وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه في التشبيه بأن يشبه العذاب بالجيش وحلوله بهم بنزول الجيش بساحة قوم وما يلحقهم من ضر العذاب بضر الهزيمة ووقت نزول العذاب بهم بتصبيح العدو محلة قوم . قال في الكشاف " وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل " .
واعلم أن في اختبار هذا التمثيل البديع معنى من الإيماء إلى أن العذاب الذي وعدوه هو ما أصابهم يوم بدر من قتل وأسر على طريقة التورية .
( وتول عنهم حتى حين [ 176 ] وأبصر فسوف يبصرون [ 179 ] ) عطف على جملة ( فإذا نزل بساحتهم ) الآية لأن معنى المعطوف عليها الوعد بأن الله سينتقم منهم فعطف عليه أمره رسوله A بأن لا يهتم بعنادهم .
وهذه نظير التي سبقتها المفرعة بالفاء فلذلك يحصل منها تأكيدا نظيرتها على أنه قد يكون هذا التولي غير الأول وإلى حين آخر وإبصار آخر فالظاهر أنه تول عمن يبقى من المشركين بعد حلول العذاب الذي استعجلوه فيحتمل أن يكون حينا من أوقات الدنيا فهو إنذار بفتح مكة . ويحتمل أن يكون إلى حين من أحيان الآخرة وإنما جعل ذلك غاية لتولي النبي A عنهم لأن توليه العذاب عنهم غاية لتولي النبي A عنهم لأن توليه عنهم مستمر إلى يوم القيامة فإن مدة لحاق النبي A بالرفيق الأعلى لما كانت متصلة بتوليه عنهم جعلت تلك المدة كأنها ظرف للتولي ينتهي بحين إحضارهم للعقاب فيكون قوله ( إلى حين ) مرادا به الأبد .
وحذف مفعول ( وأبصر ) في هذه الآية لدلالة ما في نظيرها عليه .
( سبحان ربك رب العزة عما يصفون [ 180 ] وسلام على المرسلين [ 181 ] والحمد لله رب العالمين [ 182 ] ) A E خطاب النبي A تذييلا لخطابه المبتدأ بقوله تعالى ( فاستفتهم ألربك البنات ) الآية . فإنه خلاصة جامعة لما حوته من تنزيه الله وتأييده رسله . وهذه الآية فذلكة لما احتوت عليه السورة من الأغراض جمعت تنزيه الله والثناء على الرسل والملائكة وحمد الله على ما سبق ذكره من نعمة على المسلمين من هدى ونصر وفوز بالنعيم المقيم .
وهذه المقاصد الثلاثة هي أصول كمال النفوس في العاجل والآجل لأن معرفة الله تعالى بما يليق به تنقذ النفس من الوقوع في مهاوي الجهالة المفضية إلى الضلالة فسوء الحالة . وإنما يتم ذلك بتنزيهه عما لا يليق به . فأشار قوله ( سبحان ربك ) الخ إلى تنزيهه وأشار وصف ( رب العزة ) إلى التوصيف بصفات الكمال فإن العزة تجمع الصفات النفسية وصفات المعاني والمعنوية لأن الربوبية هي كمال الاستغناء عن الغير ولما كانت النفوس وإن تفاوتت في مراتب الكمال لا تسلم من نقص أو حيرة كانت في حاجة إلى مرشدين يبلغونها مراتب الكمال بإرشاد الله تعالى وذلك بواسطة الرسل إلى الناس وبواسطة المبلغين من الملائكة إلى الرسل .
وكانت غاية ذلك هي بلوغ الكمال في الدنيا والفوز بالنعيم الدائم في الآخرة . وتلك نعمة تستوجب على الناس حمد الله تعالى على ذلك لأن الحمد يقتضي اتصاف المحمود بالفضائل وإنعامه بالفواضل وأعظمها نعمة الهداية بواسطة الرسل فهم المبلغون إرشاد الله إلى الخلق .
و ( رب ) هنا بمعنى : مالك . ومعنى كونه تعالى مالك العزة : أنه منفرد بالعزة الحقيقية وهي العزة التي لا يشوبها افتقار فإضافة ( رب ) إلى ( العزة ) على معنى لام الاختصاص كما يقال : صاحب صدق لمن اختص بالصدق وكان عريقا فيه . وفي الانتقال من الآيات السابقة إلى التسليح والتسليم إيذان بانتهاء السورة على طريقة براعة الختم مع كونها من جوامع الكلم .
والتعريف في ( العزة ) كالتعريف في ( الحمد ) هو تعريف الجنس فيقتضي انفراده تعالى به لأن ما يثبت لغيره من ذلك الجنس كالعدم كما تقدم في سورة الفاتحة .
وتنكير ( سلام ) للتعظيم .
ووصف ( المرسلين ) يشمل الأنبياء والملائكة فإن الملائكة مرسلون فيما يقومون به من تنفيذ أمر الله