وقوله ( فإن الله كان بعباده بصيرا ) هو أيضا جواب عن سؤال مقدر أن يقال : ماذا جنت الدواب حتى يستأصلها الله بسبب ما كسب الناس وكيف يهلك كل من على الأرض وفيهم المؤمنون والصالحون فأفيد أن الله اعلم بعدله . فأما الدواب فإنها مخلوقة لأجل الإنسان كما قال تعالى ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) فإهلاكها قد يكون إنذارا للناس لعلهم يقلعون عن إجرامهم وأما حال المؤمنين في حين إهلاك الكفار فالله أعلم بهم فلعل الله أن يجعل لهم طريقا إلى النجاة كما نجى هودا ومن معه ولعله إن أهلكهم أن يعوض لهم حسن الدار كما قال النبي A " ثم يحشرون على نياتهم " .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة يس .
سميت هذه السورة يس بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور فصار منطوقهما علما عليها . وكذلك ورد اسمها عن النبي A .
روى أبو داود عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله A " اقرأوا يس على موتاكم " . وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير .
ودعاها بعض السلف ( قلب القرآن ) لوصفها في قول النبي A " إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس " رواه الترمذي عن أنس وهي تسمية غير مشهورة .
ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة 1078 أحسبه في بلاد العجم عنونها " سورة حبيب النجار " وهو صاحب القصة " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى " كما يأتي . وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سندا ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي " سورة التين " عنونها " سورة الزيتون " .
وهي مكية وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال " إلا أن فرقة قالت قوله تعالى ( ونكتب ما قدموا وآثارهم ) نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول A فقال لهم : " دياركم تكتب آثاركم " . وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة " اه .
وفي الصحيح أن النبي A قرأ عليهم " ونكتب ما قدموا وآثارهم " وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ .
وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده الجعبري نزلت بعد سورة " قل أوحي " وقبل سورة الفرقان .
وعدت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين . وعدت عند الكوفيين ثلاثا وثمانين .
وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبي A " إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس . ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات " . قال الترمذي : هذا حديث غريب وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول . قال أبو بكر بن العربي : حديثها ضعيف .
أغراض هذه السورة .
التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة وبالقسم بالقرآن تنويها به وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام . والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد A وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة .
وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى .
ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام وتمثيل حالهم الشنيعة وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم .
وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش .
وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة .
ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا .
والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل .
وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد أخرى .
مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات