وذهب جماعة منهم أبو عبيد وثعلب والأزهري وعزي لابن عباس أن المراد أنه أنزل مشتملا على سبع لغات من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لكن لا على تخيير القارئ وذهبوا في تعيينها إلى نحو ما ذهب إليه القائلون بالنسخ إلا أن الخلاف بين الفريقين في أن الأولين ذهبوا إلى تخيير القارئ في الكلمة الواحدة وهؤلاء أرادوا أن القرآن مبثوثة فيه كلمات من تلك اللغات لكن على وجه التعيين لا على وجه التخيير وهذا كما قال أبو هريرة : ما سمعت السكين إلا في قوله تعالى ( وآتت كل واحدة منهن سكينا ) ما كنا نقول إلا المدية وفي البخاري : إلا من النبئ في قصة حكم سليمان بين المرأتين من قول سليمان " ايتوني بالسكين أقطعه بينكما " وهذا الجواب لا يلاقي مساق الحديث من التوسعة ولا يستقيم من جهة العدد لأن المحققين ذكروا أن في القرآن كلمات كثيرة من لغات قبائل العرب وأنهاها السيوطي نقلا عن أبي بكر الواسطي إلى خمسين لغة .
وذهب جماعة أن المراد من الأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة والمد والقصر والهمز والتخفيف على معنى أن ذلك رخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن وهذا أحسن الأجوبة لمن تقدمنا وهنالك أجوبة أخرى ضعيفة لا ينبغي للعالم التعريج عليها وقد أنهى بعضهم جملة الأجوبة إلى خمسة وثلاثين جوابا .
وعندي أنه إن كان حديث عمر وهشام بن حكيم قد حسن إفصاح راويه عن مقصد عمر فيما حدث به بأن لا يكون مرويا بالمعنى مع إخلال بالمقصود أنه يحتمل أن يرجع إلى ترتيب آي السور بأن يكون هشام قرأ سورة الفرقان على غير الترتيب الذي قرأ به عمر فتكون تلك رخصة لهم في أن يحفظوا سور القرآن بدون تعيين ترتيب الآيات من السورة وقد ذكر الباقلاني احتمال أن يكون ترتيب السور من اجتهاد الصحابة كما يأتي في المقدمة الثامنة . فعلى رأينا هذا تكون هذه رخصة . ثم لم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله A حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله A فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب الرخصة .
ومن الناس من يظن المراد بالسبع في الحديث ما يطابق القراءات السبع التي اشتهرت بين أهل فن القراءات وذلك غلط ولم يقله أحد من أهل العلم وأجمع العلماء على خلافه كما قال أبو شامة : فإن انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل ولكنه أمر حصل إما بدون قصد أو بقصد التيمن بعدد السبعة أو بقصد إيهام أن هذه السبعة هي المرادة من الحديث تنويها بشأنها بين العامة ونقل السيوطي عن أبي العباس ابن عمار أنه قال : لقد فعل جاعل عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أن هذه السبعة هي المرادة في الحديث وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد عليها .
قال السيوطي : وقد صنف ابن جبير المكي " وهو قبل ابن مجاهد " كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة أئمة من كل مصر إماما وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار كانت إلى خمسة أمصار .
قال ابن العربي في العواصم : أول من جمع القراءات في سبع ابن مجاهد غير أنه عد قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي قال السيوطي وذلك على رأس الثلاثمائة : وقد اتفق الأئمة على أن قراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية السبعة وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة وإذ قد كان الاختلاف بين القراء سابقا على تدوين المصحف الإمام في زمن عثمان وكان هو الداعي لجمع المسلمين على مصحف واحد تعين أن الاختلاف لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيما عدا اللهجات .
وأما صحة السند الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه إذ قد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح كما ذكر في المزهر أن حماد بن الزبرقان قرأ ( إلا عن موعدة وعدها أباه ) بالباء الموحدة وإنما هي " إياه " بتحتية وقرأ ( بل الذين كفروا في غرة ) بغين معجمة وراء مهملة وإنما هي " عزة " بعين مهملة وزاي وقرأ ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه ) بعين مهملة وإنما هي " يغنيه " بغين معجمة ذلك أنه لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه من المصحف .
مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها