل ) في استحباب قراءة الجماعة مجتمعين وفضل القايئين من الجماعة والسامعين وبيان فضلة من جمعهم عليها وحرضهم وندبهم إليها أعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة وأفعال السلف والخلف المتظاهر فقد صح عن النبي A من [ رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري Bهما انه قا ل ما من قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة Bه عن النبي A قال [ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ] رواه مسلم و أبوداود باسناد صحيح على شرط البخاري و مسلم وعن معاوية Bه [ أن النبي A خرج على حلقة من أصحابه فقال ما سجلكم ؟ قالوا جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده لما هدانا للاسلام ومن علينا به فقا ل : أتاني جبريل عليه السلام فاخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة ] رواه الترمذي و النسائي وقال الترمذي : حديث حسن صحيح والأحاديث في هذا كثيرة وروى الدارمي باسناده عن ابن عباس Bهما قال من أستمع إلى آية من كتاب الله كانت له نورا وروى ابن أبي داود : أن أبا الدرداء Bه كان يدرس القرآن معه نفر يقرءون جميعا وروى ابن أبي داود فعل الدراسة مجتمعين عن جماعات من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين وعن حيان بن عطية و الأوزاعي أنهما قالا : أول من أحدث الدراسة في مسجد دمشق هشام بن اسمعيل في قدمته على عبد الملك وأما ما روى ابن أبي داود عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب : أنه أنكر هذه الدراسة وقال ما رأيت ولا سمعت وقد أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عنه : يعني ما رأيت أحدأ فعلها وعن وهب قال : قلت لمالك أرأيت القوم يجتمعون فيقرءون جميعا سورة واحدة حتى يختموها ؟ فأنكر ذلك وعابه وقا لليس هكذا تضيع الناس إنما كان يقرأ الرجل على الآخر يعرضة فهذا الانكار منهما مخالف لما عليه السلف والخلف ولما يقتضية الدليل فهو متروك والاعتماد على ما تقدم من استحابها لكن القراءة في حال الاجتماع لها شروط قدمناها ينبغي أن يعتيى بها والله أعلم وأما فضيلة من يجمعهم على القراءة ففيها يصوص كثيرة كقوله A [ الدال على الخير كفاعله ] قوله A [ لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ] والأحاديث فيه كثير مشهورة وقد قال الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } ولا شك في عظم أجر الساعي في ذلك