الحديث الرابع والثلاثون .
[ عن أبي سعيد الخدري Bه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] رواه مسلم .
أورد مسلم هذا الحديث عن طارق بن شهاب قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال : الصلاة قبل الخطبة فقال : قد ترك ما هناك فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه : سمعت رسول الله A يقول : [ من رأى منكم منكرا فليغيره إلى آخره ] وفي هذا الحديث دليل على أنه لم يعمل بذلك أحد قبل مروان .
فإن قيل : كيف تأخر أبو سعيد عن تغيير هذا المنكر حتى أنكره هذا الرجل ؟ قيل : يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرا أول ما شرع مروان في تقديم الخطبة وأن الرجل أنكره عليه ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام ويحتمل أنه كان حاضرا لكنه خاف على نفسه إن غير : حصول فتنة بسبب إنكاره فسقط عنه الإنكار ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار فبدره الرجل فعضده أبو سعيد والله أعلم وقد جاء في الحديث الآخر الذي اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجاه في باب صلاة العيدين : أن أبا سعيد هو الذي جذب بيد مروان حين أراد أن يصعد المنبر وكانا جميعا فرد عليه مروان بمثل ما رد هنا على الرجل فيحتمل أنهما قضيتان وأن قوله [ فليغيره ] فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة وقد تطابق الكتاب والسنة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين وأما قوله تعالى : { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } فليس مخالفا لما ذكرنا لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية الكريمة أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به لا يضركم تقصير غيركم مثل قوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وإذا كان كذلك فمما كلف به المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول والله أعلم .
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقي وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر ويقصر قال العلماء : ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يقبل في ظنه بل يجب عليه فعله قال الله تعالى { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وقد تقدم أن عليه أن يأمر وينهى وليس عليه القبول قال الله تعالى { ما على الرسول إلا البلاغ } قال العلماء : ولا يشترط في الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر أن يكون كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه بل عليه الأمر وإن كان مرتكبا خلاف ذلك لأنه يجب عليه شيئان : أن يأمر نفسه وينهاها وأن يأمر غيره وينهاها فإذا أخذ بأحدهما لا يسقط عنه الآخر قالوا : ولا يختص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأصحاب الولاية بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين وإنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه فإن كان من الأمور الظاهرة مثل الصلاة والصوم والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك فكل المسلمين علماء بها وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالإجتهاد ولم يكن للعوام فيه مدخل فليس لهم إنكاره بل ذلك للعلماء والعلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن على أحد المذهبين : أن كل مجتهد مصيب وهو المختار عند كثير من المحققين وعلى المذهب الآخر : أن المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم موضوع عنه لكن على جهة النصيحة للخروج من الخلاف فهو حسن مندوب إلى فعله برفق .
قال الشيخ محي الدين C : واعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعذاب قال الله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } فينبغى لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضى الله D أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فإن الله تعالى قال : { ولينصرن الله من ينصره } واعلم أن الأجر على قدر النصب ولا يتركه أيضا لصداقته ومودته : فإن الصديق للإنسان هو الذي يسعى في عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه وعدوه من يسعى في ذهاب آخرته أو نقصها وإن حصل بسببه نفع في دنياه .
وينبغى للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون من ذلك برفق ليكون أقرب إلى تحصيل المقصود فقد قال الإمام الشافعي C تعالى : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه .
ومما يتساهل الناس فيه من هذا الباب : ما إذا رأوا إنسانا يبيع متاعا أو حيوانا فيه عيب ولا يبينه فلا ينكرون ذلك ولا يعرفون المشتري بعيبه وهم مسؤولون عن ذلك فإن الدين النصيحة ومن لم ينصح فقد غش وقوله A : [ فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ] معناه : فلينكره بقلبه وليس ذلك بإزالة وتغيير لكنه هو الذي في وسعه وقوله [ وذلك أضعف الإيمان ] معناه - والله أعلم - أقله ثمرة .
وليس للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر البحث والتفتيش والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن عثر على منكر غيره وقال الماوردى : ليس له أن يقتحم ويتجسس إلا أن يخبره من يثق بقوله أن رجلا خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزنى بها فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدركه .
قوله [ وذلك أضعف الإيمان ] قد ذكر أن معناه أقله ثمرة وقد جاء في رواية أخرى [ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ] أي لم يبق وراء ذلك مرتبة أخرى والإيمان في هذا الحديث بمعنى الإسلام .
وفي هذا الحديث دليل على أن من خاف القتل أو الضرب سقط عنه التغيير وهو مذهب المحققين سلفا وخلفا وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك