وقوله ( يبين الله لكم أن تضلوا ) امتنان وأن ( تضلوا ) تعليل ل ( يبين ) حذفت منه اللام وحذف الجار مع ( أن ) شائع . والمقصود التعليل بنفي الضلال لا لوقوعه ؛ لأن البيان ينافي التضليل فحذفت لا النافية وحذفها موجود في مواقع من كلامهم إذا أتضح المعنى كما ورد مع فعل القسم في نحو : .
" فآلينا عليها أن تباعا أي أن لا تباع وقوله : .
" آليت حب العراق الدهر أطعمه وهذا كقول عمرو بن كلثوم : .
نزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القرى أن تشتمونا أي أن لا تشتمونا بالبخل وهذا تأويل الكوفيين وتأول البصريون الآية والبيت ونظائرهما على تقدير مضاف يدل عليه السياق هو المفعول لأجله أي كراهة أن تضلوا وبذلك قدرها في الكشاف .
وقد جعل بعض المفسرين ( أن تضلوا ) مفعولا به ل ( يبين ) وقال : المعنى أن الله فيما بينه من الفرائض قد بين لكم ضلالكم الذي كنتم عليه في الجاهلية وهذا بعيد ؛ إذ ليس ما فعلوه في الجاهلية ضلالا قبل مجيء الشريعة لأن قسمة المال ليست من الأفعال المشتملة على صفة حسن وقبيح بينه إلا إذا كان فيها حرمان لمن هو حقيق بالمؤاساة والمبرة ولأن المصدر مع ( أن ) يتعين أن يكون بمعنى المستقبل فكيف يصح أن يراد ب ( أن تضلوا ) ضلالا قد مضى وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى ( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) في سورة الأنعام .
وعن عمر أنه كان إذا قرأ هذه الآية يقول " اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي " رواه الطبري وفي سنده انقطاع وقد ضعفوه .
وقوله ( والله بكل شيء عليم ) تذييل . وفي هذه الآية إيذان بختم الكلام كقوله ( هذا بيان للناس ولينذروا به ) الآية وكقوله تعالى في حكاية كلام صاحب موسى ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) . فتؤذن بختام السورة .
وتؤذن بختام التنزيل إن صح أنها آخر آية نزلت كما ذلك في بعض الروايات وإذا صح ذلك فلا أرى اصطلاح علماء بلدنا على أن يختموا تقرير دروسهم بقولهم ( والله أعلم ) إلا تيمنا بمحاكاة ختم التنزيل .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة المائدة .
هذه السورة سميت في كتب التفسير وكتب السنة بسورة المائدة : لأن فيها قصة المائدة التي أرسلها الحواريون من عيسى عليه السلام وقد اختصت بذكرها . وفي مسند أحمد بن حنبل وغيره وقعت تسميتها سورة المائدة في كلام عبد الله بن عمر وعائشة أم المؤمنين وأسماء بنت يزيد وغيرهم . فهذا أشهر أسمائها .
وتسمى أيضا سورة العقود : إذ وقع هذا اللفظ في أولها .
وتسمى أيضا المنقذة . ففي أحكام ابن الفرس : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سورة المائدة تدعى في ملكوت السماوات المنقذة " .
قال : أي أنها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب .
وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني " يقال : فلان لا يقرأ سورة الأخيار أي لا يفي بالعهد وذلك أن الصحابة Bهم كانوا يسمون سورة المائدة سورة الأخيار " . قال جرير : .
إن البعيث وعبد آل متاعس ... لا يقران بسورة الأخيار وهي مدنية باتفاق روي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية بعد سورة الممتحنة فيكون نزولها بعد الحديبية بمدة لأن سورة الممتحنة نزلت بعد رجوع رسول الله A إلى المدينة من صلح الحديبية وقد جاءته المؤمنات مهاجرات وطلب منه المشركون إرجاعهن إليهم عملا بشروط الصلح فأذن الله للمؤمنين بعدم إرجاعهن بعد امتحانهن .
روى ابن أبي حاتم عن مقاتل أن آية ( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد إلى عذاب أليم ) نزلت عام الحديبية فلعل ذلك الباعث للذين قالوا : إن سورة العقود نزلت عام الحديبية . وليس وجود تلك الآية في هذه السورة بمقتض أن يكون ابتداء نزول السورة سابقا على نزول الآية إذ قد تلحق الآية بسورة نزلت متأخرة عنها .
وفي الإتقان : إنها نزلت قبل سورة النساء ولكن صح أن آية ( اليوم أكملت لكم دينكم ) نزلت يوم عرفة في عام حجة الوداع . ولذلك اختلفوا في أن هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرقة ولا ينبغي التردد في أنها نزلت منجمة