قال ابن عيينة : ( اجتمع أبو حنيفة و الأوزاعي ) وهو من أكابر المجتهدين ومن أجلاء التابعين حتى إذا ركب كان الثوري ومالك في ركابه أحدهما ليسوق والآخر يقود ( في دار الحناطين بمكة ) أي مكان البياعين للحنطة واليوم يقال له : سوق الحبابين ولا يبعد أن يراد به دار العطارين على أن المراد بهم البياعون للحنوط بفتح وضم طيب بخلط للميت ( فقال الأوزاعي لأبي حنيفة ما بالكم ) والخطاب ؟ بالجمع للتعظيم أو له ولأصحابه أو للكوفيين والمعنى ما شأنكم وحالكم ( لا ترفعون أيديكم ) في الصلاة ( عند الركوع ) أي حال إرادة الانخفاض إليه ( وعند الرفع منه ) كما يفعله أهل المدينة وغيرهم ؟ ( فقال أبو حنيفة : لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه شيء ) أي حديث غير معارض لغيره يجب به العمل فإنما أطلق الكلام لأنه ادعى الإلزام وإذا تعارض الحديثان تساقطا .
والأصل عدم الرفع لأن مبنى الصلاة على السكون في الشرع وما يقال بترجيح أحدهما ( قال : كيف لا يصح ) أي على الإطلاق أنه بحيث لا يعارض بما هو أرجح في مقام الوفاق ( وقد حدثني الزهري ) وهو محمد بن شهاب أعلم الفقهاء والمحدثين والعلماء والأعلام من التابعين بالمدينة السكينة روى عنه قتادة ومالك ومكحول وغيرهم مات في شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومائة ( عن سالم ) أحد فقهاء المدينة من سادات التابعين وثقاتهم مات بالمدينة سنة ست ومائة ( عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب ) وترجمته مشهورة فيما بين الأصحاب قال جابر بن عبد الله ما منا أحد إلا مالت به الدنيا ومال هو بها ما خلا عمر وابنه عبد الله قال نافع : ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف ألف إنسان وزادا ( عن ) وفي نسخة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يرفع يديه حذاء منكبيه ) وهو مختار الشافعية أو أذنيه وهو مختار الحنفية ( إذا افتتح الصلاة ) وهو سنة متفق عليها وإن اختلفوا في هيئتها ( وعند الركوع ) أي قصده ( وعند الرفع منه ) .
وبه قال ( 1 ) مالك والشافعي وأحمد ( فقال أبو حنيفة : وحدثنا حماد ) أي ابن سليمان الأشعري ( عن إبراهيم النخعي عن علقمة والأسود ) كلاهما ( عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان لا يرفع يديه ) أي في آخر أمره وانقضاء عمره ( إلا عند افتتاح الصلاة ولا يعود لشيء من ذلك ) الرفع فيما هنالك وبه يجمع بين الروايات بدليل الترجيح من جهة الثقات ويندفع ما يرد أن النفي غير معتبر في معرض الإثبات .
( فقال الأوزاعي ) ترجيحا لسنده على معتمده ( أحدثك عن الزهري عن سالم عن عبد الله ) وهم أجلاء في الرواية مع قلة الواسطة فإن إسناده ثلاثي ( وتقول ) في معارضتي : ( حدثني حماد عن إبراهيم ) وهما غير مشهورفي نقل السنة بالنسبة إلى ما تقدم مع كثرة الواسطة فإن إسناده رباعي ( فقال أبو حنيفة ) معرضا عن طول السند وقصره : فإنه لا يضر مع حجة طرقه وربما يزيد قوة في تحققه ( كان حماد أفقه ) أي أعلم بمعنى الحديث ( من الزهري ) وإن كان هو أشهد برواية السنة ( وكان إبراهيم أفقه من سالم ) أيضا بالمعنى المتقدم ( وعلقمة ليس بدون ابن عمر في الفقه ) وغير العبارة مراعاة للأدب معه كما أشار إليه بقوله ( وإن كان لابن عمر صحبة ) أي شرف الصحبة وهذا بالنسبة إلى ابن عمر وعلقمة .
