( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم [ 165 ] ) يظهر أن هذا دليل على إمكان البعث وعلى وقوعه لأن الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبقها فعمروا الأرض جيلا بعد جيل لا يعجزه أن يحشرها جميعا بعد انقضاء عالم حياتهم الأولى ثم إن الذي دبر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظالمون فائزين بما جنوا وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظالمين فكيف يترك إثابة المحسنين وقد أشار إلى الشق الأول قوله : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) وأشار إلى الشق الثاني قوله : ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ) ولذلك أعقبه بتذييله : ( إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) .
فالخطاب كوجه إلى المشركين الذين أمر الرسول E بأن يقول لهم : ( أغير الله أبغي ربا ) ؛ وذلك يذكر بأنهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك .
فموقع هذه عقب قوله : ( ثم إلى ربكم مرجعكم ) تذكير بالنعمة بعد الإنذار بسلبها وتحريض على تدارك ما فات وهو بفتح أعينهم للنظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها .
ويجوز أن يكون الخطاب للرسول E والأمة الإسلامية وتكون الإضافة على معنى اللام أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكت الأرض فأنتم خلائف للأرض فتكون بشارة الأمة بأنها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض . والمراد : الأمم ذوات الشرائع الإلهية وأيا ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنته لاستدعاء الشكر والتحذير من الكفر .
والخلائف : جمع خليفة والخليفة : اسم لما يخلف به الشيء أي يجعل خلفا عنه أي عوضه خليفة وخلفة فهو فعيل بمعنى مفعول وظهرت فيه التاء لنهم لما صيروه اسما قطعوه عن موصوفه .
وإضافته إلى الأرض على معنى ( في ) على الوجه الأول وهو كون الخطاب للمشركين أي خلائف فيها أي خلف ربكم أمما مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرسل في مخاطبة أقوامهم : ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ) ( عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) . والإضافة على معنى اللام على الوجه الثاني وهو كون الخطاب للمسلمين .
وفي هذا أيضا تذكير بنعمة تتضمن عبرة وموعضة : وذلك أنه لما جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأكم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم فهذه نعمة لأنه لو قدر بقاء الأمم التي قبلهم لما وجدوا هؤلاء .
A E وعطف قوله : ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله : ( جعلكم خلائف الأرض ) فهو أيضا عبرة وعظة لعدم الاغترار بالقوة والرفعة ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النعمة والسعي في زيادة الفضل لمن قصر عنها بالضعيف وإنصاف المظلوم .
ولذلك عقبه بقوله : ( ليبلوكم فيما آتاكم ) أي ليخبركم فيما أنعم به عليكم من درجات النعم حتى يظهر للناس كيف يضع أهل النعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبر عنها بالدرجات .
والدرجات مستعارة لتفاوت النعم . وهي استعارة مبينة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه .
والإيتاء مستعار لتكوين الرفعة في أربابها تشبيها للتكوين بإعطاء المعطي شيئا لغيره .
والبلو : الاخبار وقد تقدم عند قوله تعالى : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ) . والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنفع بمواهب الله وما يسره لها من الملائمات والمساعدات فالله يعلم مراتب الناس ولكن ذلك بلوى لأنها لا تظهر للعيان إلا بعد العمل أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات فهذا موقع لام التعليل وقريب منه قول إياس بن قبيصة الطائي : .
وأقبلت والخطي يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها وجملة : ( إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) تذييل للكلام وإيذان بأن المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة ( سريع العقاب ) وصفة ( الغفور ) ليناسب جميع ما حوته هذه السورة