فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضا سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ثم استقر أمرهم على الإنكار .
ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه على طريقة استعمال فعل " يحذر " في قوله تعالى ( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة ) فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء .
وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين يرجح كل فريق ما ذهب إليه . والوجه حمل الآية على كلتيهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب فعن ابن عباس " لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم فمنهم مصدق ومنهم مكذب " .
وعن الحسن وقتادة مثل قول ابن عباس وقيل هو سؤال استهزاء أو تعجب وإنما هم موقنون بالتكذيب .
A E فأما التساؤل الحقيقي فأن يسأل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ فيسأل المسؤول سائله سؤالا عن حال آخر من أحوال النبأ إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غير الذي خطر للآخر فيسأل سؤال مستثبت أو سؤال كشف عم معتقده أو ما يوصف به المخبر بهذا النبأ كما قال بعضهم لبعض ( افترى على الله كذبا أم به جنة ) وقال بعض آخر ( أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون ) إلى قوله ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) .
وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضا عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء فيقول أحدهم : هل بلغك خبر البعث ؟ ويقول له الآخر : هل سمعت ما قال ؟ فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة وقصدهم منه غير حقيقي بل تهكمي .
والاستفهام بما في قوله ( عم يتساءلون ) ليس استفهاما حقيقيا بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ) .
والموجه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين .
وضمير يتساءلون يجوز أن يكون ضمير جماعة الغائبين مرادا به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره وإشاراته المبهمة كالضمير في قوله تعالى ( حتى توارت بالحجاب ) " يعني الشمس " ( كلا إذا بلغت التراقي ) ( يعني الروح ) فإن جعلت الكلام من باب الالتفات فالضمير ضمير جماعة المخاطبين .
ولما كان الاستفهام مستعملا في غير طلب الفهم حسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله ( عن النبأ العظيم ) فجوابه مستعمل بيانا لما أريد بالاستفهام من الإجمال لقصد التفخيم فبين جانب التفخيم ونظيره قوله تعالى ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ) فكأنه قيل هم يتساءلون عن النبأ العظيم ومنه قول حسان بن ثابت : .
لمن الدار أقفرت بمعان ... بين أعلى اليرموك والصمان .
3ذ - اك معنى لآل جفنة في الدهر ... وحق تقلب الأزمان والنبأ : الخبر قيل مطلقا فيكون مرادفا للفظ الخبر وهو الذي جرى عليه إطلاق القاموس والصحاح واللسان .
وقال الراغب : " النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقا " اه . وهذا فرق حسن ولا أحسب البلغاء جروا إلا على نحو ما قال الراغب فلا يقال : للخبر عن الأمور المعتادة نبأ وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعوا ما يقع في بعض كلام الناس من تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر لضرب من التأويل أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد فكثر ذلك في الكلام كثرة عسر معها تحديد مواقع الكلمتين ولكن أبلغ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدق مواقع الاستعمال . وتقدم عند قوله تعالى ( ولقد جاءك من نبأ المرسلين ) في سورة الأنعام وقوله ( قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ) .
والعظيم حقيقته : كبير الجسم ويستعار للأمر المهم لأن أهمية المعنى تتخيل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدكرها كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة .
ووصف ( النبأ ) ب ( العظيم ) هنا زيادة في التنويه به لأن كونه واردا من عالم الغيب زاده عظمة أوصال وأهوال فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وصف فيه من أحوال البعث في ما نزل من آيات القرآن قبل هذا . ونظيره قوله تعالى ( قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ) في سورة ص