وأما بالنسبة إلى الأسود فبينه بقوله : ( وله ) أي لابن عمر ( فضل صحبة ) .
ليس فيه شبهة ( فالأسود له فضل ) كثير من جهة الفقاهة ( وعبد الله بن مسعود هوعبد الله ) الذي فضله مشهور غير مجحود والتركيب من قبيل قوله شعر : .
أنا أبو النجم وشعري شعري .
فلا يرد أن المبتدأ هو عين الخبر ولا بد من المغايرة بينهما فتدبر ( 2 ) ( وسكت الأوزاعي ) في ذلك المقام على طريق الإلزام أو قطعا للمنازعة والخصام قال ابن الهمام فترجح الإمام بفقه الرواة كما رجح الأوزاعي بعلو الإسناد وهو المذهب المنصور عندنا انتهى .
فمن زعم أن ما أورده البخاري من صحيحه في بابه لم يبلغ أبا حنيفة وأصحابه خرج عن حد الانصاف ودخل في باب الاعتساف ثم مما يؤيد أكثر الفقه في مقام الترجيح ما ورد في الحديث الصحيح : " نضر الله امرء سمع منا شيئا وبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع " رواه أحمد والترمذي وابن حيان في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا وفي رواية رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .
هذا وروى الطحاوي ثم البيهقي من حديث الحسن بن عباس بسند صحيح عن الأسود وقال رأيت عمر بن الخطاب رفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود .
وروى الطحاوي وبسنده إلى علي Bه أنه رفع يديه في أول التكبير ثم لم يعد وأما ما في الترمذي عن علي أنه عليه السلام كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا [ قضى ] قراءته وأراد أن يركع ويصنعه إذا رفع من الركوع ولا يرفع يديه في شيء من الصلاة وهو قاعد وإذا قام من السجدتين رفع كذلك صححه الترمذي فمحمول على النسخ للاتفاق على نسخ الرفع عند السجود .
والحاصل أن الأخبار والآثار متعارضة فلا بد من الجمع بينهما بأن يقال : بسنية الأمرين كما قال بعضهم : وهو ظاهر أو يترجح أحد الجانبين فقد روى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال : ذكر عنده وائل بن حجر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرفع يديه عند الركوع وعند السجود : فقال أعرابي : لم يصل مع النبي صلى الله عليه وسلّم صلاة أدى قط فهو أعلم من عباد الله وأصحابه حفظ ولم يحفظوا وفي رواية بشرائع وقد حدثني من لا أحصي عن عبد الله أنه رفع يديه في بدء الصلاة فقط وحكاه عن النبي صلى الله عليه وسلّم وعبد الله عالم بشرائع الإسلام وحدوده متفقدة الأحوال النبي صلى الله عليه وسلّم وعبد الله عالم يلازم له في إقامته وأسفاره وقد صلى مع النبي صلى الله عليه وسلّم ما لا يحصى فيكون الأخذ به عند التعارض أولى إعاده صريحا لتقدم ذكر سفيان جملة معترضة .
_________ .
( 1 ) أي في رواية غير مشهورة والأشهر منه عدم الرفع كما في النووي وغيره قال في التعليقات الممجد وعلى عدم الرفع جمهور أصحاب مالك C .
( 2 ) فرجح الإمام الأوزاعي أن حديث الرفع بعلو الإسناد ورجح الإمام الأعظم بفقه الرواة وهذا هو المقرر في أصول الحنفية وأجاب من هذا في مسك الختام أن عند أهل الرفع طرق أخرى سوى إسناد الأوزاعي قول أما أولا إن عند الحنفية أيضا طرق عديدة لثبوت عدم الرفع وثانيا إذا كان الدليل الواحد أقوى وأرجح وأوثق فلا يضعفه كثرة الدلائل من الجانب المقابل وإن شئت زيادة تحقيق هذه المسألة فارجع إلى رسالتي ( قريرة العينين بتحقيق رفع اليدين )